العولمة بوصفها اختزال فكري وبصري لرؤانا المسرحية .. إشكالات وتحديات / بقلم : يوسف الحمدان

مقدمة ..
إن الإعلام الجديد أو النيو ميديا، تمكن من أن يعيد تكوين الإعلام التقليدي والمحترف، الورقي والصوتي والبصري، وأن ينشئ ويدشن منصات لعبة جديدة تمكنت من أن تعيد صوغ رقعة الشطرنج ولاعبيها، وأن تتملك بيادقها الرئيسية والفاعلة والمؤثرة، وأن تضبب كل المساحات الواضحة قبلا في الإعلام المعهود سابقًا، وأن تشكل إعلامًا يتجاوز حالة المركزية الرسمية المعروفة، إلى الإعلام الجماهيري الشعبي المتاح والموظف في غالب الأحيان من قبل جهات تتملك القدرة في إدارة اللعبة وقواعدها.
إن وسائل الاتصال الجديدة تمكنت أيضا من صناعة الخطاب بشتى أشكاله وأنواعه ، وأصبح هذا الخطاب هو من يوجه ويحدد أولويات مطالب واهتمامات الرأي العام، وهنا يكمن فخ اللعبة وشراكها وأحابيلها لدى اللاعبين والعازفين على أوتارها حيث يصبح هذا الخطاب مستثمرًا لخلق أحلام وأوهام وتخيلات في رؤوس ونفوس هذا الرأي العام.
وإذا كان الإعلام التقليدي يتكئ في مجمله على طرق اتصالية واحدة وأحادية التوجه والتوجيه، فإن النيو ميديا أو وسائل الاتصال الاجتماعي الآن تملكت من التوسع الرقمي ما يحرج كل تقنيات هذا الإعلام التقليدي، بل ويضعه على حافة الإزاحة المطلقة، أو التهميش المطلق.
إن الخيارات الإعلامية الجديدة، أصبحت متسعًا لحوارات ومشاركات تفاعلية متعددة، معضدة بالكلمة والصورة والفيلم والصوت، مثل الفيسبوك والتويتر واليوتيوب والسناب شات وكل مكتشفات الديجيتال، والتي صار من شأنها أن تنفتح على عالم يصعب ضبطه رقابيًا اليوم، كما أنه قادر على مصاحبتك حتى في أحلامك ، وللفنون جميعها بلا استثناء نصيب كبير من هذه الخيارات ، بل أنها أصبحت أحد أهم المنتجين والمستثمرين لها ، بل أنها أصبحت ضرورة إعلامية وفنية بإمكانها أن تصوغ خطابًا مغايرًا وقادرًا على الاستمرار والتأثير، وخاصة بين شبابنا الذين تشكلت أناملهم وعقولهم ونفوسهم من هذه الماكينة النووية وتقنياتها المتعددة .
المسرح في قلب التحديات ..
وهنا نكون في قلب التحديات ، خاصة ما إذا اتصل هذا الإعلام الرسمي بتقنياته الحديثة الهائلة بالمسرح ، كونه الفضاء الذي يستقطب كافة الممكنات البصرية ويعيد صوغها وفقا لرؤية يكون الجسد الحي حاضرا فيها وشريكا في إنتاجها ، بوصفه خطابا متحركا ، ذلك أن التقنيات البصرية هي في حد ذاتها لا تنفصم عن كونها مشهديات وسائطية ، كالتلفزيون والسينما والغرافيك ، ويمكن توظيفها في المشهد المسرحي الحي  ، ولا ينبغي علينا تعاطيها بوصفها حالة زائدة في أو على هذا المشهد ، فهي رافد ثقافي وفني وفكري ضروري لحراك مسرحي ممتد ومتنام وكوني يتجاوز حدود المفردات التقليدية المتعاطاة في مسرحنا الخليجي والعربي .
فهل يمكن قبول الحديث عن العولمة والفضائيات والإنفجار المعلوماتي والعصرنة وتجليات الحداثة وما بعدها وبعد الدراما كتحديات ينبغي على مسرحنا مواجهتها وهو لا يزال غارقا في إشكاليات ضرورة حسمها من عدمه ؟ هل يمكن الحديث عن التكنولوجيا في مسرحنا العربي في ظل غياب منتجها ، إذا ما استثنينا بعض التجارب المبدعة في هذا الشأن ، وهي نادرة وفريدة حقا في مسرحنا العربي ؟
لماذا تشكلت هذه المفارقة الغريبة واللا مقبولة في زمن يقتضي من أهل البوصلة الإعتراكية مد جسور الرؤية بفاعلية إلى المتجدد والمتغير والمتحدي بلا هوادة في هذا الكون ؟
هناك تجارب مسرحية  تطفو على السطح ولكنها سرعان ما تنحسر وتتلاشى ، هناك تجارب تدفعنا لأن نضع أيدينا على قلوبنا باستمرار خشية أن نفقدها لأسباب تتعلق بعزل المستثنى من مجتمع ظاهرة التغييب للمسرح وغيابه ..
وإذا ما استثنينا الجهود التي يبذلها بجدية وفاعلية صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة من أجل بلورة الهيئة العربية للمسرح والتي من خلالها نلمس اتصالا فاعلا بكل ما من شأنه الارتقاء بالحركة المسرحية في الخليج والوطن العربي ، تغذي المسرح بالورش وبالدعم وبالتوثيق والنشر والترجمة وحرص هذه الجهود على التأسيس لمهرجان مسرحي نوعي ، إذا ما استثنينا هذه الجهود فإن الظاهرة للأسف الشديد تأطرت في عروض المهرجانات والمناسبات ، فبالرغم من أهمية المهرجانات المسرحية التي من خلالها يشاهد الجمهور باقة متنوعة من التجارب المسرحية ويتعرف على التماعات مسرحية تشي بمستقبل أدائي وتقني مميز ، إلا أن هذه الظاهرة المهرجانية لا يمكن التعويل عليها في تأسيس ظاهرة مسرحية مجتمعية تستمد حضورها من تراكم فعلي في المسرح ومن نتاج مسرحي كلل حضوره بترشيحه للمشاركة في هذا المهرجان أو تلك المناسبة ، فأغلب العروض التي تشارك في المهرجانات المسرحية العربية أعدت لهذه المهرجانات قبل الجمهور ، ويشاهدها جمهور المهرجانات في الغالب ، بل أن بعض العروض لا يشاهدها جمهور المنشأ على الإطلاق إذا اقتضى الأمر عرضها في بلد آخر ، مثل هذه العروض كيف يمكن الاتكاء على قيمتها الفكرية والفنية في غياب إخضاعها لتحديات التلقي بشتى أشكاله وأنواعه التقنية والتكنولوجية الذي كدنا نفتقده في المسرح اليوم والذي للأسف الشديد لم يسعى مسرحنا العربي للتواصل معه باعتباره ركيزة أساسية لتشكيل ظاهرة الجمهور المسرحي بمختلف أنواعه وتباين أذواقه ورؤاه ، وإذا كانت هناك ظاهرة لجمهور مسرحي فهي ظاهرة جمهور المسرح التجاري الهابط الذي أسهم مسرحيونا بسبب تقاعسهم وانصرافهم عن همهم المسرحي الجاد إلى فسح المجال لهذا الجمهور واسعا كي يكون لقمة سائقة بديلة في فم المسرح التجاري..
