"نزلوا على سلامتكم" عرض متوهج بصرخة أنثى ضد وجوديتها الإشكالية/ عزيز ريان
المخرجة نعيمة زيطان تعود بعرض مسرحي إلى مسقط رأسها شفشاون بعرض نزلوا على سلامتكم
بطاقة تقنية للعرض:
عنوان العرض:نزلو على سلامتكم
نص وإخراج: نعيمة زيطان
تشخيص:جميلة الهوني،عادل أباتراب وعصام الدين محرم
سينوغرافيا: يوسف العرقوبي
الموسيقى” جواد الأجناد
العلاقات العامة: عبد الله عدوي
بدعم من وزارة الثقافة والشباب والرياضة بالمغرب(قطاع الثقافة)قدمت فرقة الأكواريوم عرضها على خشبة دار الشباب بمدينة شفشاون وذلك يوم 8 دجنبر 2019 على الساعة السابعة ونصف.
النص والحكاية العجائبية:ترى لو حًمَلَ –خيالا- الرجل؟
بحبكة درامية بسيطة (سهلة ممتنعة) لكنها مبدعة تحكي القصة حكاية رجلين ينتظران مولودهما وقد أبدلا دورهما الطبيعي فصارا عوض المرأة. تظهر علامات الحمل عليهما وكأنهما في رحلة طيران فنرى ما تعانيه المرأة من جراء حمل يصيبها الكثير من العياء البدني والنفسي.إذن العرض تحسيسي أصلا،لكنه لا يسقط في المباشرة ولا في الوعظية. يسقط المتفرج في فخه ويحضنه كي يطرح أسئلة كبرى في الوجود وفي معاناة المرأة في كل شيء.
نجحت نعيمة أن تكتب وتعد عرضا بشاعرية تختلط محتوياته بالألم والأمل والسخرية السوداء الراقية. سخرية من الرجل،من المرأة، من الأطباء، من التربية، من المستقبل..فالفنانة نعيمة تساءل دوما المعتقدات والعادات والأحكام المسبقة والتمييز داخل مجتمعنا.
الإخراج الذكي أو المدرسة(الزيطانية) الحداثية:
لم يعد الإخراج المسرحي حاليا مجرد نسق متكامل من المعلومات،بل نسق يفيض بالإبداع والخلق الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بمتغيرات المجتمع.
لا شك أن نعيمة تعتبر من رائدات الإخراجي النسوي بالمغرب بالمشهد المسرحي المعاصر، وحققت مدرستها الخاصة في جماليات الميزونسين الحداثي. وهي مخرجة دوما تثير الكثير من الاسئلة لأنها تختار مواضيعها بعناية وذكاء دوما. تنبش في المسكوت عنه وتصطدم بكل التخلف والجهل بهذا العالم الذي يحيط بها.
المخرجة كانت ساحرة خفية عن المتفرج الذي تملك بيدها خيوط المسرح المعقدة (كلها ذلك المطلق للإرادة الإبداعية الخلاقة عند فناني المسرح وليس لمن يمارسه)، ثم هي كذلك الفنانة التي أعطت للعرض المسرحي طله طابعا ولونه ونغمته الخاصة كما عند أليكسي بوبوف.
تجمع زيطان بين تيمة الطبيعة والواقعية ،ففي الطبيعية اعتمدت على “الذاتية” باعتبارها إمرأة ومناضلة في مجال حقوق المرأة، وهو أسلوب أصيل مع الإنسان في مجالي التحليل النفسي وسيكولوجية العقل الباطن من جهة الممثل.
وتهتم بالجمهور الواقع في دائرة الوعي فله دور يملي عليه ضرورة التفكير حيال الخلجات الداخلية للشخصيات التي تثير قدرا كبيرا من الاهتمام. تُرغمنا كجمهور على أن نفكر،ونشعر بهذه الشخصيات ولكن ليس بما تقول فقط بل بما تفعل.
لعبت نعيمة كمعدة ومخرجة للعرض على عنصر الصراع الذي يحتوي على نوع هام من البحث في الداخل وإذا قمنا بالتفكير في الصراع فإنما نفكر وكأنه يتكون من سلسلة من المقابلات والأضداد ومهما يكن فالأضداد في الطبيعة مرواغة ومتهربة. الصراع هنا بين الرجل والمرأة،بين الأباء والأبناء…
وتشابك الحوار(الديالوج) عندها بشكل فعال في فضح الشخصيات وفي تأسيس جو نفسي معقد وكاريكاتوري في ما يعرف بتبادل الأدوار بين الجنسين.كما ساهم الحوار بتلقائية وبشكل عقلاني طبيعي للاختيار أو التمحيص بين ثلاث شخصيات فوق الخشبة.
