نص مسرحي: "المزلاج"/ تأليف:عبد العزيز طيبي
(يسمع صوت المزلاج يدفع شخص على الخشبة. يسود صمت رهيب. وحيدا على الكرسي جالسا، ينهض يتفحص المكان الواسع الذي لا تحده أسوار. فقط نور من عمق الركح وكأنه شمس يضيء الشخص من الخلف).
الشخص: تتحرك في هذا المكان وكـأنك في اللا مكان…لا حدود…ولا حيطان …كالعالم لا تحده إلا في أرجاء نفسك…. لن أسأل نفسي من أكون ولا كيف أُحضرت إلى هنا .إلى هذا المكان المُسيج بما لا يُرى كما هي روحي ..فالسؤال يزيد في إحراجي .أما إن تحدثت عن كيف أحضرت إلى هنا فهذا يلخص في جملة واحدة إهانة مطلقة لإنسانيتي..
(صمت)
أسكت أو أصمت ليس هذا هو السؤال الذي يروج بداخلي، ولكن إلى متى سأتلاشى في هذا الكون كورقة كرم تحملها الرياح إلى حيت سيكتمل موتها بعد انفصالها عن الشجرة الأم…..تأكدوا أنني لن أسألكم من أنتم لأنني أعلم أنكم جزء من ذاتي ومن ذاكرتي واستمرار واجترار لشخصيات من عمق التاريخ…لهذا لن أستغرب …فأنا لن أكون الأول أو الأخير فالأحداث تتكرر والأشخاص تتكرر والضحايا تتكرر بنفس الأساليب وبنفس الطرق فصناعة الخوف لم تتبدل مادام الفعل واحدا. فعل القتل والتفنن فيه الذي هو من اختصاص أشخاص لا يخلدهم التاريخ كما يخلد ضحاياهم…..وقد تجلدهم الحياة علنا قبل الفناء.
(يتحرك على الخشبة في جميع الاتجاهات)
هل أنا أتحدث هكذا كي أطمئن نفسي؟….أو أفعل ذلك كي أتجاوز حالة الخوف التي بدأت أعيشها الآن وهنا، و في هذا المكان….هل حقا أنا خائف أم أتصنع الخوف؟…الخوف حالة طبيعية حالة إنسانية فهذا الغموض هو الذي يدفعني إلى التساؤل المفضي إلى الخوف…فما هي تهمتي وما هو عقابي…. ولكن من حقي أن أتساءل. من أجاز للآخر أن يعاقبني، ومن خول له أن يحاسبني ويتحكم في وقت موتي أو استمرار حياتي؟ وكيف حدد نوع الجريمة وباسم من؟ السؤال يدفع إلى البحث عن الأجوية والأجوبة تدفعك إلى استعمال العقل واستعمال العقل يعني أن تفكر والتفكير لم يعد اثباتا للوجود بل أصبح هو في حد ذاته جريمة تستحق كل أنواع التحريم و التجريم……
(صمت….يخاطب نفسه بثقة عالية)
أنت تبالغ……لا أنا لا أبالغ فتاريخ الانسانية يشهد أن كل الجرائم المرتكبة في حق الانسان كانت جرائم ضد العقل؟ والانفراد بالسلطة والامتيازات يعني .قبل أن تنفيني أنفيك….يعني من له الحق في الوجود يعني وجودي ينفي وجودك يعني….
(صمت….يتأمل….ثم يواصل الحديث بنوع من الخوف الممزوج بالحقد)
يا للمصيبة أنا أفكر…… إذن ما دمت أنا أفكر فأنا مجرم لا يستحق المحاكمة ولا المساءلة وإنما ضربة مقصلة تكف لسانه عن النطق بما أجاد به العقل من أفكار كانت مجرد تهيؤات أو ربما مجرد هلوسة تتحكم فيها رغبة التحرر من قيود الخوف والتوحد مع الروح الرافضة لكل أنواع السلط.
(يضحك)
وهل التفكير حقا يستحق أن يكون جريمة في حد ذاته؟ فماذا لو فكرت؟ قد أفكر تفكيرا إيجابيا أو قد أفكر تفكيرا سلبيا. ولكن كيف أحدد ماهية هذا التفكير وغاياته؟ فكل واحد يرجح الأشياء إلى الجانب الذي يريحه ويبحث فيه عن ذاته؟ وحتى الآخر يفكر كي يحافظ على امتيازاته، فالدفاع أو القتل لا يكونا إلا من أجل الحفاظ على المكتسبات الممكنة أو الكائنة. فالصراع إذن صراع مصالح فمن سيغلب من ومن سينتصر على من. كل واحد يستعمل عقله في كيفية الحفاظ أو كيفية إنتزاع مكاسب وبين هذا وذاك تصنع التهم ويعدم العقل ويصنع العقل والحاشية المتسلطة باسم الحفاظ على المكتسبات الانسانية يعني الرخاء والأمن. أنا لم آت إلى هنا صدفة ولن أخرج من هنا صدفة..فالذي يقلقني الآن هو هذا الصمت المريب..هذا الصمت الذي دفعني لأتساءل وربما من خلال تساؤلاتي قد تصنع تهمتي..وإن صمت شيء ما يتحرك بداخلي..قد أسميه إحساسا بالحقرة أو إحساسا بالقيود التي تقيد حريتي ككائن بشري..أُصمت حتى تنصت جيدا لم يروج حولك…..