إذن ألا تعد استعادة هذا الجمهور للمسرح النوعي في رؤيته وتوجهه تحديا من التحديات التي كادت أن تكون شاقة ومقلقة وامتحانا حقيقيا لأهل المسرح النوعي في مدى اهتمامه الجاد بلغة التواصل الحي والتفاعلي في المسرح ؟
يبدو أننا بحاجة إلى قطع أشواط طويلة كي نكون على مقربة من التمثل لهذه التحديات أو في مواجهتها ، ولا يمكن تمثلها أو تحديها إلا إذا تخلق الكيان المسرحي من منطلق كونه تيارا مسرحيا يخضع رؤيته وتجربته لمختبر فكري وفني دائم ومستمر ويكون مستعدا باستمرار لطرح الجديد والمغاير في بحثه وأسئلته التي يدشنها في مشروعاته المسرحية وقادرا على استثمار الرؤى الحداثية بكافة أشكالها وأنواعها التقنية التي من شأنها رفد هذه المشروعات ..
والتحديات تترى ، إذ حتى الورش المسرحية التي تنظمها بعض المعاهد والأكاديميات وبعض المؤسسات الثقافية والفنية الرسمية في وطننا العربي تتكيء في معطياتها ومحاورها ـ غالبا ـ  على الجانب التقني الخالص في تدريب الجسد أو في تشكيل الفضاء المسرحي دون أدنى وقوف على الفكر الذي أنتجها ولماذا أنتجها وكما لو أن هذا الجانب التقني صالح لكل مكان وزمان ولكل عقيدة ومذهب ولكل من هب ودب ، والدليل أننا نشاهد أحيانا عروضا مسرحية متميزة في معطياتها الأدائية والتقنية الورشية ولكنها للأسف الشديد متخلفة في معطياتها الفكرية ، هذا إلى جانب تعاطي هذه الورش باعتبارها ملخصات لتجربة مختبرية عميقة وباحثة وغالبا ما يجري اختبارها من غير مؤسسيها أو الدارسين لها أو تلاميذها العارفين بتفاصيلها أو الضالعين في اختبارها عبر تجاربهم ، وهذه طامة أخرى ابتلت بها بعض عروضنا المسرحية ، حيث لا يمكن إزاء هكذا حال أن يتشكل اتجاه في المسرح ، حال لا تأبه بالمنتج الفكري للورشة وتتعاطى الإتجاه بوصفه ملخصا ، تخبط وابتسار لوعي مسئول وعدم مراكمة مسئولة لمنتج الورشة المتعاطاة ، وزعم بالتجريب في غياب أبجديات استيعابه فكرا وفنا ، كيف يمكن إزاء هكذا تشويش أو ( تلبيخ ) خلق تيار مسرحي متنامي وممتد ومتفاعل مع فضاء التلقي الأوسع ومع تقنياته البصرية الخلاقة ؟ لذا يمثُل الفكر الورشي أمامنا بوصفه واحدا من التحديات التي يتأسس على ضوئها الوعي المسرحي النوعي الخلاق والذي بدوره يسهم في مد جسور التواصل الفاعل مع الجمهور ..
تهميش الفكر ..
والفكر لا يمكن له أن يتجذر ويتفعل حضوره الخلقي في بيئة ترفضه وأحيانا تمقته ، لا يمكن أن يتأجج وهجه دون وعي يستبره ويتمثله ويؤمن به وينافح من أجله بوصفه إكسيرا أو أكسيجينا لازما للاستمرار على هذه الأرض الشائكة ، وحاضنة هذا الفكر تتجسد في مركز للأبحاث المسرحية مهمته الاشتغال على كل ما من شأنه تدعيم ركائز المسرح على هذه الأرض وفتح الآفاق واسعة أمام المشتغلين فيه لاكتشاف مناطق خلق مسرحي أخصب وأبدع ، ومن بينها هذه التقنيات البصرية المحفزة لتخيل خلقي لا حدود له ، فهل يوجد في مسرحنا العربي مركز للأبحاث المسرحية يؤسس لمسرح نوعي متنوع وخلاق ولباحثين يتملكون قراءات فكرية مسرحية من شأنهم إضاءة المسرح وجمهوره باستمرار أمام المشتغلين في أفضيته برؤاهم الفكرية  والمعملية ؟ ألا يعد هذا المركز الذي نحلم بتحققه على أرض الواقع العربي منذ عقود تحديا يواجه المؤسسات المعنية بالمسرح والمسرحيين أنفسهم ؟ هل تحركت أو ( تزحزحت )  الإتحادات والجمعيات المسرحية والمعاهد والأكاديميات المسرحية والفنية لدينا من أجل المطالبة بتأسيسه ؟ وهل غاب عنها أنها طرف مسئول في تأسيسه في كياناتها ؟ أم أن هذه الإتحادات والجمعيات والمعاهد والأكاديميات تعمل في ظل غياب الفرق التي تمثلها وفي ظل غيابها ذاته ؟ هل حلمنا يتفرع إلى درجة بات فيه التحدي ملتبسا على رؤسنا ؟ هل نعتبر مركز الأبحاث المسرحية تحديا لإنجاز وعي مسرحي مغاير ؟
أليس من الضرورة أن تقف هذه الاتحادات والجمعيات والمعاهد والأكاديميات على الإشكالات التي تواجهها الفرق المسرحية والمسرحيين وكيفية التغلب عليها ودراسة الواقع المسرحي بكل جوانبه وكيفية إنعاش حراكه في المجتمع ودراسة أسباب عزوف الجمهور عن المسرح والتخطيط لمستقبل هذا المسرح والوقوف على أسباب محدودية وتردي البنى التحتية للمسرح وكيفية التفكير في خلق أفضية جديدة للمسرح تكون التقنيات البصرية والتكنولوجية أهم ركائزها المعملية والخلقية ؟
وهم العولمة ..
