نص مسرحي: "ملاك"/ تأليف: د. نزهة حيكون

اهداء الى أصغر معتقلة في السجون الإسرائلية ملاك الخطيب

 

المسرحية منودراما  تصور أو تحاول التسلل لخبايا نفس طفلة مراهقة،  أو في بدايات حياة الشباب و النضج النفسي و الجسمي، سيزج بها الكبار في حساباتهم غير المفهومة، هي من وحي ما حدث للطفلة “ملاك الخطيب”. أصغر معتقلة تعرفها السجون الإسرائيلية.
 المسرحية في ضوء ظروف التأليف هذه ليست بالأساس محاكمة لأحد، بقدر ما هي رصد لحالة نفسية، و تتبع لطفلة جعلتها الأحداث في بلدها تعيش وضعا متأزما أكبر من أن يستوعبه عقلها الصغير المفعم بأحلام و خيالات عن غد لم تتحدد ألوانه بعد..
المشهد الأول: زغرودة أمي
المعتقل.. المكان غير واضح المعالم، يعمه السواد و اللون الرمادي الكئيب، كرسي صغير بالجانب الأيمن و بعض الأغطية الرثة، و وسادة صغيرة، و آنية قصديرية ..
تظهر ملاك، فتاة في بداية العقد الثاني، ذات شعر ناعم منسدل على الكتفين، وملامح طفولية خائفة.. صوت زغاريد يرتفع ليعم المكان، تتحرك ملاك مضطربة باحثة عن مصدر الصوت..
مـــلاك : زغرودة أمي .. نعم إنها أمي تزغرد.. نعم إنها أمي.. تزغرد، تملأ المكان بصوتها القوي..  هي تخاف الوحدة مثلي.. النساء في قريتي وحيدات يملأن المكان بزغاريد كالصراخ .. كالعويل.. كالنحيب.. هن يدفعن بها الوحدة و الوحشة..( تعود للبحث عن مصدر الصوت ) تُرى لماذا تُزغرد أمي؟ هل نطقت أختي أولى كلماتها.. هل بدأت تمشي في فناء بيتنا المُهدَّم؟.. هل استطاعت قدماها الصغيرتان أن تحملانها خارج السور.. قد تجتاز السور ببراءة خطاها.. أما أنا فلم يُسمح لي أن أجتازه، و المرة الوحيدة التي فعلتها فيها وجدتُني هنا..( تتأمل المكان )..
هنا حيت الجدران النتنة، و الأبواب المُغلقة.. صرت أتخيل أشياء و أصوات غير موجودة.. خيالات وأحلام ..( تضحك ) قالت لي أمي أن أبي كان كثير الأحلام.. هامته في السحاب، حتى في جنازة استشهاده حمله رجال بطول جذوع النخل في الحقول البعيدة.. تقول أمي أن نعشه كان يلامس السحاب حتى امتزج البياضان.. لذلك كنت كلما سألتها عن أبي تقول إنه في السماء.. أبي كائن حالم، يحب الحياة، لذلك لم يهادن يوما، فغادر باكرا ( تتجه صوب الكرسي و تجلس ..) 
أمي هي الأخرى أحبت الحياة ربما أكثر منه، لذلك ما فتئت أن تزوجت عمي عماد الرجل الصامت واللطيف، الذي يكره الصوت المرتفع.. أُحسُّه يرتعش من خطوات الأقدام.. كان كثير الخوف.. النساء في ضيعتنا يقلن أن أولاده الثلاثة كانوا خيرة الشباب، و كل الفتيات يطلبن ودهم في كل حين، أما أنا فلا أذكر غير أياد بأصابع طويلة كانت تحملني على عنق أشم كالجبل، ترفعني عاليا لأرى العالم خارج السور، أعناق تفوح برائحة العرق و الدم، يوم شيعتهم الحياة عمَّ المكان ضباب كثيف، و خيم حزن أسود على الشجر و الحجر، من يومها لم نر العم عماد إلا جالسا أو منحني يسير دون حراك، لم يفهم أيٌّ منا كيف عاد إلى الحياة، و هل هي عودة للروح، أم هي حلاوة الرمق الأخير..