(يصمت ثم يتحرك على الخشبة مسترقا السمع).
أكيد هناك عيون تراقبني الآن وهي تنتظر..وماذا تنتظر؟..تنتظر حالة ضعف حالة انهيار..وفقدانا للتركيز الذي سيدفعك الى الصراخ…فكل وسائل الجنون متوفرة لك…الظلمة في حضور الضوء..القلق في حضور الموت..وانت في مواجهة الخوف..في هذا المكان الذي هو في الحقيقة اللامكان…والذي لم تستطع أن تحدده ولا أن تلمس حدوده وكأنه فضاء ما بداخل هذه الأنا التواقة إلى الحرية.
(ينتفض ضد نفسه وبصوت حازم )
لن أسألكم من أنا ولن أسألكم من أنتم ؟..(يتدارك)…فلم الخوف من الصمت إذن…..إلا أنه سكون أم هدوء أم نذير لشؤم ما… لقد تعلمنا من التجربة أن الهدوء تتبعه العواصف…..وأن العواصف تسبب….
(يصمت ثم يتدارك ويواصل الحديث)
ولكن العقل البشري أصبح يراقب ويتحكم في العواصف..ويتنبأ بها كما يتنبأ بكل الأخطار المحذقة بالإنسان. فهل أنا إنسان يفكر فيَّ كما أفكر أنا في الله وتتخذ كل الإجراءات لأحمى من كل العواصف أو أُحمى من غواية نفسي التواقة إلى الحرية…..وهل أنا مقيد الآن ؟….ها أنذا أفكر في صمت وبهدوء.وهل الصمت تفكير في حد ذاته..فلماذا الصمت يخلخل توازننا النفسي ويخلق بداخلنا نوعا من اللا تركيز الذي يدفعنا إلى الجنون والصراخ
(يصرخ بأعلى صوته)
لماذا أنا هنا؟؟ ألم أقل لك..ها أنت بدأت تفقد السطرة على نفسك..لا عليك تنفس ببطء وحاول أن تتجاوز ظلمة نفسك..أطلق سراح الخيال نحو اللا منتهى سوف ترى العالم كما لم يكن من قبل وانت جالس على مقعد في الحديقة العمومية..واسع كالكون.زبرجدي اللون…(يتدارك) هذا عالم افتراضي فماذا عن العالم الذي أتنفس فيه؟ العالم الذي سيجوه بأسلاك شائكة. مجموعة من القوانين والقواعد والتقاليد..وتركوني وحدي أنا كشاة وسط الحضيرة يخرجوها كي ترعى تسمن كي يأكلها الذئب غدرا أو تأكل على أطباق السادة أو تترك للنسل. فتتناسل الشياه مثنى وثلات وتستمر العملية وتكبر الحضيرة ويقل العلف وتتناطح الأكباش وترفس النعاج..فلا الثغاء ينفع ولا الأقوى ينفع وإن تطاولت على الحدود المرسومة و قفزت على الاسلاك تكون قد أنتهكت قوانين الحضيرة وأخلاقيات القطيع. والشاة التي تخرج عن القطيع يدوسها القطيع نفسه.أو تذبح بإسم الحرية والأمن للجميع.
(يسمع صوت مزلاج فتح الباب الأول الثاني يقف…….يسود الصمت)
لا تخف فقط إنهم قادمون.يحملون جثتهم كما أنت..لا تخف فربما هو الآخر يحمل نفس همك ولكنه يداريه بإسم الواجب. تشجع..تنفس..لا تغمض عينيك فأنت لن تراهم كما يرونك، هم الآن يريدون التخلص من أعباء المسؤولية. فأنت بالنسبة إليهم مسؤولية وفي نفس الوقت قيام بالواجب ومجموعة من الأسئلة لا تحتاج إلى أجوبة لأن تهمتك هي……
(يسمع صوت مزلاج)
كم عددهم الآن..ولماذا تسأل عن العدد؟..أتود أن تعرف كم من صفعة أو ركلة سيتلقاها جسدك النحيف؟ أو كم من كلمة رصاصة ستحتقر آدميتك وتتفنن في تعذيبك النفسي. فالاهانة اللفظية أفتك سلاح ابتدعه الانسان بإسم الانسانية المزيفة.