إن أغلب الفعاليات العربية التي تستضيف العولمة بشتى تقنياتها البصرية والصوتية والغرافيكية ووسائطها الإعلامية الجديدة في محاورها بشتى سياقاتها، تحسم الأمر وبشكل جهوزي النزعة والتوريث على أن هذه العولمة هي الخطر الأمريكي الذي يهدد ثقافتنا وهويتنا ومعتقداتنا، هي فعاليات مهووسة بنظرية المؤامرة، وتتمثل بالتالي هجومها الموازي على أمريكا والعولمة والديمقراطية الأمريكية الإمبريالــية وما أنتجتـــه من كل مساوئ لا تحــصى في هـــــذا الكون ( اقتصادية وبيئية وإسكانية وصحية )، تتمثلها في العولمة حصرا بوصفها العدو المقدور عليه كلاميا والممكن استحضاره في ندواتها ومؤتمراتها وملتقياتها دون أدنى جهد أو عناء، في الوقت الذي تعجز فيه عن تشخيص وتفكيك عللها ومصائبها التي ربما تمثل خطرا فادحا عليها أكثر من أي مفهوم أو مصطلح لصيق الصلة والإنتاج بأمريكا أو أوروبا، هي فعاليات رجراجة تتوهم الإدانة للآخر من منطلق وجود رؤية مضادة خيرة وإصلاحية، هي في حكم الوهم المتعاطى غير موجودة أصلا، فكيف تدين هذه الفعاليات العولمة في غياب الرؤية والديمقراطية الفاعلة والمنتجة عن مجتمعها؟
ربما لا أحد يختلف منا على أن للعولمة الأمريكية إشكالات ومصائب ترتبط مباشرة بمصالح الإدارة الأمريكية وبسياستها الهيمنية في العالم كله وليس في العالم النامي أو الشرق الأوسط فحسب، ولكن هل تملكنا القدرة والحنكة على مواجهة المصائب التي تتراكم بشكل نووي وهائل في مجتمعاتنا، مصائب تتجسد في الفقر والتلوث والتصحر وانتهاك حقوق الإنسان بشكل مفزع ومروع وغيرها من مصائب لا يحصى عددها؟ هل تخلو مجتمعاتنا من الماكيتات الأمريكية التابعة والتي تمارس وحشيتها على شعوبها ربما بشكل أكثر ضراوة من وحشية السي آي إي على الشعب الأمريكي؟ لماذا نعلق كل هذه المصائب على المشجب الأمريكي وكما لو أننا الواحة النقية الخضراء البريئة الطاهرة المستهدفة الموهوبة لهذا الكون الواسع؟ لماذا لم نسأل عن أسباب هذه المصائب ومخلفات من هي في الأساس؟ أليس غياب الديمقراطية عن مجتمعاتنا أو تعثرها أو رسمنتها واحدا من هذه الأسباب؟ ولنسلم أن العولمة هي كذلك كما شاء لها من أيقن أو ظن أو تآمر، فهل تشكل لدينا في المقابل خطاب قرائي نقدي تحليلي قادر على اختراق كوكب العولمة وخلق حالة متكافئة في مواجهة غيلان هذا الكوكب وتنانينه مثلما تشكل في أمريكا ذاتها مثلا مفكر كنعوم تشومسكي ومفكر عربي كادوارد سعيد؟ وياترى من واجه شركات رأس المال الاحتكارية الكبرى في مؤتمر منظمة التجارة الدولية؟ أليس من تظاهر وتعرض لهراوات البوليس دفاعا عن حقوق العالم النامي والمطالبة بكف يد الفقر عنهم، هم المنظمات والنقابات في سياتل أمريكا؟
عولمية المسرح ..
لنعد للجانب المضيء في العولمة والذي يواجه الفضاء المعتم فيها..
المسرح في حد ذاته وفي كيانه الخاص حالة ديمقراطية، فهو يتوفر على الحوار وعلى نماذج متعددة من مجتمعات موجودة على أرض الواقع أو متخيلة، وعلى صراع، بجانب كونه لقاء حيا بالمتلقي أو المتقبل، كما أنه ـ بوصفه منتم لحقل الفن ـ يتمتع بصلاحية التجوال في الكون الذاتي أو المجتمعي الأوسع والأشمل، إذن هو عولمي منذ النشأة، فهل نرفض المسرح لكونه كذلك؟ وألا يعد رفضنا له كونه كذلك نوعا من أنواع ممارسة العسف اللاديمقراطي ضده؟ إذ إن أول شرط للديمقراطية هو قبولنا بالآخر مهما كان حجم اختلافنا معه، فإذا استأصلنا هذا الشرط كيف يجوز الكلام عن الديمقراطية؟
المسرح فن يتجاوز أي حديث عن الأدلجة أو التوجيه، هو فن مغامر وجسور وسائل بلا نهايات، ونحن ولله الحمد غالبا ما نخضع المسرح للأدلجة الضيقة المحدودة واللاإنسانية في أغلب الأحوال، ونخلط بين كونه فنا له مقتضيات التحرر وبين مرتكزاتنا وثوابتنا الواقعية والأيديولوجية إن صح التعبير والتمرير، ويجري بعدها الكلام عن ضرورة عربنة المسرح وقوميته خشية عليه من العولمة ـ وكما لو أن العولمة هي وعاء واحد للغة واحدة ، وتتأصل الوصاية عليه كونه فنا تابعا لا بوصفه فنا سائلا ومنطلقا وحرا غير مستعبد بأفكار ميتة وعفنة، وهنا تكمن وتطفر الطامة الكبرى، حيث يتحول المسرح إلى سجن وسجان ومسجون لهذه الأفكار، وبدلا من أن يكون فنا لصيق الصلة بالديمقراطية التي فطر عليها يتحول إلى سلطة ديكتاتورية عسفية، معتد ومحتف بقوالبه الفنية والفكرية الجامدة ومصدر لها في آن، ونماذجنا في المسرح العربي من نصوص وعروض طبعا ليست بقليلة ، فرائحتها تزكم الأنوف حتى قبل أن تنتج، ودليلنا إلى ما نذهب إليه، الهجوم المتواصل لأي تجربة لها علاقة من بعيد أو قريب بالتجريب، والتي أعتبرها من وجهة نظري، مهما كانت إشكالاتها، حالة من حالات البحث والحفر وتدشين الأسئلة في مواجهة القوالب والأجوبة الجاهزة والمنغلقة، لا المقلقة والمؤرقة كما هي حال التجريب، فالأسئلة والبحث والحفر هي ركائز أساسية من ركائز الديمقراطية في المسرح، ومن يرفضها يعلن سلفا رفضه لأي ركيزة من هذه الركائز.
تفكيك العلل ..
إن ما يعنيني في هذا الموضوع هو تشخيص وتفكيك العلل التي ساهمت في تعطيل وتجميد بؤر الإنطلاق والتحرر في المسرح، ما يعنيني هو خلق ثقافة التمرد على هذه القيم البالية والمهترئة التي تزعم أن المسرح شكل واحد، لون واحد، صوت واحد، لغة واحدة، شخص واحد، مكان واحد، زمن واحد، نوع واحد، فكر واحد ، هذه القيم التي استعارت واستضافت شكل المسرح وثقافة المسرح من الغرب ومن عالم غير عالمها وراحت فيما بعد الاستقرار والاسترخاء الذهني تشن كل أسلحة الهجوم لديها على الغرب وعلى من يتغربن بشكل آخر عنها في رؤيته للمسرح، وصار كل شكل آخر في اعتقادها شكل ضار لأنه ينتمي للعولمة أو ما يشابه هكذا اسم ، بل ربما باتت تحتفي بعلم أو دون وعي بأصولية جديدة في المسرح بالرغم من رفضها ضمنا أصولية الإسلامويين ، فهل يوجد أجمل وأروع من هذه المفارقة التي تنتج أصوليتها من رحم فن ينتمي أساسا للديمقراطية في سياقاتها الإنسانية المتعددة والرحبة؟
هؤلاء الأصوليون يريدون للمسرح أن يترجم جدول أعمال وقرارات وتوصيات مؤتمرات القمم العربية في مواجهتها أو وقوفها مع أمريكا، يريدون أن يتحول المسرح إلى منبر لخطاب يعتليه شيخ يومئ بعصاه فيستجيب لها القطيع طائعة مذللة، وبالتالي مثل هؤلاء تؤرقهم التجارب المغايرة لخطابهم.