كانت أمي هي الأخرى تُحس بانكسار في قامتها،  هما معا حاولا العيش فقررا الزواج، عندما بدأت بطن أمي تنتفخ، أحسست أن الحياة تدب في البيت الذي تهدم نصفه، ونصفه الآخر يقف متهالكا ينبئ بالتلاشي و النهاية المفاجئة، و حقيقة لا أدري لماذا تزغرد النسوة كلما دخلن عند أمي، ربما فرحا بالحياة التي تسللت إلى جسدين خائفين.. كلما انتفخ بطن أمي كلما ازددت شوقا للقادم من براثن الوحدة و الغربة.. العم عماد هو الآخر بدا أكثر تحررا من كآبته، و قامته تنتصب من حين لآخر، خاصة عندما ينظر إلي ويبتسم، و يصرح برغبته بأن يكون القادم فتاة جميلة مثلي، كنت أعرف أنه لا يريد رجالا يُلْقِمُهم للثرى..
صرخات أختي ليلى و هي تطأ حياتنا كانت إيذانا بعهد جديد في بلدتنا الصغيرة، النسوة تأتين بصحون مغطاة بها مأكولات خاصة بالأم النافس فقط، و محذور علينا نحن الأطفال الاقتراب.. الزغاريد تملأ المكان.. في عيون أمي فخر و اعتزاز كبيرين، أنوثة تفوح في كل الأرجاء، بل حتى عيون الرجال صارت أكثر رقة و حنانا، كانت ليلى عربون فحولة صامدة، جاءت تعويضا عن محصول الأرض الذي كان هزيلا تلك السنة..
استطعت أنا أيضا أن أنعم بحرية أكبر، فلم تعد خطواتي محاصرة بنظرات أمي ، و صراخ خالتي، استطعت أن أجد متسعا من الوقت لأرافق الصبية خارج السور، كانت أول مرة أكتشف العالم خارج منزلنا و خارج السور، بل أول مرة أكتشف أنه ليس سورا، بل مجرد جدار أغلبه متساقط على الجوانب حجارة مكومة بلا ترتيب،  كله ثقوب، و  أرى العالم مساحات شاسعة شساعة الحلم، مساحات تغري بالاختراق ركضا و جريا، الرياح خارجا كانت بملمس آخر أكثر استفزازا.. و رغم أن أمي لم تدر بخرجاتي تلك، إلا أنها لم تكن تتساءل، كانت منشغلة مع الرضيعة، و فرحة بعربون أنوثتها، فلا تتورع عن الحديث  الدائم عن أوجاعها و عن الرضاعة، و السهر، و تغيير الحفاظات، و بكاء ليلى المتكرر، وحرارتها غير المستقرة، و أسنانها، و..و..و..
لم تُجِد  أمي يوما سرد القصص و  الحكايات، لذا لم أتعود النوم إلا على موسيقى مذياع صدِئ، موسيقى كثيرا ما كانت تنقطع ليتخللها كلام كثير عن أشياء لا أفقهها، كلام بنبرات مختلفة تتراوح بين التباكي، و الصراخ، و الضجيج غير المفهوم، و مع ذلك صرت لا أنام إلا على هذه الإيقاعات المتضاربة، هذه الإيقاعات أصبحت كأنها امتداد ليومي، هي شبيهة بتراشق الجمل بين الصبية في الساحة، حيث تختلط ضحكاتنا نحن بهمهمات الرجال يحملون فؤوسا و معاول، و بهمسات الشباب يحملون بنادق و يكوّْنون مجموعات، كخلايا النحل، تختلط أيضا بآهات النسوة  فوق الهضبة يرقبن قرص الشمس ملتحفات بالسواد، ايقاعات تشكل مزيجا جميلا مع زغاريد أمي فرحا بأولى خطوات ليلى، و  أولى كلماتها..لذلك عندما أنام أنا على صوت المذياع أشعر أنني لا أنام بل أفرح لأنني ربحت نهارا آخر، و لم أستسلم لجحافل الليل التي كانت تخيفني و تجعلني أوقف الركض واللعب و التغني بالحياة، نعم أنا أحب الحياة في ضيعتنا الصغيرة، و إن كنت أتوق للخارج أود أن أكتشفه، أن أغوص في خباياه، و أختبر نغمات جديدة غير  تلك التي تنبعث من مذياعي الصدئ..( تسمع من جديد صوت الزغاريد..) و أنا أسمع زغاريد أمي من بعيد الآن أدرك أن ذلك محال، و أشتاق للنوم و أنا أشم رائحة أختي الصغيرة، التي بدأت تخطو و تختبئ في حضني لتنام.. ( تتجه صوب ركن قصي و تتمدد لتنام..)