(يضحك بمرارة)
لا تخف….تغيرت الأساليب.. يمكنك النقاش والحوار والرفض أحيانا.يمكنك أن تتحدث حتى قبل أن تشنق كي تعبر بصدق عن حبك للحياة. فرغم كل أصناف التعذيب يبقى الحلم حاضرا حتى و أنت على حبل المشنقة (يشجع نفسه) ..تجلد..تشجع.. فقط سيسألونك وأنت تجيب؟ أُسأل عن ماذا؟ وكيف لي أن أجيب وأنا لا أعرف ماهية الأسئلة؟ فهل الأسئلة هي التي تحدد التهمة أم التهمة هي التي تحدد الأسئلة أم كلاهما يحددان الجريمة وأداتها؟ وهل أنا ركن من أركان الجريمة؟ أم انا التهمة في حد ذاتها أو ذات تبحث عن تهمة ستحاك على مقاسها لتعرض على الملأ كعارضة أزياء تبحث عن الشهرة من خلال القد ورشاقة القوام وفي القلب احساس بما لا يقال.
(أصوات فتح المزلاج تبتعد)
إنهم يتراجعون..إلى أين؟..إلي أين ؟..ارجعوا..قلت لك لن تصبر كثيرا ولن تتحمل الصمت الممزوج بأصوات المزلاج . ستبدأ في الانهيار..لأن الصمت هو الخوف في حد ذاته وأنت في هذه الوضعية…فلماذا أنت متسرع وتريد أن تعرف نوع تهمتك؟ تهمتك ثابتة فأنت تحاول أن تغير مفهوم ذاتك..أغير ماذا؟.أغير من؟..أنا فقط أحاول أن أفهم لماذا أنا هنا في هذا اللا مكان….
(يتحرك على الخشبة بعصبية )
أين كنت أنا قبل أن أُحضر إلى هنا؟.(يتذكر) أنا كنت في الحديقة أشاهد كما الناس طيورا ترحل وطيورا تحط .طيور مهاجرة تبحث عن مأوى وتترك مأواها لأخرى تبحث عن وطن ظرفي يحميها كي ترحل مرة خرى..وتعود…وترحل…فهل مراقبة الطيور جريمة؟. لا أعتقد ذلك. تذكرت أنا سألت طفلا أن لا يرميها بالحجارة فهي ثروة وطنية صرخ في وجهي وذهب يبكي أيكون ابن مسؤول سياسي لا يفهم قيمة ومفهوم الثروة الوطنية كما أفهمها أنا؟..لا يمكن أن تكون هذه تهمة .. حاول أن تتذكر..لم أرد شراء الماء المعبأ في القارورات .لأنه لا يعقل أن أشتري ماء فالواجب أن أشربه بالمجان..ألا تعتقد أن هذه تهمة تستحقك؟..هذا مجرد احتمال…فكر..حاول أن تفكر..أنا لا أريد أن أفكر..حاول أن تتذكر..لا أريد أن أتذكر.. لماذا تتهرب من التفكير إذن؟.أهرب من التفكير لأنني الآن أصنع تهمتي؟
(يسمع صوت مزلاج قوي جدا يتبعه صمت…يقف متسمرا في مكانه)
إنهم وراء الباب يسترقون السمع..لماذا هذا الصمت؟ أخاف أن تكون قد صنعت تهمة لنفسك…أو تعتقد أنك أحضرت إلى هنا بدون تهمة…أنت مخطئ إن فكرت كذلك؟ لا تسئ إلى نفسك بالأسئلة حسنا سأصمت…سأسكت..أنا خائف..أنا أعترف أنني خائف وأعشق الحياة بدون هذا الصمت المريب (صمت) هل حقا الصمت حكمة في كل الظروف والأوقات؟ أم الصمت قتل للروح المعنوية بداخلك وتكريس لمفهوم الحرية المعلبة والمعبأة ذات الصلاحية المحدودة…هل الصمت كما هو صمت وسكون أم حركة داخلية ظاهرها هدوء وباطنها نيتروجين قابل للإنفجار؟ لماذا تسأل نفسك هذه الأسئلة؟
(ينظر إلى الجمهور)
أنظر كلهم جالسون ومرتاحون ولا يتحركون إلا حين يريدون الوشوشة أو الصفير لتفريغ الطاقة الزائدة واللامبلاتهم الاعتيادية…أنظر إنهم لا يتساءلون؟ هل لا يعرفون قيمة السؤال؟ أم يخشونه أم لا يعرفون إلا السؤال عن الأحوال الشخصية وعن أسباب الوفاة وأسباب الطلاق وعن رؤية هلال العيد؟.. لا إنهم حكماء في الصمت.ألا تكون هذه واحدة من اتهاماتي..أنت تهلوس وتهذي..أصمت لتصير حكيما ولا تسأل فالسؤال لم يعد يوصل إلى إجابات .بل هو ركن من أركان جريمة التفكير
(يسمع أصوات المزاليج متتابعة.يحاول أن يشجع نفسه)
إنه فقط إرهاب نفسي لا تخف..إجلس مكانك لا قف مكانك..هيا تحرك..لا تتحرك..تشجع..وكيف لي ذلك..غَنّ قد تتجاوز خوفك….أُصرخ كي تخرج ما بداخلك من ذعر…..لا تفعل….سأصرخ…..لا تفعل….أصرخ………….