جملة غير تامة ..
أنا شخصيا ينتابني فرح لا يضاهى عندما أشاهد تجارب تغاير هذا الخطاب، وبالرغم من تعثرها وتخبطها أحيانا في محاولة بلورة رؤيتها الفنية، إلا أنها تأخذني، تدفعني للسؤال، لأنها تجارب غير تامة، أنا أحتفي بالجملة غير التامة، لأنها تترك فراغا مهما ولازما للسؤال والبحث والخلق والإبداع، وكلما استفحلت مثل هذه التجارب في وسطنا شعرت أكثر بأن الوهن الواحد ماض إلى حتفه عما قريب، ولا يحتفي بالوهن الواحد سوى العاجز عن إنتاج معنى جديد لوجوده ولتجربته..
كيف نريد ان نمنع ذواتنا من التواصل مع التجارب الجديدة في العالم؟ كيف نمنعها ونصادر حقها في تبني بعض الرؤى الفنية والفكرية الخلاقة في العالم؟
العالم لم يصبح كما جرى سائد الكلام غرفة كونية، إنما أصبح أصغر من ذلك بكثير، ربما أصبح جهاز بحجم علبة الكبريت أو الشيفرة ، عالم يأخذني معه إلى عوالم واقعية وافتراضية رقمية هائلة، ويضيف لتجربتي، لوعيي ، ما تخلفت عنه سنون عجاف في البلدان العربية، التي هي بمثابة، بل هي بشكل أدق ، بؤر لرفض الوعي والتجدد والإبداع والمغامرة المسئولة..
العولمة ، أو عالم العولمة ، شرقا وغربا وكونا أطلعني على تجارب مسرحية ورؤى عميقة في المسرح ، لم أكن لولاها لأطلع عليها وأزداد فضولا لتبني كثير منها ، أطلعني على مساحات متعددة وحرة للبحث وللاستضافة في التجربة ، ولولا ذلك المضطهد المتهم المطارد اللقيط المدعو مسرح تجريبي الذي أتاح لي ولغيري من المؤرقين بالبحث والأسئلة مشاهدة تجارب ظلت غائبة عن المشاهدة العيانية الحية لكنا في خبر الوهن المسرحي الواحد المحاصر بين تأصيل الخطاب المسرحي العربي ومعاصرته من منطلق التأصيل أيضا ، تجارب من شأنها أن تراكم وتنبث في أجساد ورؤى أخرى ، وليست تجارب رهينة وأسيرة للمناسبة أو الحالة الظرفية الآنية أو النص المصمت ، تجارب تمنح حرية الحوار والخلق وتأسيس الرؤية القائمة على وعي جماعي مختبري منشغل بأسئلته ، قادر على توليدها ونسفها في آن ، وكما لو أنه يروم خلق الكون من جديد ليعيد إنتاجه بشكل وبرؤية آخرين ، منجذب نحو ديمقراطية أكبر من أن تتصورها الديمقراطية نفسها ، ومنخرط في عولمة لا يقف عند قبوله لها أو رفضها بوصفها منتج أمريكي ، بقدر ما يمعن مبضعه فيها من أجل قراءتها وتحليلها وتفكيكها بوصفها إشكال جاز تعاطيه بشتى الرؤى من بعد تعرشه قمة هرم الكون بأكمله ، لذا نلحظ بعض المخرجين التجريبيين ـ والذين يحلو للبعض من باب النكاية بهم أن يطلق عليهم عولميين ـ التجريبيين الذين لديهم وجهة نظر قد لا تتفق مع العولمة أو ربما تدينها ، لا يمكن أن يستغنوا عن مكتسبات كثيرة منها في عروضهم المسرحية التي تدين هذه العولمة وبشكل ديمقراطي قلت ممارسته في كثير من التجارب المسرحية في العالم العربي ، وذلك باعتبار العولمة مشروع اختلاف، لا مشروع رفض مسبق وجاهز وإقصائي ، فهو موجود وعليك أن تثبت العكس ، وكلما توفرت هوامش ديمقراطية أكبر وأوسع في الفعل المسرحي وتقنياته البصرية الهائلة الحجم والتخيل ، تمكنا من إزاحة بعبع الرفض الأيديولوجي الذي يرى بضرورة محاربة العولمة ومن يتبناها، وكما لو أنه يخشى على ديمقراطيته الموهومة من خطر العولمة.
مغامرة في المستقبل ..
المسرح إذن ـ كما يذهب إلى ذلك المخرج المسرحي الراحل الدكتور عوني كرومي « فعل حياة وبقاء وتطور وسؤال دائم عن الكينونة والوجود وعملية إبداع الذات إلى جانب كونه رحلة ومغامرة في المستقبل»، فهل يمكن الحديث عن المستقبل في ظل حصار الوعي وحجب الرؤية عن خلاياه كي لا يتنفس هواء الديمقراطية الذي هو بمثابة زاده وزوادته و بوصلته إلى الحياة التي يحلم بتحققها ؟ وهل يمكن أن نجزم بأن العولمة بمعزل عن هذا المستقبل مهما كان مصدرها أو رؤيتنا فيها ؟ وهل يمكن أن يكون المسرح فعل حياة في ظل رفضنا للفعل ذاته وردوده في آن وبشتى أشكال وأنواع تقنياته البصرية خاصة ؟ وهل يمكن أن يكون لنا وجود فعلي في الحياة في ظل من يتقصد وأد هذا الوجود ؟ وهل يمكن أن تكون للسؤال قيمة في تجاربنا دون الشك والارتياب فيه ؟ وهل يمكن أن نتحدث عن المعاصرة ونزعم اننا عصريين أو معاصرين ونحن لم نزل بعد مشدودين بقوة غير عادية نحو توريط هذه المعاصرة بأجوبة التأصيل للمسرح العربي ؟ .