ولقد خططت المخرجة بذكاء للحركة المسرحية على الخشبة بشكل طبيعي وبوعي ذهني،حيث أن حركة الممثلين تخلتط بحركات شخوص في الحياة العادية. كما أن الإطار المسرحي(أو البروستيم) باعث داخلي على الحياة وباعث خارجي على المقاومة والنضال ضد الأفكار المسبقة بالمجتمع وضد الجهل المركب.
الديكور بقدر بساطته صمم بعناية على شكل تشكيلات بسيطة توحي بمكان غرائبي قد يكون الطائرة ربطا بالعنوان الذي ينبأ بوصول ما وضرورة النزول. قطع مرنة سهلت عملية تحرك الممثلين ووضوح الرسالة الكبرى للعرض. وعبر مواقف عادية متعلقة بالبشر في وضعيات الحمل الرجولي لنقف قليلا لنسائل كل شيء. الوجود،والخلق،والتربية،معاناة الحمل..فها أنا نحن داخل طائرة ما وداخل مستشفى ما أو عيادة.
لكن تصميم الإضاءة شكل إبداعا إضافيا ومكملا للسينوغراف اليعقوبي الذي نجح في اللعب على ثنائية الإظلام والضوء بشكل ذكي وتلامس الحمولة التحسيسية والساخرة التي يحملها العرض حتى وإن لم تساعده القاعة التي لم تجهز بوسائل تقنية مناسبة أو محترفة. اليعقوبي تمكن من ضبط سينوغرافيا العرض وبث فيها الكثير من البهاء والتنوع البصري.
وتيمة الواقعية بأسلوب المخرجة إخراجيا تظهر لنا، حيث جدلية التقسيم بين ماهو طبيعي وواقعي،ولا يبدو الأمر سهلا دائما خاصة في نفس المسرحيات الواقعية تستعير بالضرورة المعالجة الطبيعية والعكس صحيح.
جاءت الواقعية ثورة على الرومانسية والعاطفية،فهي نتاج العصر العلمي ومع تطور العلوم وتحدياتها،لخلق لون جديد من الدراما المسرحية أكثر صلة بالتغير الاجتماعي،فالواقعية لها أسلوب علمي عند تناولها لمظاهر الحياة المختلفة.
كما أن العرض شهد بشكل كاريكاتوري إشكالات فلسفية منمقة وغير واضحة لفئة ما بالجمهور يلقيها على مسامعنا الممثلين الثلاث عبر مكبر صوت كأنهما في خطاب سياسي أو رسمي. الفلسفة هنا مجال للمساءلة فلا أروع من تبسيط هذه الحياة وكفى. وهل آن الوقت للضحك على الفلاسفة الذين يبتعدون عن واقعهم ويبدأون في لوك مصطلحات وعبارات منمقة وبعينها لترمى في وجه جهل الكثير.
التمثيل الأدائي الواعي قاطرة لهدف أسمى وإشكالي أو التحسيس العقلاني:
أداء الممثلين الثلاث تميز بالتنويع في التشخيص المسرحي المرافق لكل مراحل العرض،والإتصال مع المتلقي في كل المراحل. فالعملية الاتصالية هي عبارة عن أفعال إرسالية لها أشكالها وصورها المختلفة على خشبة المسرح،لتسعى إلى تحقيق هدف وفكرة وتوازن ساخر لموقف الولادة أو الحمل المرفوق دوما بالأنثى،لتتخذ الأفعال الإرسالية للممثل أشكالا عديدة منها الإرسال اللفظي أو الصوتي،والإرسال الغير اللفظي. ويعد الإتصال اللفظي بين الممثلين،انموذجا فعالا للإتصال،والكلام بشكل عام هو أداء ذو كفاءة خاصة بالفرد،يأتي من تراكم استخداماتي لمعلومات أولية نابعة من النص،كألفاظ صوتية تخص مواقف درامية بعينها. وهو موقف يتحفز كلاميا من خلال التأثير المتبادل بين القائمين بالدور الكلامي وهم الممثلين،أثناء عملية الإتصال،والتأثير بين كل ممثل أو ممثلة مرسل وممثل أو ممثلة مستقبل،هو الإحساس أو الشعور الداخلي بانقطاع فعل الاتصال المسرحي التمثيلي أو استمراره.