(يصرخ بأعلى صوته)
أين أنا ومن أنتم..؟ (يسود صمت) هل انتصرت على خوفك الآن؟..هيا تحدث .هل تجاوزت احساسك بالقلق لحظة الصراخ؟..أنا..هل أنا صرخت..لا أنا لم أفعل..أنا فقط…هل أنا… أنا صرخت.(صمت) إن كان هذا صحيحا فمعناه أنني قد صرخت حقا. هل صرخت كما تفعل الغوغاء؟ هل صراخي خوف أم وجع أم رفض وتمرد أم أنني صرخت فقط كي أصرخ..هل أصرخ من جديد؟ وهل حقا سمعوا صراخي؟ وهل هناك حقا أشخاص آخرون يراقبونني أم أنا فقط أتوهم وأخلط الحقيقة بشيء ما بداخلي لا يقبل التفسير ولا التحليل..لا أحد يجيب…وما هذا الصوت الذي أسمعه..صوت المزلاج… هل هو فقط ذلك الأنا الأعلى الذي يراقب ما خُبّئ في اللاشعوري..لا أنا لا أتوهم. أنا واع بما أقول وأنا أدرك تماما..ماذا أدرك؟..الأشياء تختلط بداخلي كما الأحاسيس والمفاهيم والمقولات..قف..تحرك لعل وعسى تُبدد خوفك وتجد راحتك في المشي وحريتك في الخيال….
(يقوم يتفحص المكان جيدا)
مكان واسع أوسع من ذاكرتي وأضيق من قلبي..أي مكان هذا؟ كيف وصلت إلى هذا المكان؟ .لقد أُحضرت إلى هنا كنت في الحديقة رفقة صديقي..نراقب الطيور..لا لم يكن البارحة أو أول أمس.متى كان ذلك ؟ سأصرخ الآن..لا لا لا. صراخي لا يزعج أحدا. صراخي نغمة الوجع المدفون في ذاكرتي نغمة نشاز على مقام الخوف في ذاتي..سأصرخ الآن..سأصرخ الآن.
(قبل أن يصرخ يُسمع صوت مزلاج؟ يظهر فقط ضوء وتختفي الشخصية)
إظــــــــــــــــــــــــــلام
نهــــــــاية المشهد الأول
المشهد الثاني
(موسيقى كمنجات يدخل الشخص بشكل عادي إلى الخشبة يجلس على الكرسي…يصمت)
الشخص: لم يحدثني أحد، ولم أر أحدا..لا أحد يسأل وأنا كنت أتساءل..تركت وحيدا ولم أر غير دخان السجائر.. أصوات تختلط مع الضحكات..أغاني بذيئة..من يعطي القيمة لمن؟ أنا أم هم؟……
(يتحرك على الخشية)
ولكن لماذا لم أسأل ولم يحددوا تهمتي التي بسببها أُحضرت إلى هنا؟..خيرا فعلوا..وهذا دليل على أنك هنا فقط كزائر أو كشخص أوجدوا له مكانا جيدا للتأمل والتساؤل..ألا ترى أن هذا المكان يوحي بكل أنواع الأسئلة..إسأل نفسك..تأمل ذاتك ..محيطك..أحلامك..خوفك..لا..لا..التأمل يوحي لك بالفهم أو قد يصنع أشكالا جديدة من الأفكار والتساؤلات..يطمئنك على نفسك كي تفتح الباب امام اللسان ليعبر عن ما أنتجه العقل من خلال التأمل..يعني مفاهيم أو بديهيات..أو قد تكون أفكارا عذراء استبحت أنت عذريتها..أو قد تكون بداية للتعايش مع المكان والتصالح مع الذات وتغييرا للمبدأ..يعني كل شيء مدروس بعناية فائقة؟ لا..لا..أنت أصبحت تشك في كل شيء..أصبح الشك جزء من حياتك اليومية..لا..لا ليس الشك الذي يفضي إلى الحقيقة وإنما الشك المرضي..الشبيه بالخوف..الشبيه بالعنف..قف..توقف..هيا..نادي على الآخرين..لا لن أفعل..ولماذا لا تفعل؟ فأنت لست في وضع يخول لك الاختيار..أرأيت أنك طرحت النتيجة قبل أن تقوم بالفعل ومن خلالها حكمت واتخذت القرار..