وشتان بين التأصيل والمعاصرة، فإذا كان التأصيل انشغال في توطين التجربة ، فإن المعاصرة ذهاب نحو التنقيب في تضاريس الرؤية للعالم ، وكلما اتسع أفق التجربة ، أصبحت أمام مسئولية أكبر تجاه أسئلتها للكون ، وبالتالي ربما تكون في مواجهة صعبة مع جحيم أهل الأجوبة الجاهزة والمعلبة والقهرية في مؤسساتنا العربية الرسمية والمرسمنة والمترسمنة التي تحتفي بأشباهها غالبا، والتي تريد لها الاكتفاء بما هو مُملى عليها فحسب ، مواجهة قد تكون فيها أطراف مسخرة من المسرح ذاته لتعزيز وترسيخ هذه الأجوبة، وتلك مصيبة أخرى ، إذ أن من يعمل في حقل المسرح يصبح وفق إملاءات هذه المؤسسات ندا لدودا لمن يعمل معه في الحقل نفسه، وشواهدنا لو أحصيناها في مسرحنا العربي كثيرة وموجعة ومفجعة ، فكم من المسرحيين القلقين المؤسسين لوعي مسرحي مغاير في مسرحنا العربي كانوا أول الضحايا لهؤلاء الذين وهبهم الله نعمة الفنان والمتسلط في آن ، ولعل أمثال هؤلاء يجدون مرتعا خصبا لخدماتهم الجليلة في ظل غياب الديمقراطية الحقيقية عن مجتمعاتهم ، بل في ظل غياب الديمقراطية على الإطلاق.
المنقبون في المسرح ..
المنقبون في المسرح لا يؤمنون بضرورة التبني الأبدي لقضايا إنسانهم في مجتمعه فحسب، إنهم يتبنون قضايا الإنسان في أي موقع على هذه الخارطة الكونية ، وبالتالي يشعرون دائما بالحاجة إلى هوامش أكبر وأوسع لحرية التعبير، وكثيرا ما اتهم مثل هؤلاء المنقبين بالتخلي عن قضايا مجتمعهم وبالخروج عن وعلى هوياتهم العربية والإسلامية وبعولمة هذا المجتمع وتجييره نحو الغربنة، بينما هم يتوجهون عميقا نحو هذا الإنسان ونحو قضاياه، ديدنهم البحث عن قلق مشترك وحلم مشترك مع هذا الإنسان، ليس من باب الوصاية المعرفية عليه ، وليس من منطلق إصلاحي متفق عليه لدى أهل السياسة والأيديولوجيا ، إنما من زاوية ترجمة هذا القلق في فعل المسرح بعيدا عن أي رسالة دعوية وادعائية ، ولكنهم يريدون لهؤلاء المنقبين أن يكونوا مفلكرين أو فولكلوريين غاية الفلكرة كي يكونوا أجدر بهويتهم العربية والإسلامية، وهذا لن يحصل أو يتحقق لمن عاكست رؤياه التيار السائد، خاصة وأنه يعي أنه يعمل في حيز لا ديمقراطي ولا يحفل بالعولمة إلا من منطلق استثماره لها باعتبارها حيزا صوريا للديمقراطية تبرر مواكبته للعالم ..
الهوية متسع كوني ..
العولمة فتحت أبواب العالم على مصاريعها، وليس هناك خيارا آخر غير التعايش مع ثقافات الآخرين التي من شأنها ان تثري تجربتنا المسرحية وتسهم في تطويرها والارتقاء بها، شأنها شأن من مضى عمره مغتربا في إحدى دول أوربا، إذ عليه أن يقبل تقاليد وعادات وأفكار مجتمع تلك الدولة وأن ينفتح على كل معطياتها ويؤسس لتجربته من خلال ما يقتضيه واقع تلك الدولة وتملكها لأدوات علمية ومعرفية وفنية قل توافرها أو انعدم وجودها في مجتمعه، بل ربما وجد هناك ما يلتئم مع واقعه وتمكن من استثماره أكثر من قدرته على استثماره في مجتمعه، ولعلنا من خلال مشاهداتنا لبعض التجارب المسرحية الأوربية أو غير العربية استوقفتنا مفردات ورؤى قريبة الروح والصوغ من مفردات ورؤى عايشناها في مجتمعنا، ولعل انفتاح العولمة الهائل على هذه الخارطة المعلومة والمجهولة ينبهنا أكثر لطبيعة وماهية ما نتمسك به من تقاليد وعادات وهوية ومعتقد، وعلى ضوئه تقترح على الرأس مناهج جديدة للمقارنة والمقاربة والمجاورة، لذا كثيرة هي العروض المسرحية العربية التي تمكن منتجوها من استثمار رؤى تجارب أوربية فيها، لاحظنا تجاورا ملموسا وقويا بينها، خاصة فيما يتعلق بالشكل المسرحي وبالتعاطي مع الرؤية وكيفية معالجتها مسرحيا، ونماذجنا فيما نذهب إليه، تجارب لبعض المخرجين المسرحيين في تونس والعراق ولبنان والكويت بشكل أكثر وضوحا، الأمر الذي لا يدع مجالا لحوار أثروي بين المسرح والفضائيات، إذ إنه بالرغم من استثمار الفضائيات لكل معطيات العولمة والتقنية منها خاصة وذلك بفعل الاتصال التكنولوجي الخالص بها، إلا أن المسرح، وبالذات المسرح النابع من رؤية متجددة ومواكبة لمستجدات التكنولوجيا والعولمة بإنجازاتها الرقمية، قادر على أن يتماهى ويتواصل مع هذه المنجزات ويتخلق ككيان فني حي يستثمر هذه التقنية في عروضه، ولا يقف أمام هذه المساءلات الأثروية حائرا وناقما على الديمقراطية شبه المطلقة الممنوحة للفضائيات ببذخ لا يضاهيه بذخ، أو يطلق صيحات التحذير وأجراس الإنذار خوفا على هويته الثقافية والاجتماعية والتراثية من صناع العولمة ومروجيها، ناسيا أو متناسيا أن الهوية في حد ذاتها متسع كوني يمضي في فسحه الإنسان، وبالذات الإنسان المعاصر، حاملا معه أسلافه الأسطوريين والواقعيين من شتى أرجاء الكون كونه كائنا متصلا ميثولوجيا وعلى أرض الواقع بكل معطيات التقنية ولا مناص من ذلك الاتصال والتأثر.
بصدد مسرح كوني ..
لماذا ننبه ونحذر من العولمة؟ أإلى هذا الحد نحن عديمي الثقة في أنفسنا حتى نخشى العولمة؟ لماذا لا نبحث عن لغة أخرى غير التحذير والتنبيه ونترجمها ونجسدها عبر المسرح بثقة ودون تحرز من العولمة؟ لماذا نستليذ غالبا ونتوجس من الأكثر قدرة منا على التجاوز وكما لو أننا نعلن بشكل أو بآخر أننا الأضعف ولا وسيلة أمامنا لمواجهة هذا العدو المدعو عولمة إلا بالتشهير فيه، بينما هذا الأسلوب لا يتماشى على الإطلاق مع الديمقراطية التي نزعم أننا نطالب بتحققها أو بالعيش في كنفها؟ كيف نكون ديمقراطيين ونحن نرفض الآخر أو نخشى تعدده؟ كيف نرفض هذا التعدد ونحن نشتغل في مجال يفترض المتعدد والصديق والعدو في آن، وأعني به المسرح؟ كيف نكون ديمقراطيين في المسرح ونحن نرفض التعددية في الديمقراطية التي نطمح في تحققها على أرض الواقع أو نعيشها على هذه الأرض؟ .