المشهد الثاني: أصوات بالخارج
تستيقظ ملاك مذعورة، و قد سمعت أصواتا بالخارج.. تقفز من مكانها بخفة، و تحاول استقصاء الأمر بالكثير من الحيطة و الحذر..
ملاك: هذه الأصوات من جديد، رغم أني ألفتها إلا أنها توقظني من نومي بفزع شديد.. (ترهف السمع..) هي خطوات ثقيلة، أحسها، و أسمعها تقترب.. تبتعد.. تسير بنزق.. وتضرب الأرض أحيانا بقوة، تسرع و تبطئ، مرات كثيرة ظننتها ستلج المكان لكن دون جدوى، لا أحد يرغب في مؤانستي هنا..
هذه ليست خطوات إنسان عادي، هي خطوات ذاك الذي كنا نسمع عنه في حكايات الباتول، الإنسان الوحش، صاحب الجسد المنقسم، نصف بشر و نصف حيوان، هو وحش أدمي، أو أدمي وحشي، أرجل خشنة بفرو مقزز، وجدع رجل بملامح قاسية، و عين واحدة تحجر من ينظر إليها، أجدني أحيانا أخفي وجهي بين ذراعاي، كأنني سأتحجر عندما يزورني صاحب هذه الخطوات، صراحة تمنيت مرات كثيرة لو يدخل، و أجرب اللعبة، لكن هل الواقع كما الحكايات، هل سيأتي من يخلصني من السحر و اللعنة ويعيدني إلى طبيعتي كنهاية سعيدة لقصة حزينة.. تمنيت لو يأتي فقط لأجد أحدا أتحدث إليه.. (تنصت بتربص..) إنها الخطوات من جديد، هو قادم؟.. سيدخل ربما؟..سيأتي ليحادثني ليؤنس وحدتي ؟.. هل يحب الحكايا؟.. هل يعرف كل اللعب؟.. عما سنتحدث؟.. أنا لا أعرفه.. و هو هل يعرفني؟.. هل يعرف ضيعتي و أهلي؟.. أهو من جاء بي إلى هذا المكان؟.. أين أنا الآن؟.. لماذا أنا هنا؟.. هل أجد عنده إجابات لكل هذه الأسئلة؟..( تسمع صراخا و أصواتا غير واضحة..) ما هذه الأصوات؟.. صراخ؟.. بكاء أيضا؟.. هي فتاة أخرى.. لماذا جاؤوا بها هنا؟.. هل خرجت هي الأخرى من سور الضيعة دون إذن؟.. هل تجرأت على اختراق المساحات الشاسعة، و النظر إلى قرص الشمس مثلي؟..ليتهم يدخلونها هنا.. (تعيد إرهاف سمعها..) لا هذا صوت صبي..  ما ذنبه؟.. أهو مثل وائل ابن جارتنا زينب؟.. ( تضحك..) كان مشاكسا، يحب رفع ديل فستاني ليضربني بحدائه المقوس، لكن أمه كانت تنهاه فذلك كما تقول لا يجوز من صبي في حق فتاة.. هو يحب لعب دور الجندي المتسلط، كان يقول لنا دائما أنه هو من يحمي ضيعتنا من الأشرار (تتأسف..).. تلاشى الصوت، أخذوه إلى غرفة أخرى.