لم أفهم..بل أنت فاهم..سأشرح لك…أنت قلت لا فائدة من فعل ذلك لأن النتيجة ستكون على الشكل التالي..لا أحد سيجيب. وهذا قد يجرح كبرياءك…وهل حقا لك كبرياء أم مجرد ميكانيزم دفاعي تحاول أن تحمي به نفسك من شعورك بالعار والاهانة والذل ؟ لماذا تتعامل معي بهذه القسوة..أنت لم تنسجم حتى مع نفسك وتبحث عن الانسجام مع الآخر..لا..لا..مخطئ أنت..تشجع إذن وخاطبهم..فماذا ستخسر إذن..أنت وحيد في هذا المكان، مقيد وغير مقيد تتحرك في إطار رسم لك بعناية فائقة…أتود الركون إلى نفسك والتعايش مع أسئلتك كما أنت أم تحاول أن تخلق تواصلا مع سكان هذا اللامكان المحدد في ذاكرتك ومخيلتك بأربع حيطان وبندقية .تشجع قلت لك ولا تصرخ تقدم ..هيا تحرك…
(صمت يتحرك ببطء شديد إلى مقدمة الخشبة)
يا أيها المؤمنون..سكوت..هذا بداية خطاب قرآني ديني قد يكون تهمة إن لم يقل في مكانه المخصص له حاول أن تغير
أيها المواطنون..سكوت…هذا أسلوب انتخابوي وهي تهمة في حد ذاتها..حاول أن تغير.. أيها الإخوة…سكوت هذا أسلوب إخواني وهو تهمة في حد ذاتها..حاول أن تغير.. أيها الرفاق…سكوت هذا أسلوب أيديولوجي وهو تهمة في حد ذاتها…حاول أن تغير أيها السيدات والسادة..سكوت هذا أسلوب فيه إهانة فلا أحد سيد على نفسه..حاول أن تغير فكيف سأخاطبهم؟ ابدع يا أخي..هذا أسلوب إخواني غَيّر..
(يضحك بهستيريا تسمع أصوات المزلاج..يتكلم وهو يضحك)
أرأيت إنهم قادمون..بدؤوا في الموسيقى التصويرية التي تسبق الحدث..موسيقى الرعب والهيبة للهنا؟ (يضحك) أيها..أيها أنتم ..أنا هنا أريد أن أحدثكم أنتم وليس هنا إلا أنتم..وبما أنكم أنتم أنتم أنتم (يصرخ بأعلى صوته) من أنتم؟..وهل الصراخ سيفيدك في شيء أنت فقط تنفس الغيظ الذي بداخلك..أنت تحاول أن تثير انتباه الآخر إليك بالصراخ، فلتعلم أن إثارة الانتباه غير كافية..وصراخك لم يعد يحرك الآخر كما كنت تعتقد وانت اعتدت على الصراخ في المهرجانات الموسيقية والمقابلات الرياضية..الصراخ لم يعد صراخ الألم والاحتجاج وإنما تحول إلى صراخ إعجاب بزعيق صوت مغني..صراخ إعجاب بممثل وسيم..يعني ثقافة الصراخ هي الأخرى طُبقَت عليها نظرية النشوء والارتقاء..فأصبحت مظهرا من مظاهر الرقي والتقدم..فالصراخ في المهرجانات الغنائية له خصوصياته الفنية وخصوصا أمام الكاميرات..الصراخ مع القفز والتصفيق .. وإن لم نفعل كذلك سوف ننعت بأننا متخلفين أو قد نكون ظلاميين..انتظر هذا مصطلح يتطلب التدقيق..أكلما أقترب من نفسي تبعدني الكلمات والمصطلحات والمفاهيم؟ (يضحك).ولماذا هذا المصطلح بالضبط..فهل هناك حقا تنوير.. هذه نظرة حاقدة..أنت تخالف كل شيء حتى نفسك..لا..أريد أن أفهم…أحاول أن أتعلم التأمل والتفكيك وتحليل الأشياء..وهذه هي تهمتك..تهمتي أنا..وما هي تهمتهم هم؟ من هم..أيها الناس.لا..أيها المواطنون..لا..يا إخوان…لا..يا رفاق.لا..هذه هي تهمتك..أنك تخلط المفاهيم ولا تميز بين الخطابات..ألا تكون ذاتي هي التهمة؟ كيف…لا أعلم؟…أنت بدأت تفهم لمن ستوجه الخطاب..إلى نفسي..وهل نفسي محتاجة لخطاب أم لفعل يومي..نفسي محتاجة إلي أنا..بدأت الظلمة تؤثر على عقلك أيها الإنسان..أحقا أنا كما قلت..سألعب الآن لعبة الصراخ..ليس صراخ المهرجانات بل صراخ الألم..وكيف ذلك..سترى..أنا أنتظر…(يصمت قليلا يستعد للصراخ)
(يسمع أصوات مزالج تفتح بقوة إنارة من مكان آخر على الخشبة…تسحب الشخصية ظلام)
نهاية المشهد الثاني
المشهد الثالت
(الشخص في حالة هيجان)
لا تنتظروا مني أن أخبركم بأكثر مما قلت لكم،أنتم..أنتم..أتعتقدون أن الخوف والضغط سيدفعاني إلى الجنون. فالجنون جزء لا يتجزأ من ذوات الأشخاص في هذا المكان الواسع المقيد. أنا مجنون وأتحدى جنوني بقدر ما تتحدون أنتم انسانيتكم .لا أعرف وحتى وإن عرفت لن يكون كلامي أبدا سنفونية لساديتكم..احساس بالقهر..مجموعة تقيد فردا لا لذنب إلا لأنه لا يفكر كما يفكرون. فهل يروضون الفرد كفرد أم يروضون العقل على عدم التفكير و يضعون له مصفاة من اختياراتهم،تفكير منقح وعقل منفتح.وأفكار منتقاة…تحتمون بما صنعتم وتحرمون الانسان من الحلم ومن الخيال …..
(يسمع أصوات المزلاج)
أنا هنا أنتظركم ..أيُعقل أن أَشيَ بمن هو أقرب إلي من حبل الوريد..نعم كنا معا في الحديقة وشاهدنا الطيور كما هي تأكل نفس الحب وتبحث في نفس المكان سواسية يطيرون معا يحطون معا. فلا ملاعق ذهبية ولا تراتبية ..فما ذنبنا إن أردنا أن نكون كالطير، نحلق في الفضاء بدون قيود وبدون خوف من هذا الإنسان الذي يقتل كل ما يتحرك بلا رحمة أو شعور بالذنب.أَعَيْبٌ أن تكون الحرية هدفا أو مطلبا إنسانيا….أفُرضَ عليكم أن تقيدوا كل ما هو جميل وكل من يفكر وتضعوه في أقفاص لتمتلكوه لوحدكم وتضعوه أينما شئتم لتتمتعوا بصوته الحزين وجماله وأنتم منتشون وهو يبكي الفضاء الواسع…..
(يتوقف عن الكلام يتذكر ثم يواصل الحديث)
نعم . كانت هناك سيدة تجلس في كل الأمكنة تحميها مجموعة من الكلاب المدربة….أكيد تحدثت أنا وهو وطرحنا مجموعة من الفرضيات، هل السيدة خائفة من الآخر كما الطير والانسان وتحمي نفسها بالكلاب..أم أن الكلاب يؤدون مهمتهم بعدما دربوا على الطاعة والولاء ونزعوا منهم غريزتهم الحيوانية البرية..أليس في هذا تعد على حرية الغير وعلى قوانين الطبيعة… هل الكلاب جزء من المفهوم الطبقي…وما يميز تلك السيدة على كل الجالسين في تلك الحديقة….حديقة عمومية وملك جماعي أرادت أن تخصصها لنفسها هي وحدها لا لشيء سوى لأنها هي وكما هي سيدة فوق العادة وتمتلك ما يخول لها أن تكون هي وكما هي…طاووس بريش اصطناعي…
(يسمع صوت المزلاج)
أطَرْح الاحتمالات والتساؤلات هي تهمتنا. وما الذنب إن فكرنا بما يفسح لنا المجال للفهم أكثر.. وحاولنا أن نعي محيطنا بشكل واضح ..فقط من أجل الفهم حتى ندرك جيدا الفوارق..هل تخشون الادراك وتعتبرونه نوعا من أنواع التنوير..
الشخصية تقول هذا الحوار يسمع أصوات المزالج.. هل التنوير يصنع الخوف والادراك يصنع التغيير..يا سيدي الكلاب كانت مدربة لدرجة أنها كانت لا تنبح إلا على الأشخاص الذين يريدون الاقتراب من تلك الطاووس المبرزة والناطقة بكل لغات العالم ..لم نحدثها..ولم نقترب منها فقط تأملنا الوضع وهل التأمل هو الآخر جريمة..إن كان التأمل جريمة فنحن مجرمون..و إن كان التفكير جريمة فنحن مجرمون..وإن كان..
(يشعل ضوء من مكان آخر وتسحب الشخصية إظلام)
المشهد الرابع
(حالة احباط قصوى…وتعجب… يضاف إلى أصوات المزلاج صوت قطرات الماء)
كان جالسا هناك معهم..أَيُعقل..كان يضحك..أَيُعقل..لماذا..لماذا..أيريدون أن نفقد الثقة في كل كائن يتحرك.لا يمكن أن يكون معهم.لا يمكن أن يكون مثلهم، فكثيرا ما حدثني عن عالم الحيوان وعن العقل البشري الذي يصنع من الأشياء ما يسعده وما يدمره..لماذا.؟..لا…هذه مجرد خدعة وضغط نفسي…
(يتحرك على الخشبة في جميع الاتجاهات وهو في حالة عصبية)
أريد أن أتحدث معه وجها لوجه..لا يمكن أن يخدعني أنا وحتى وإن خدعني أنا هل يخدع ويتنكر للمبادئ التي آمنا بها معا ودافعنا عنها معا (يتوقف ثم يتساءل بمرارة)عن أية مبادئ أتحدث…ها أنت بدأت تفقد السيطرة على نفسك….اسمع .إنهم يضحكون..إنهم يستهزئون…لقد انتصروا عليك حقا…..لا…لا….أريد أن أتحدث معه وجها لوجه….أين أنتم ؟
(يشد على رأسه ويصرخ)
أصوات قطرة الماء كابوس جديد يؤرقني، دقات مطارق لا تنتهي. دقات القلب الرتيبة، دقات الساعة المملة .بل هي أبشع من كل وسائل التعذيب في هذا العالم.
(حركة على الخشبة..تسمع أصوات المزلاج…يخاطب صديقه)
أين أنت…أتتذكر كلامك عن الطيور والنسور؟ لقد اخترت الآن الانضمام إلى الأقوى في نظرك وتجردت من ثقل القيم الانسانية التي تحدثت عنها أكثر من التسبيح اليومي للمتصوف.لن أخبرهم..وبماذا سأخبرهم؟ وبماذا أخبرتهم أنت؟..بحثنا معا في تصورنا للإنسان الخالص..الانسان الذي نقح من كل الشرور وعصم نفسه من كل ما يسيء لنفسه كإنسان..سبق نفسه بنفسه وصنع من اللا شيء شيئا طوع الأرض والصخر ليخلق مفهوما أو احساسا يسمى السعادة. قبل أن تطغى أنانيته ويدمر نفسه بنفسه ويشكو الله تصرفاته ويتقرب من عالم الغيب كي يربح العالمين معا.فمن يخلق الأنانية المفضية إلى العدوانية؟ نحن أم هي أفكار فطرية سابقة لوجودنا نحن..تطلبنا هي ونحن نطلبها لنحول بعضنا البعض الى عبيد وأسياد نُفني حياتنا في إرضائهم ونقدس عبوديتنا ونكرس وضعيتنا بأقوال مأثورة مبنية على الشفقة والرحمة.(يتدارك) لا أريد شفقة من أحد…لقد اختلفنا في تحديد مفهومي الفعل القبيح والفعل الطيب واتفقنا معا..على ماذا اتفقنا؟..أن الفعل الحسن يحمل الحسن في ذاته والفعل القبيح يحمل القبح في ذاته…أتتذكر المرأة في الحديقة كانت تطعم الكلاب وأطفالا يحومون حولها ، ينتظرون أن تفرغ الكلاب من الأكل كي يأكلوا ما تبقى.( أين هو الفعل القبيح والفعل الحسن؟)….تقدمت أنا وبكل ادب…وما الذي جعلك تتأدب يومها..مبادئي التي أومن بها..بل خوفك أنت..أكنت خائفا منها أم من الكلاب أم من كليهما..أنا كنت أشفق على حال هؤلاء الأطفال (أين هو الفعل القبيح والفعل الحسن؟)…ها أنت عدت إلى مفهوم الشفقة والرحمة..أنت كنت تريد إثبات ذاتك أمام نفسك وأمام الأطفال وتتحدى الطبيعة الإنسانية..لا..كنت أبحث لهم عن رغيف مغمس في لعاب الكلاب.. ومن أنت…أنا..أنا من أكون؟.أين أنت..جميل أن تعاتب نفسك بنفسك…….
(يوجه الخطاب إلى صاحبه)
عد أيها الأحمق فستداس يوما ما ..لقد استحلوا الركوب على الأكتاف ونحن تعودنا على حملهم وحمل همومهم وهمومنا معا ..ألا يمكن أن نحلم معا بمكان ما يجمعنا كما نحن عراة أمام أنفسنا أمام أجسادنا، سواسية في أحلامنا وطموحاتنا..أتحلم بيوم البعث في الدنيا أنت تريد أن تغير السنن الكونية..أهي سنن كونية أم وضعية..ومن سن هذه السنن والقوانين ولماذا نكرسها كما ولو كانت جزء من المقدس..أنت تكفر بالقيم الموجودة قبل وجودك كشخص وتتحدى..أتحدى من..أتحدى من….
(تسمع أصوات المزلاج وتخطف الشخصية من مكان أخر على الخشبة بعد أن تنار)
المشهد الخامس
(تشعل الانارة وهو جالس على الكرسي)
أيها..أيها..أنتم..لا مكان اليوم للإنسان الخالص..لقد مات الانسان في تملقه للسلطة..لا اعتبار للإنسان لقد شُيّئَ الانسان…أيها أنتم..هل نشهد نهاية الانسان.فهل الأرض للأقوى والضعيف لم يخلق إلا لخدمة هذا الأقوى….
(يضحك بهستيريا وهو يجري على الخشبة)
يا أيها..أنتم..تناسلوا وتكاثروا..واحذرواأحلامكم..يا أيها..أنتم احذروا ألسنتكم..يا أيها..أنتم..احذروا القيم الانسانية و انسانيتكم
(يتوقف عن الجري) كنت أحملك على كتفي واهتف بإسمك .كنت أنت جزء من الحلم أو ربما الحلم برمته سألتك يومها هل يعقل أن نتقاسم معا طعام الكلاب.؟…أجبتني بأن إنسانيتنا لم ترق بعد إلى وفائهم فأخلاقيات الكلاب أو ربما غرائزهم أقوى من انسانيتنا.فأين أنت من هذا كله؟
(يعاتب نفسه)
كان علي أن أغادر الحديقة فكل ما هو عمومي هو لهم ولا شيء عمومي لنا إلا في غيابهم ..من هم؟..هم..هم..نحن..لا نحن لن نكون أبدا هم…ولمَّا يشفقون علينا يكون لنا نصيبا مما تركوا..لا أريد شفقة من أحد…تغَيّر كما تغير هو..ولماذا أفعل؟ ..اسكت ولماذا أسكت؟..انهم طيبون في شفقتهم..لا.لا..أنت…أنت..أين أنت؟..عماذا تبحث..وما هذا المكان..أين أنا؟…..
(تشعل الأنوار على الخشبة يتحرك باستغراب)
لا شيء يحيط بهذا المكان..فضاء غير محدد..من أين أتت أصوات المزلاج…أأبواب حركتها الرياح في هدوء الصمت بداخلي، وفي أعماقي كلمات تود الانعتاق..أحلم هو أم أضغاث أحلام (يتذكر).كم الساعة..كان لي موعد..مع من.. أنسيت..أنا.. أنت..على من سأنادي..على الانسان أم الانسان الخالص .فمن سيجابه من.؟ الانسان الخالص أم اللانسان؟ ومن سينتصر..أنا أحدث نفسي ومن منا لا يحدث نفسه.. أتأتي الآن شاحنة النفايات..تذكرت كان لدي لقاء مع نفسي أو مع الأنا الآخر
(تسمع أصوات المزلاج ونباح الكلاب وأصوات الطيور ينظرإلى السماء)
الطيور تهاجر..هل أنت حرة كما أعتقد أم أنت معرضة للقتل وللقضبان كما نحن..أين تقودك غريزتك وبوصلتك..نباح الكلاب..هل السيدة قادمة..هل سأغادر أم…أين أنا؟ ..أصوات أطفال قادمون..أسمع صوت صديقي يناديني..هل سيتحقق الحلم الكابوس.؟ أين أنت..أُصمت لا تجبه..سأغير المكان..ألا تعتبر هذا هروبا..إلى أين..أنا..أنا..هل أنت خائف من الحلم أم من نفسك؟ هل أنت خائف من الانسان ومن انسانيته. أنت خائف من أن تصدم في أخلاقياته ….أنت…أنا….نحن….
(تطفأ الانارة تدريجيا)
النــــــــــــــــــهاية
**عبد العزيز طيبي/ المغرب
البريد الالكتروني:bosalimi.taybi@gmail.com
الهاتف:+201206 42 59 86 83