إن خطاب التنبيه والتحذير والذي يحمل في أحشائه بعبعا أصوليا إقصائيا، لم يعد مجديا مع استفحال ثورة العولمة في هذا الكون كله، وعليه لم يعد المسرح معنيا بقضاياه المحلية أو المحيطة به من قريب أو بجوار سواحله وضفافه ويابسته فحسب، صار المسرح بحكم ولوجه ـ مضطرا أو طائعا ـ  كون العولمة، معنيا بكل ما يحدث في العالم بمختلف قاراته وجهاته وعليه أن يواكب كل ما يطرأ من أحداث في هذا العالم، ذلك أن العولمة حولت كل الأوطان إلى وطن واحد مهما تباين الاهتمام أو أجحف شعب هذا الوطن وأغنى ذاك، تحول تجاوز عولمة المقدسات والأديان المشتركة بين شعوب الأرض، تحول سرى في تفاصيل ودقائق الحياة اليومية، تحول أفسح مجالا سلبيا أو إيجابيا لتحويل الصورة أو المتلفز أو الفضائي إلى حالة حية أصبحت معها شاشات المواقع الإلكترونية بتقنياتها الإتصالية الهائلة غشاء شفافا تتجاور من خلاله حيوات الكون كله وكما لو أنها تمسرح على سبيل التجسيد لا العرض، لذا أرى أن هذه الثورة العولمية والمعلوماتية والاتصالية قد وضعتنا أمام تحديات لا حدود لحصرها واجتياحاتها وتغيراتها، والمسرحيون اليوم مطالبون أكثر من أي يوم مضى، قبل عهد العولمة، وثورتها أن يستوعبوا هذا الاشتباك الكوني فيجددوا لغتهم وأدواتهم ورؤيتهم كي يكونوا جديرين وأكفاء لهذه المهمة الملقاة على عاتقهم، كما أن على الجهات المعنية بالمسرح أن تهيء للمسرحيين كل ما من شأنه الإسهام في التعرف عن كثب على هذه الثورة العولمية ومعطياتها المتجددة دائما، إذ لا يمكن مواجهة الآخر أو التصدي له دون إدراك حجم قدرتك على هذه المواجهة وهذا التصدي، ودون استيعاب أننا بصدد المسرح الكوني وليس العربي كما شاءت اللغة والذي يستثمر قضاياه وفق ما يطرأ في الكون كله، دون ذلك لا مكان للجعجعة في هذا الكون العصفي أبدا والذي لا ينتظر إذن من أحد حتى يمضي أو يتوقف أو يتغلغل.
مؤشرات التجاوز ..
إن الخطوة التي اتخذها المشاركون في الدورة الرابعة لملتقى الشارقة للمسرح العربي بتوجيهات من الشيخ الكاتب والفنان الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، في التأكيد على أهمية الانفتاح على الآخرين والتواصل معهم وضرورة الاستفادة من إنتاج المسارح الأوربية وتوسيع المشاركات غير العربية واستضافة عروض مسرحية أوربية والاستفادة من الثقافات المسرحية الآسيوية والعالمية الإنسانية بشكل عام وقبول التعددية الثقافية كجهد إنساني والتجاور والتعايش بين الخصوصيات الثقافية لجعل العولمة فسحة للحوار والتلاقي من مدخل الثقافة وإسباغ الجهد الإنساني عليها للمزيد من تفعيل الحوار والتعايش بين الثقافات لا الصراع والتضاد فيما بينها، تعتبر هذه الخطوة التي كان لابد لها أن تكون منذ زمن طويل لإزاحة الكثير من الصدأ العالق والملازم لأدمغة الكثير منا ولقناعاته في العولمة باعتبارها خطرا فحسب، ووجها واحدا هو الشر فحسب، وجاء الوقت لتخرج هذه الضرورات من قمقم التوصيات إلى فسحة الفعل والحوار والتعايش لتثبت أن العولمة متى استثمرت من الجانب المعرفي الخلاق لدى المسرحيين من الممكن أن تكون أكبر وأهم بيئة ديمقراطية يتنفس فيها المسرحيون رؤاهم التي ظلت لفترة طويلة معزولة عن بعضها وأسيرة وعي لا يقبل إلا حدوده المحدودة والضيقة ..
نحن نحتاج لهذا التجاور حسب المفكر الناقد ياوس ، فلعلنا في أقل الممكن نستطيع أن نجعل من أهل النفوذ ذوي قابلية على الإصغاء لنا وإدراك أن لنا موقفا مما يحدث ومما يمارسونه من محاولات مستميتة لسحل الجهود الإنسانية في العالم كله، والتأكيد على أن فناني هذا العالم العربي رقما مهما في الخارطة الكونية، وإن كان حضوره جليا قبل هذه التوصيات من خلال مشاركات كثير من المسرحيين العرب في مهرجانات دولية مهمة في العالم، مثل مهرجان إفنيون ومهرجان زيورخ ومهرجان مارسيليا ومهرجان أدنبرة ومهرجانات أخرى، بجانب مشاركته العملية في عروض ومسرحيات أوربية بوصفه ممثلا أو مخرجا، وكثيرة هي العروض المسرحية التي أصبحت معروفة عالميا وخاصة التجربة التونسية أكثر تحديدا ، ومن بينها تجارب فاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي وعز الدين قنون ، مثل تجارب المخرجين التونسيين فاضل الجعايبي والراحل عزالدين قنون وتوفيق الجبالي ، بجانب هؤلاء يشغل المهاجرون العرب في بعض الدول الأوربية حيزا مهما في التجربة المسرحية، ومن بينهم المخرج العراقي مهند هادي والكاتبة والمخرجة المصرية نورا أمين ،  كما تمكنت الورش المسرحية الأوربية من ضم الكثير من الجهود الفنية العربية إلى مختبرها وتخريجهم بما يمكنهم من تقديم تجارب مسرحية رفيعة المستوى وترقى إلى الجهود المسرحية الأوربية المميزة ..
العولمة بوصفها اختزال بصري لرؤانا المسرحية  ..
كل هذا الفسح العولمي والديمقراطي المتسع نحتاجه بشدة وبإلحاح للرد أولا على العقول البيروقراطية والمؤدلجة البليدة التي ترى في وجودها نقصا دون عزل المسرح عن العالم، وللرد ثانيا على المؤسسات المسرحية والثقافية التقليدية والمهترأة التي ترى في التجدد والتجريب واستثمار جهود الآخر البحثية أوربة وهروبا متعمدا عن القيم القومية العربية السمحاء.