أعرف الآن أني في المكان الذي يعاقب فيه الأطفال على مشاكساتهم و عدم سماعهم لنصائح الكبار.. هم في الضيعة يعرفون مكاني لا محالة ( تجلس متأففة..) لكن عقابهم طال كثيرا هذه المرة.. هل استطاعت أمي أن تنام دون أن تقبلني، و تتمنى من الله أن يحفظني أنا و أختي؟ لن أصدق أن العم عماد له دخل في هذا العقاب، هو يحبني كثيرا، و يعرف أن ليلى متعلقة بي، و لا يحلو لها اللعب إلا معي..( تعود الأصوات لتتعالى) الأصوات من جديد.. الأصوات هذه المرة أكثر علوا.. هي مختلطة..( تذهب جهة الباب وترهف السمع..) رجال؟.. نساء أيضا؟..فتيات صغيرات؟.. صبية؟.. ما هذا كل الأعمار هنا؟.. كيف ذلك؟.. المكان ليس مخصصا لعقاب الصغار فقط؟.. ما هذا المكان؟..( تجلس القرفصاء و خدها على الحائط.. تستمر في الحديث و الإنصات..) هم يبكون كما بكيت أنا أول مرة.. هناك من يصرخ.. ماذا؟ أصوات ضربات و لكمات؟.. هو التعذيب؟.. إذا كان الكبار يعاقبوننا على ما نقترفه من شغب، فمن يعاقبهم هم؟.. بالتأكيد لسنا في جهنم..( تتأمل تفاصيل المكان) هذه الأشياء في المكان تنتمي لحياة أهل الأرض.. كرسي، فراش، غطاء، جدران إسمنتية.. كلها من الحياة الدنيا.. جهنم كما تصورناها، هي لهيب، و أشواك، و حمم ساخنة.. قد تكون الأصوات جزءا منها.. لكن ليس في جهنم غرف خاصة لكل مذنب.. البتول عجوز الضيعة، يقال أنها عاصرت أقواما و أجناسا لم يعرفهم حتى أهلنا.. كنت أحب حكاياتها عن الجن، و عن العالم الآخر الذي ينتظرنا في السماء، عندما نجتمع أسفل قدميها تحركنا كالعرائس، خيوط حكيها تأخذنا يمينا و شمالا، تصعدنا سابع سماء، و قد تخسف بنا إلى أسفل سافلين.. هي تبدع في خلق عوالم من محكيها، ورغم أن أغلبنا كان يقوم خائفا مرتعشا، فلا نستطيع إلا العودة و الاستسلام لمخيلتها التي لم تهرم كما هرمت أطرافها، و تسلَّخ جلدها..البتول وصفت لنا أحوال عن أهل جهنم لكنها لم تصف ما أسمعه الآن..كنا نحب وصفها للجنة الموعودة للشهداء، وإن كنا لا نفهم ما تقول جيدا ولكننا نعرف أنها تتحدث عن أولئك المحملين يوميا على الأكتاف، تعلمنا أن نسير في مواكبهم، و نردد ما يردده الكبار، أحيانا نغبطهم لأنهم ذاهبون إلى الجنة، البتول أطالت في وصف جهنم و نارها التي تفصل الجلد عن اللحم، لذلك صرنا متيقنين أننا في الضيعة جميعا إلى الجنة، و من بالخارج هم جهنم التي لا يجب أن نقربها، يكفي أنهم يبعثون لنا بعضا من نيرانها في قذائف تتساقط كالمطر  على المنازل، و تحيلها أكواما من التراب..
أين هي البتول الآن؟.. تعودت النظر إلى العالم من خلالها، كانت نافذة مفتوحة على الريح، نافذة تجعل ضيعتنا أكبر، و حياتنا ملونة بألوان منسجمة حينا، و متنافرة حينا آخر، لكنها تجعل لحياتنا معنى بعد أن غاب عنها الأهل الذين ينشغلون عنا في عمليات الدفن اليومية لأولئك المحملين على الأكتاف ، و عمليات ترميم البيوت المهدمة، و البحث في الأرض عن محاصيل زُرعت لكنها لم تحصد بعد..(تعود الأصوات لترتفع .. تحاول ملاك تبيُّنها..) الأصوات، إنها تعود من جديد، ما هذا؟.. بكاء؟.. نحيب خافت؟.. ضربات الأقدام نفسها؟.. تعود الرائحة النتنة لتُفسد الهواء الفاسد أكثر فأكثر.. (تغلق أنفها وبعده أذنها..) كل مسام جلدي تتقزز .. الأصوات كما الروائح تبعث في أحشائي رغبة في التقيؤ..(تتقيأ..)
المشهد الثالث: باب موصد..باب مفتوح
تستلقي ملاك على الأرض واضعة خدها على يديها، و تشم الأرضية.
ملاك: رائحة التراب .. لا أستطيع أن أشم رائحة التراب؟.. هذه الطبقة الصلبة تحجب الرائحة الزكية.. هناك حيث الأهل و الأصدقاء كنت أشم رائحة التراب المبلل أحيانا، والجاف أحيانا.. لكنها في كلتا الحالتين كانت رائحة طيبة، عندما يكون التراب مبللا لا نمل من اللعب بأرجلنا حفاة، نخضبها بلونه الوردي الغامق، فيصير الوحل حداءا بنيا ييبس على الأقدام، و لا تزيله إلا المياه.. أما عندما تجف التربة فهي تصبح مسحوقا ناعما ننثره فوق الرؤوس بذور فرحة ننتظرها أن تورق.. هنا لا أجد رائحة التراب.. لا أجد أي شيء..
