مسرح عمار نعمة جابر و الانطباعات الحسية والخبرة الجمالية/ محمد كريم الساعدي
ينطلق الفيلسوف الاسكتلندي التنويري ( ديفيد هيوم) من نظرة عامة في البحث عن معرفة جديدة قائمة على الخبرة التي هي من نتاجات العقل والانطباعات العقلية والتي تتكون على شكل وحدات فردية في الداخل الذهني الإنساني ، وقد أطلق على هذه الوحدات التي تشكل الخبرة الكلية بالمدركات الحسية الفعالة التي يستخدمها الفرد في تحسس العالم الخارجي وتكوين معطيات معرفية عنه ، لكنه أصر على أن العقل هو من يشتغل في تشكيل هذه الخبرات الحسية واستحصال المعطيات المعرفية من العالم الخارجي بطريقة تعطي للعقل حق الريادة في المعرفة المتكونة ، وإن هذه الوحدات التي يتم استحصال المعلومات من خلالها هي في الاساس مرتبطة حسب المعرفة لدى هيوم من خلال ثلاثة مبادئ هي ( التشابه، و التماس أو التجاور، والسبب والنتيجة ،أي الأثر) . وكل واحدة من هذه المبادئ تؤدي عملها على وفق سياق عمل محدد لها حسب فلسفة هيوم ، فمثلا التشابه يعمل من خلال تشابه عدد من الأفكار المتقاربة والمتشابهة التي تؤدي الى بناء سياق من التواصل بينهما ، مما يؤدي الى التلازم وبالتالي التماس والتجاوز على الحدود الفاصلة بينهما ، ويعطينا بالأخر الأثر الذي تتركه الأولى بالثانية وهو ما يسمى بالنتيجة ،أو السبب الذي يترك الأثر بين هذه الأفكار المتقاربة والمتماسة .
إن النص المسرحي يستدعي تطبيق ثلاثية هيوم في التفحص والتقارب في مدركات الكاتب التي تشكل وحدات حسية تعطيه التقارب مع ما يحيطه من أفكار ساقتها اليه افكاره التي يرى أنها متقاربة ومتشابهة مع ما في ذهنيته المتوقدة بالقضايا الكثيرة التي فرضتها رؤيته العقلية على واقعه الخارجي ، وبالتالي الى بناء تصورات قد تكون هي من المعطيات التي يتحرك من خلالها الكاتب في استنتاج قضايا عصره ومتطلبات وجوده ، ومن هنا تعد رؤية هيوم التي تدعم الأنسان في تكوين عقل مستقل قادر على أن يستثمر وجود أفكار مترابطة مع حقيقة توجهاته في داخل محيطه .
والكاتب المسرحي العراقي (عمار نعمة جابر) من مواليد الناصرية ، ومن الذين تجسدت في نتاجاته المسرحية العديد من أفكار فلسفة هيوم وثلاثيته المذكورة في مقدمة المقال . إذ قدم (جابر) عدد من النصوص والتي وصلتني منها بإمضائه في ثلاثة إصدارات وهي (انتباه ، وشاورما ، وخريف التماثيل ) ضمت (36) نصاً ، أختلفت في عناوينها بين افكار ورؤى الكاتب والقضايا المتجاورة معها من قضايا الوطن ، والاختلاف هنا ليس في طبيعة الصيغ النصية كأن تكون في طريقة اختيار النوع المسرحي في الكتابة ، أو الاساليب المسرحية المختلفة ، ولكن الأختلاف في الأفكار ومدى تطابقها واقترابها من بعضها ، أي أن كل فكرة للكاتب قد جذبت موضوع مجاور لها قد أختلفت عن الموضوع الاخر الذي جذبته فكرة أخرى متطابقة ،أو متجاورة معه .
إن قراءة أفكار جابر في نص (خريف التماثيل) ، ونص المسرحية التي حملت عنوان الإصدار بمسرحياته الأخرى ، نقرأ في بدايته الحوار الآتي : ((غاسل الموتى : (متذمراً) دعوة أخرى لغسل الموتى .. دعوة لا تعرف كيف تباشر فعلها وسط هذه الليلة الباردة جداً )) في انطلاقة لأفكار الكاتب المتشابهة مع تصورات الشخصية والمتحدثة معها من خلال شخصية الشبح والتي استدعت فعل متقابلاً لجذب التشابه مع هذه الأفكار فـ(( الشبح : أراك منزعجاً هذا المساء .. غاسل الموتى: (يتحدث مع الشبح) شبح آخر.. الشبح : شبح لا شيء آخر .. غاسل الموتى : تعودت عليكم .. الشبح : أرى أنك تشترط على زوار دكتك ساعات موتهم ؟.. غاسل الموتى : (يتحرك) أنا أعرف ليس بأيديهم هذا الموت ، لكن ماذا لو اختاروا ساعات أفضل للموت ،وللغسيل ، توقيتات ضمن ساعات العمل الإنساني الممكن )). هذه الأفكار التي تصدر من ذهنية كاتب جعل مدركاته الحسية تلجأ الى موضوعات تقترب من التضمين عن الموت الذي من الممكن أن يهدأ في تصوراته عن وطنه وأبناء جلدته ، فالشبح يحاول أن يحاور غاسل الموتى عن شكل الحياة في الخارج ، أي خارج العبور الأخير وهو مكان التغسيل ، مقابل الحياة التي لا يمكن أن يعرف غاسل الموتى ولا عمار نعمة جابر عن طبيعتها ، كون الوطن أصبح دكة لتغسيل أبنائه ومعبراً لهم في هذه المساحة الضيقة التي لا تعرف ساعة للراحة الإنسانية وكأن الموت مستمر دون راحة في هذا الوطن ، التشابه ، والتماس والتجاوز ، والسبب والنتيجة التي تؤدي الى الأثر هي من ممارسات المعطيات الحسية للكاتب في بيئة تجاذبت فيه أفكاره أفكار أخرى في تماس حسي وتقارب مع ما يراه فكره الباحث عن صورة وطن مغايرة لا يجدها سوى في ما بعد الموت وهي الراحة الأبدية
** محمد كريم الساعدي
استاذ دكتور في فلسفة خطاب ما بعد الكولونيالية وجماليات الفنون