الكارثة أننا نعيش جملة مفارقات تحتاج إلى وسائل وطرق متمردة لنسفها أو تجاوزها، لأن الحديث عن الديمقراطية وحده يحتاج إلى وقفات وتأملات، إذ أن الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية حكواتية بالدرجة الأولى، ديمقراطية حكي، ظاهرة صوتية كما ذهب إلى ذلك المفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي ،وليست ديمقراطية قائمة على تبادل الأدوار وتجديد الدماء في شرايين القنوات المجتمعية، ديمقراطية تدفع باتجاه دراما الأفق لا ميلودراما الصراخ والعويل، وإن كنت أحيانا أبرر هذه الميلودراما ولا أسأم منها بحكم العسف التاريخي الطويل لحريات الإنسان المثقف والفنان في مجتمعاتنا العربية ومسخ صوته ونفسيته وكيانه، وتأسيس نماذج تحفظ الود لهذا العسف ولا تخنه، فمهما تغيرت الأزمان والأمكنة، فهي صالحة لكل زمان ومكان، وطالما هي كذلك ممتدة، فإن ميلودراما الصراخ ستستمر، ولكن إلى متى ستظل الإستجابة لهذه الميلودراما واردة ومبررة؟ هل فقدنا الوسيلة أو عدمناها حتى نكون بمنأى عن ما يسهم في تغييرنا وتغييره أو اللحاق به أو قول وجهة نظرنا فيه؟ وإلى متى ستظل الظاهرة الصوتية ملازمة لديمقراطيتنا المزعومة في الواقع والمسرح؟ أليس المسرح كما أسلفنا فعل حياة ورؤية ؟ أليس الصوت في المسرح إذا استثمر فنيا يتحول إلى فعل؟ هل ننكر أننا لم نستثمر بعض رؤى وتقنيات التجارب المسرحية التجريبية خاصة، والتي هيأها لنا مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ومهرجان قرطاج المسرحي الدولي ؟ هل كنا فعلا على اطلاع وتعرف كاف بالتجارب الخلاقة في العالم قبل المهرجان التجريبي؟ ألم يهيء هذا المهرجان فرصة أخرى لبعض التجارب العربية المسرحية المميزة كي تشارك في مهرجانات عالمية أخرى تقام خارج دائرتها الضيقة؟ ألم تعرض في هذه المهرجانات عروضا مسرحية أمريكية مهمة تدين الجوانب المعتمة للعولمة وتناقش قضايا الفقر والهيمنة الأمريكية على خارطة الجنوب عامة؟ ألم يتلق بعض المسرحيين العرب دورات ورشية في مجال التقنية والتكنولوجيا بأمريكا؟ ألم تكن مسارح أوربا حاضنة لتعددية خلاقة ولرؤى مستقلة منسجمة في إنسانيتها؟ أليست تجربة مسرحية عبور المحيط لبريخت وللمعدة و المخرجة الهولندية لوسيان فان أملسفورت أنموذجا لما نذهب إليه ولما يخشاه بعض الأصوليين في مسرحنا العربي؟ هي مسرحية جمعت جنسيات متعددة لجأت إلى هولندا، من تركيا وإيران والعراق والمغرب والصومال وسورينام، طبعا إضافة إلى الهولنديين، وقدمت كل جنسية بلغة بلدها ، مسرحية تناولت قضية مهمة وربما يصعب على هؤلاء الفنانين طرحها في مجتمعاتهم نظرا للتابوهات المفزعة فيها، قضيتهم هي الهجرة والأحلام المحبطة والبحث عن بلد آمن، بحث عن طريقة لهدم الحدود الجغرافية، أليست تلك القضية تعني كثرة من المهاجرين والمنفيين واللاجئين العرب وغير العرب؟ هل يمكن لشعوب كثيرة على هذه الأرض أن تعلم أو تتفاعل مع هكذا قضايا لولا ظاهرة المايكرو سوسيولوجي؟ أليست هذه الظاهرة مجدية والتي ترجمت لنا ماذا تعني دولة المواطنة في فسحها الديمقراطي الأوسع، وماذا يعني بالمقابل نقيضها في مجتمعاتنا حيث الإسم وبريقه يسبق المعنى والجدوى، ماذا يعني أن يكون المسرح في أوربا مؤازرا بمؤسسات المجتمع المدني وبفعلها الإستنهاضي، وماذا يعني أن يكون المسرح بمعزل عن هذه المؤسسات وعن فعلها؟.
البعض يخشى على المسرح في العالم العربي من أن يتحول إلى صورة مكررة ومجترة عن الصيغ الأمريكية والأوروبية وتعمم على العالم، ولكن إلى أي حد هذه الخشية صائبة في فحواها أو في نواياها؟ إذ أن الصيغة الأمريكية ليست واحدة وكذلك الأوروبية، كما أن مجال الرؤى المسرحية في أمريكا وأوروبا واسعا وغنيا بتنوعه، فكيف يكون المسرح هناك صيغة واحدة؟ وكيف نحجر على المسرح في عالمنا العربي فرصة استثمار هذا التنوع وثرائه الفني والتقني؟ ثم هل يمكننا غض الطرف عن النصوص المترجمة وغير المترجمة والتي غذت وعينا ومكتبتنا المسرحية وتجربتنا المعملية في المسرح؟ ألم تسهم هذه النصوص التي نتلقاها لحظيا عبر المواقع الإلكترونية المتعددة وهي من فضائل العولمة طبعا، ألم تسهم في انفتاحنا على العالم وتجعلنا أكثر اقترابا من قضاياه؟
يقول البروفيسور الفرنسي ميشيل كورفان: «إن إيجابيات العولمة في مجال المسرح هي انفتاح المسرح على العالم الذي أصبح صغيرا ومؤطرا من خلال وسائل الإتصال»، قال انفتاح وليس انصهار أو ذوبان كما تروق العبارة لكثير من منظري العولمة الذين يريدون أن يتوصلوا إلى نتيجة مفادها باختصار شديد محو العولمة لثقافتنا وهويتنا تماما، حتى وإن تعددت مفاهيم هذه الثقافات والهويات في مجتمعاتنا العربية أو تملكت قابلية التعدد، والانفتاح بدوره يهيئ للتطور ومعرفة الآخر بشكل أعمق، لذا لا ينبغي أن نفصل مثلا كل النماذج الفضائية السائدة في بلداننا العربية على جسد المسرح بالضرورة وإن استفاد المسرح التجاري الاستعراضي كثيرا من تقنياتها وخاصة الترفيه، وربما الميزة الأهم التي أنتجتها العولمة، هي التحول والتجدد اللحظيين الدائمين، الأمر الذي يجعلنا أمام تحديات غير عادية في المسرح، ذلك أنها تقترح علينا إيقاعا آخر للتعاطي مع المسرح، وعلينا أن نكون مهيئين له أيضا باستمرار، نحن الآن هنا في قلب العالم وأمام انقلاباته وتقلباته اليومية الهائلة والعصفية، ولا يوجد مكان لوهم يطلق عليه عولمة تلغي الخصوصيات والثقافات وكما لو أن هذه الخصوصيات والثقافات واحدة وقارة ولا تتغير، ولا مكان لإصرار على أن العالمية تنطلق من الخصوصية وتكرسها وبالتالي تأخذنا النستلاجيا نحوها بشكل بكائي غير عادي، فالعالم الآن انفتح على بعضه وعرفنا أكثر من أي وقت مضى خيره وشره، وصارت العولمة هي قارتنا، غرفتنا الكونية التي اختزلت الكثير من القضايا عبر تقنياتها البصرية اللامحدودة في المسرح ، ومن هذه الغرفة تتشكل رؤى المسرح والمسرحيين وتنطلق في أرجاء الكون، تنطلق متعددة الأجنحة والرئات، إذ أن هناك من لا يزال يعتقد أن: «العولمة هي ضرب للاختلاف والتعدد والتنوع وإقصاء للأصوات الأخرى، وهي مركزية تلغي كل الهوامش، وبذلك تفرض ثقافة نمطية تقوم على أساس مسرح وحيد وأوحد لا يمكن الخروج عنه» .
نعتقد أن العولمة فضاء أسهم في تعميق الاختلاف بين الرؤى وتخليقها، ذلك أنها أتاحت مجالات هائلة للحوار وتبادل الرؤى والنقد والخلق والإبداع، ولعل بعض المخرجين المسرحيين تمكنوا من خلال المواقع الإلكترونية خلق مشروعاتهم المسرحية ورسمها والتشاور والتحاور فيها، الأمر الذي أكسب هذه المشروعات روحا أكثر انفتاحا على العالم وأكثر اتصالا به، فكيف تقصي العولمة الأصوات الأخرى وهي تستقبلها بشكل هائل لحظيا، فقط جولة صغيرة على بعض المواقع لترى كم الاختلافات والآراء حول موضوع أو فيلم أو كاريكاتور بث من خلالها، وبالتأكيد أن هذه الحوارات ستقترح في المستقبل صيغا أخرى غير تقليدية للحوار والصراع ولأفضية النص والعرض والتلقي، كما ستقترح أيضا صيغا جمالية وتقنية أكثر لسينوغرافيا العرض المسرحي وستتقاطع من خلالها فنون ووسائط متعددة وستكون مساحة الفعل في المسرح مجسدة ومعضدة، كما ستتخذ حيزا أكبر في مواجهتها كل الجرائم التي ترتكب في العالم في حق الإنسانية..
مسرح الفضائيات ..
وإذا ما عرجنا قليلا نحو القطاع الخاص في الوطن العربي ، سنرى أنه يحمي سلعته ، ويبحث عن المستهلك المخلص لهذه السلعة ، فهل تتوفر هذه السلعة لدى المسرح الجاد ؟ وهل لغة هذا المسرح بإمكان هذا المستهلك أن يقبلها أو يتذوقها ؟ إنها عسيرة الهضم بالنسبة للقطاع الخاص وبالنسبة للمستهلك ، على خلاف المقبلات والإبهارات اللونية والجرافيكية التي تنتجها الفضائيات ومسرحها ، إذ كل إمكانات الجذب والإغراء متوفرة فيها وبشكل ديمقراطي غير عادي ، فمتى شئت غيرناها وبرهن إشارة منك ، فالسوق بالنسبة للقطاع الخاص فوق كل اعتبار ، إذن عليك أن تتحدث بلغة السوق كي تحظى بالرضا والقبول ، وهكذا يشكل القطاع الخاص سلطة أخرى تواجه هذا المسرح المغلوب على أمره ، سلطة لديها خبرائها ومستشاريها ومهندسيها وأسهمها المشتركة مع تجار الفضائيات ومسارحهم ، وأستثني هنا واحدة من التجارب المسرحية التجارية التي استثمرت التقنيات والخدع البصرية بما يضيف ويغني فحواها وشكلها ، وأعني بها مسرحية ( موجب ) للمخرج محمد الحملي .
ومسرح الفضائيات يتسع حضوره ويتجلى باستضافته كل منتجات  الفضائيات الفيلمية والشخصية والتقنية ، فالشخصيات الكارتونية والغرائبية وأفلام الواقع التي تبثها الفضائيات تجد صداها التجسيدي القوي في مسرح الفضائيات ، وكذلك الإعلانات بتقنياتها اللافتة والجذابة ، إذن كلما اتسعت شاشة الفضائيات في مسرحها المدلل ، كلما ضاقت أفضية المسرح الجاد واشتد الحصار على لغتها وعلى من يتجسدها أو يتجسد فيها .
ولكي نعرف حجم ومساحة تعاطي المسرح الجاد ، نضرب مثلا بالمهرجانات المسرحية العربية ، فمن ياترى يقصدها أو يرتادها غير المسرحيين أنفسهم وبعض الأصدقاء من المثقفين ؟ وحتى هذه المهرجانات
أصبحت في الآونة الأخيرة تستضيف بعض العروض الفضائية وبعض نجوم الفضائيات كي تضمن تحقق رصيد لا بأس به من الجمهور ، وكي تضمن أيضا زخما إعلاميا ينتشلها من السقوط في هاوية الإحراج ،
إذن نجوم الفضائيات هم نجوم المسرح الراهن ، والمسرح الجاد صار حسب بريشت آخر وسيط يحظى بحريته ، ومجانينه آخر من يأتي ذكرهم ، فلغة الفضائيات لم تكتفي بتغيير لغة المسرح فحسب ، وإنما تجاوزتها لتغير النسق العام لخارطة المسرح برمتها في الوطن العربي ، ولتؤسس بذلك انموذجا ثقافيا مرعبا يشتغل كالبوليس السري المعلن في عصر العولمة ، وقلبي على الفنانين المبدعين الفدائيين الذين نذروا طاقاتهم وصحتهم للمسرح الجاد والرفيع ، والذين صاروا في العلن كمن يعمل سرا !!
                                          والفضائيات حفظها الله ، لم يتوقف سريان مفعولها عند هذا الحد ، بل تخطته لتصبح قضايانا المصيرية الكبرى معالجة سهلة ورخيصة تتشكل وفق إيقاعها اللغوي اللهاثي السالف الذكر ، ولتدخل في حيز الترويج الفضائي الرخيص ، وليصبح المجتمع العربي أول من ينعم بسعادة جهله ، ولتتسع شاشة المسرح الفضائي لتقضي على آخر رمق تبقى لأهل الهم والحلم في المسرح الذي نريد ونحلم .
خلاصة ..
إذن لنفعل ونتواصل مهما تباعدت الجغرافيا أو اقتربت أو عمقت الصراعات والفروقات، ففي واقع مثل واقعنا العربي وديمقراطياته شبه البائسة، يبقى المسرح حريتنا الأخيرة ومنطلقنا لحوار وإدانة الآخر والتعاطي مع منجزاته، فلعل المستقبل كفيل بأن ينبهنا إلى أهمية وضرورة أن نكون منتجين لذواتنا ولطاقاتنا باستمرار، بدل أن نستهلك أنفسنا في البحث عن منحرف آخر ضل عن جادة الديمقراطية..
أسئلة كثيرة بعد لم تسأل وتوجه إلى من يقف ضد مد التطور النووي في عالم التقنيات البصرية وبيئات اشتعالاتها الفكرية ومن ينضم تحت لوائها وهي كلها في رأيي تحديات تواجهنا بمرارة إذا ما ورد الحديث عن التحديات نفسها ، فكيف يتحدى من غاب السؤال عن رأسه والمسرح في أصله أسئلة على راهن الواقع ومستقبله ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت