النقد المسرحي وأسئلة الغياب والتغييب/ د. هشام زين الدين
يلاحظ المتابع لما يجري على الساحة المسرحية العربية الغياب غير المبرر للحالة النقدية الجادة التي تعتبر من أهم العناصر التي تكمِّل العملية الابداعية في المسرح كما في غيره من أنواع الفنون، ويعود سبب هذا الغياب أو التغييب ربما، إلى ارتباط عملية النقد كعامل مؤثر في تكوين الحالة المسرحية الجادة والموضوعية بمدى تقبُّل العاملين في الحقل المسرحي لها، حيث يتم التعاطي معها من زاويتي المدح والذم وليس من زاوية تقييم العمل بسلبياته وايجابياته، ولعل ذلك مرتبط بمكونات شخصية الفرد الفكرية والفنية والنفسية في عالمنا العربي، التي لم تتعوَّد ولم تتكيف مع مبدأ النقد ذاته ومع مفهومه الذي يهدف إلى تطوير الممارسة الابداعية وتصويبها والاضاءة على مكامن الخلل فيها تماماً كما الإضاءة على الإشراقات والإضافات الابداعية المتميزة. بعيداً عن التعميم الكامل ومع الاعتراف بوجود محاولات نقدية تخطها أقلام جريئة بين الحين والآخر، وإن كانت خجولة، لا يبدو المشهد النقدي مُرْضِياً، بحيث يغلب على عملية النقد للاعمال المسرحية التي تُقدم على المسارح المحلية في البلدان العربية أم في المهرجانات الطابع الترويجي الممزوج بالرغبة في بناء شبكة علاقات خاصة، يستفيد منها أصحاب العلاقة لناحية تأمين مشاركاتهم في فعاليات مسرحية أو ربما حصولهم على امتيازات وعلى مصالح مادية ومعنوية معينة.
هذا الواقع المَرَضي (بفتح الميم والراء) وبدون أدنى شك يؤثر سلباً على محاولات التطوير والتحديث التي يصبو إليها كل المسرحيين والمبدعين “الحقيقيين” في العالم العربي، انطلاقاً من إيمانهم بأن النقد الجاد والموضوعي هو جزء لا يتجزأ من المشهد الابداعي المسرحي، وهو المرآة الصادقة التي يرى فيها المبدع نفسه كما هي، من دون رياء أو تضليل كما يمثل النقد الحقيقي الموضوعي أداء قياس لمستوى الابداع المسرحي في زمان ومكان معينين.
إن حاجتنا إلى هذا النوع من النقد تفترض تحلّينا جميعاً بالجرأة في تقبّل الرأي الآخر بموضوعية، وعدم الخلط بين عملية تقييم الأعمال المسرحية كابداعات فردية إنسانية قابلة للخطأ وسوء التقدير وعدم التوفيق ورداءة النوعية من جهة، وبين انتماءات أصحابها القومية والعرقية والوطنية والدينية من جهة أخرى، فإذا تعرض عمل مسرحي من بلد عربي معين لنقد بناء وموضوعي فهذا لا يعني أن عَلَم هذا البلد وشعبه هو المستهدف، والعكس صحيح، فإذا نال عمل ما ثناءً من قبل النقاد، فهذا لا يمنح القبيلة والمجتمع والنظام السياسي الذي ينتمي إليهم صناعه أو مبدعيه شهادة تميّز عن باقي الأمم والشعوب، وإذا ما طال النقد أحد المسرحيين المعروفين أو المشاهير على عمل فاشل لم يوفق في تقديمه للجمهور، وهذا يحصل، فهذا لا يجب أن يستدعي ردود أفعال تدافع عن الشخص وسيرته التاريخية التي لا تُمس ولا تخضع للنقد.
إن عملية النقد بشقيها، الناقد، والموضوع النقدي، هي تعبير عن مستوى الوعي الفردي والجماعي للبيئة التي تحصل فيها، فكلما ارتقت هذه العملية من خلال تقبل أطرافها لها ولنتائجها ومن طريق إبعادها عن التفسيرات الذاتية المضلّلة، كان ذلك مؤشراً على تقدُّم وحضارة، وكلما غَرقت أو أُغرقت هذه العملية في مستنقعات النرجسية وعقد الصفقات والتطبيل والتزمير أو التحقير والتشهير من غير مبرر، كان ذلك مؤشراً على التخلف والرجعية.
تقام في غالبية المهرجانات المسرحية العربية جلسات نقدية تقارب مواضيع أو أعمال مسرحية لكننا نلاحظ جميعاً غياب الاهتمام الفعلي بها، بحيث تتحوَّل إلى طقوس شكلية لا طعم لها ولا فائدة، وتبدو في بعض الأحيان لزوم ما لا يلزم، ولا يعود سبب العزوف عن المشاركة فيها إلى عدم أهمية المواضيع المطروحة، بل إلى غياب الثقافة النقدية القائمة على مبدأ حواري تفاعلي أصلاً، هو مبدأ الرأي والرأي المقابل، وجدلية النقاش والتفاعل التي تؤدي إلى التكامل في رسم الصورة ووضوحها وبالتالي الاستفادة من نتائجها، إن عدم إدراك عذا الدور للعملية النقدية من قبل المسرحيين أنفسهم يفقدها أهميتها وفعاليتها، خصوصاً أن جُلّهم يعتقد أنه ليس بحاجة إليها.
هذا الواقع المأزوم إن صح التعبير، يدل على أننا جميعاً بحاجة ماسة إلى إعادة بناء قناعاتنا وطرائق تفكيرنا على أسس علمية ثقافية حضارية، غير شوفينية وغير نرجسية، والبداية تكون من اعترافنا بأهمية العملية النقدية في تشكيل ذواتنا الابداعية، وفي تكاملية العلاقة بين الأنا والآخر، وتفاعل الأفكار وتنوعها، وأهمية تعدد زوايا النظر إلى الموضوع الواحد.
بعيدا عن التعميم ولكي نرصد الواقع أكثر، ولكي نكون عملانيين أستشهد بنموذج من الحوار الذي يتبادله المسرحيون وغالبيتنا تشارك فيه بنسب متفاوتة على صفحات التواصل الاجتماعي، وهذا النموذج يمكن دراسته كمؤشر من بين مؤشرات أخرى لاستشراف الرأي العام المسرحي في نظرته إلى النقد، ودوره ووظيفته وإشكالياته.
نقرأ على صفحة أحدى الزميلات ال”ستاتوس” التالي: “غياب النقد المسرحي المتخصص، واستبعاد المختصين الحقيقيين في شتى ميادين المسرح ،أدى إلى الإجترار والدوران في حلقات مفرغة لا تقدم جديدا بل تقليدا” .
وتنوعت المشاركات والمداخلات بحسب الآتي:
⁃ وسيبقى هذا الدوران طالما استمر الاستبعاد.
⁃ هذا ما يريده صاحب المحل
“لا يوجد عندنا نقد ولا نقاد عرباً”، كثيراً ما نسمع هذه الجملة أو نقرأها. ولا أدري من أين ينطلق من يرددها، وشخصياً أرى أنه حكم مجحف. ولكني أتذكرها، حين أرى ناقداً يغادر منطقة الحياد والموضوعية، ويكشف عن جانبه المتسلق والطبال، أو جانبه الذي يستخدم سلاح النقد لتصفية حسابات شخصية.
⁃ أصبحنا نعرف مسبقا ما سيقال بعد كل عرض ⁃ طالما ينظر الى النقد بأنه شر لابد منه كزينة فقط سيظل الأمر هكذا
⁃ انحطاط الواقع السياسي الذي نعيشه يعكس نفسه على كافة الأصعدة ويزداد في ظلِّه عدد المتطفلين في جميع المجالات
⁃ النقد صار كمالة عدد، به ومن دونه الأمور ماشية. عجبي
⁃ دائمًا المشكلة نفسها والشخص غير المناسب يحلّ محلّ الشخص المناسب!!
⁃ كثير منهم نجدهم يتحدثون على منصات النقد ومدعو بصفة ناقد او باحث لكنه عمره لم يكتب شيئا او عمرنا لم نقرأ له شيئا …
⁃ وكانت مشاركتي في هذا الحوار هي التالية: تفيد المراجع التاريخية، أن الرائد مارون النقاش في أول مسرحية له “البخيل” وضع حفرة للملقن في مقدمة المسرح ولم يكن عنده ملقن، لأن ذلك معتمد في المسارح الأوروبية، أعتقد أن حال النقد المسرحي عندنا يشبه حفرة الملقن.
قد تقصدت نقل الآراء العفوية الواردة كتعليقات على فكرة أو تساؤل حول النقد المسرحي في وسائل التواصل الاجتماعي لكي أؤشر إلى أن هناك تغيير ما قد حصل في وسائل التعبير عن الرأي بشكل عام والرأي النقدي خصوصاً، هذا با يعني أنني أبشر بقدوم عصر النقد الالكتروني وهو بات موجوداً أصلاً، بل يعني أن الأثر الأقوى للنقد أصبح مواكباً للتكنولوجيا كوسيط مؤثر في تكوين الرأي وتحديد المواقف من المواضيع المطروحة، وهذا التحول يفرض علينا إعادة النظر في وسائل وآليات النقد المستخدمة سابقاً، إذ أن الهدف هو الوصول الى عقل المتلقي واحساسه لإحداث تغيير ما في المسلمات والموروثات والمكتسبات والتي تتغير وتتحول بشكل مستمر.
ملاحظة: هذا البحث شارك به ( الدكتور هشام زين الدين – لبنان) بالندوة الفكرية التي حملت عنوان: ” النقد في المسرح العربي بين الحضور و الغياب” بمهرجان الكويت المسرحي العشرون (10 ـ 18 ديسمبر 2019)