وترى (كريستيفا ستوارت) أن عدد الكلمات التي يعالجها الدماغ خلال الدقيقة هو حوالي (500) كلمة،ويستطيع الفرد أن يتكمل حوالي(150) كلمة في الدقيقة الواحدة،وأما الفرق بين الرقمين والذي هو 350 كلمة فيمثل الكلمات الضائعة بين المرسل والمستقبل والناتجة عن انشغال المستقبل بأفكاره،الأمر الذي يؤدي إلى انقطاع خطوط الاتصال بينه وبين المرسل. وتسطرد كريستيفا قائلة، بأن بعض خبراء الاتصال يعتبر أن باستطاعة الإنسان أن يسمع في الظروف العادية ما معدله 25 في المائة فقط بشكل فعال. بمعنى أن الإنسان لا يفهم أكثر من ربع الحديث الذي يتحدث به الآخر.وهذا ما كانت المخرجة والمعدة زيطان متنبهة إليه،حيث قامت بتكثيف المرسلة الصوتية،بما يتناسب وقدرات واستيعاب الممثلين والمتلقي،بعيدا عن الترهل الصوتي أو اللفظي،الذي يربك الفعل الإرسالي وضمان تأثيره بالمتلقي.فلا تفريط ولا إفراط في الحمولة الصوتية،بل أمر بين أمرين،بغية التأثير والإقناع بين الممثلين وبين الجمهور. فالممثل المعروف أباتراب نجح في نقل كل تفاصيل شخصيته بشكل مميز نظرا لقدرته الأدائية وتمرسه المسرحي.
وبالنظر لقيمة كل ممثل الفنية،فلقد أبانوا عن تواصل واتصال لفظي فعال عبر المراحل الآتية:
- الأحداث والمواقف الدرامية،وهي مصادر حسية تخدم كل ممثل كإجراء أولي للتحفيز الكلامي.
- أيهما يتحفز عن الممثل من خلال عينيه أو أذنيه،أو الأعضاء الحسية الأخرى،وما هي نتائجها.
- الإسهامات العصبية التي تنتقل نحو عقل كل ممثل ومن العقل تنتقل إلى العضلات والأوتار،لتولد التوترات أو الشعور الأدائي.
- يبدأ الممثل بترجمة هذا الشعور إلى كلام وفق صيغ فعلية تعود عليها بالتمارين المسرحية،بشرط مخالطتها بالتفكير الخلاق.
- يقوم الممثل باختيار العبارات من النص كصيغ أدائية.
- تكون عينا الممثل وأذناه،مشغولتان بالموجات الصوتية والضوئية على خشبة المسرح. والذي يترتب على ذلك انتقال الموجات الصوتية للمثل عبر تمثلات عصبية وتنعكس على عضلاته وأوتاره وشعوره.
- يترجم كل شخص هذا الشعور والتصورات إلى كلمات وفق صيغ أدائية فعلية.
- يختار الممثل عبارات وكلمات ويتصرف وفق فهمه لها.
ويمكن التعرف على الفعل الارسالي للممثل حينما نفهم مضمونه الاجتماعي الواضح بعرض نعيمة. وهي عملية اتصال في رسالة الأداء التي تعتمد على الايحاء أو الإشارة،أي اللغة المنطوقة،أو الرموز والإشارات أو الأفعال الأدائية للمثلين فوق الركح. ولا يمكن للاتصال التشخيصي أن يكون فاعلا ومؤثرا إلا بتحقق السلوك التصالي الناتج عن تبادل المعنى،الذي يكون أحيانا بصريا أو سمعيا أو حركيا أو ضمنيا أحيانا أخرى. ولهذا يمكن تحديد الفعل الإرسالي للممثل بأنه عملية ارسال وتبادل الرسائل الواضحة بعرض: نزلوا على سلامتكم،لإحداث الفهم. وهذا ينتج عنه ضبطا وتحكما بخبرة الآداء التعبيري،بوصفه سلوكا جديدا يمر به الممثل،أثناء اتصاله بالموجودات المادية والبشرية وهي ما يمكن تسميتها بالممكنات الموقفية المكونة للمشهدية في هذا العرض الهام.
ختاما،برغم ظروف القاعة التي لا تملكها المدينة عادت المخرجة بعمل فني راقي مثير يستحق عبره أن تصرخ هي والكثيرين بالمدينة التي تملك كل شيء في مجال المسرح إلا قاعة مخصصة ومحترفة.