عندما كنا نلعب و نتراشق بالتراب مرة و بالوحل مرة، و بقطرات الماء على قلتها مرات أخرى، كنا نسمع الرجال يتحدثون عن الأرض، عن التراب و قيمته التي تعادل الروح، أما النسوة فكن تضعن أياديهن على الأرض و تبكين، تقلن أن أجزاء منهن تحث الثرى، وأنا لا أفهم، نحن الأطفال كلنا لا نفهم، و ربما لم نكلف أنفسنا عناء التفكير بغير اللعب، وصدقا نحن كنا نعرف أنهن تتحدثن عن الذين شُيِّعوا على الأكتاف، لكننا لا نرغب في أن تُنتزع فرحتنا باللعب و اللهو..
البتول هي الأخرى كانت تحدثنا عن الأرض، في أحد جلساتها الساخنة بحكايا الجن و الملائكة، أمسكت حجارة كثيرة و وزعتها علينا، كانت تقول: الحجارة سلاح .. الحجارة حيلة من لا حيلة له، ونحن كثيرا ما لعبنا لعبة العسكر و اللصوص، و تراشقنا بالحصى لتصيبنا في كل أنحاء أجسامنا، لعبة جميلة تستهوينا، كنا نتسابق للعب أدوار العسكر، نفضلها عن أدوار اللصوص. لكننا نتفق و نتبادل الأدوار من حين لآخر.
هنا لا رائحة للتراب، و كأننا لسنا على الأرض، كوكب آخر ليس من تراب و طين، هو ليس للبشر بالرغم من هذه الأصوات التي تتناهى إلى سمعي .. مع من سألعب و أتسابق و أتراشق بالحجارة، هل من جسر للعودة إلى ضيعتي .. يسكنني الغضب .. و لا أستطيع أن أثور من صمت وفراغ.. أيمكن أن أشم أولى قطرات المطر و هي تدغدغ الجدران المتآكلة في بيتنا، صوت أمي الدافئ .. لا أستطيع سماعه هنا.. هنا الأوقات تتشابه، لا وقت للنوم و لا وقت للعب و لا وقت للغناء و الجري و تنشق الهواء.. هنا كل الوقت للخوف، للخوف و الفزع، لا ضوء و لا هواء، يد  خشنة تتسرب من المجهول لتملأ هذه الآنية القصديرية بطعام لا أظن أن القطط أو الكلاب الضالة يمكن أن تستسيغه.. أنا أصلا لم أعد أشعر بالجوع..(تتحسس جسمها الصغير) ألا زالت لدي أمعاء.. ألا زالت لدي أقدام و أيدي.. أعين و أكف و جلد.. لا لا أظن، لم أعد أحس بمسام جلدي.. كلها صارت كأرضية المكان صلبة إسمنتية،  و لا منفذ فيها للهواء و  للألوان، الألوان في ضيعتي كانت بحجم قوس قزح وبحجم فرحتنا بالغيث (تقطع المكان جيئةوذهابا)غضبي لا يريد أن يهدأ، هل أستطيع أن أحطم قيودا لا أراها و لا أعرفها، لا افهمها.. فجر أحلامي كان يشرق هناك، لا أستطيع من هنا أن ألقي تحية الشمس كل صباح، لا أنجح حتى في تعرف المكان و لا الزمان، كانت الألوان تشكل حزمة من الضوء، نتأمل السماء فتنفرج أسارير النهار و الضحكات من القلب، فوضى مجنونة ترافق كل الأوقات، و قمر يرافق لياليَّ الهادئة، أما هنا فلا شيء ينجح.. (تتحسر بآهات متألمة)  كنت لا أفكر في التوقف أو العودة إلى الوراء، أجري و نجري كالفرسان نسابق الريح إلى قرص الشمس..ليس لي يد في هذه النتانة، لا ذنب اقترفته غير اللعب و الجري في المروج، كيف الخلاص؟ كيف الخروج من قيد غادر، من متاهة لم أختر ولوجها.. أمي (تصرخ ) أمي .. عمي عماد.. ليلى أختي حبيبتي أين أنتم؟ أي الطرق أسلك إليكم؟ يا بيوت ضيعتنا المهدمة؟.. يا فوانيس الضوء في أمسياتنا العابقة برائحة القهوة و دفء القلوب.. اشتقت إليكم جميعا ..أين الطريق و السبيل لأصلكم لتصلكم نداءاتي، أبحث عن باب للأمل (تبحث في كل مكان علها تجد بابا تخرج منه ) باب موصد و باب مفتوح للألم، باب مفتوح و باب موصد للأمل..أين أنتم؟.. أين أنا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت