عين الذاكرة … ذاكرة المعلم (يوسف العاني)/ عزيز خيون
من نسل (( أنانا )) شهقة (كي) من سحر وغموض ومعرفة (أنكي) من تجليات ومخاطرة عقل ( سومر ) و ( أكد ) أبداع ( أشور ) و ( بابل ) ، من كرم وصلب ( تموز ) حكمة (أتونا بشتم )، من تحضر (سدوري) وصحبة ( أنكيدو ) من شجاعة ( مردوخ ) ، عناد ( كلكامش ) من ( دجلة ) الخير وعذوبة ( الفرات ) من قمر الضرورة ورحم اللاصدفة ، من بيضة الفطرة يولد ويتشكل هذا اللاعب يوسف …
بنجيمات الفرح يستحم ، وبأجراس اللعب واللهو البريء يتدثر .
ينط فوق الكرسي يصرخ بالصوت العالي :
- (( يا مطحنتي ، يا مطحنتي \ هاكم اسمي \ اسمي يوسف \ اسمي الطحان يوسف \) ..
- يمثل ، ثم بشعاع وبماء القلم ، بالجهد المقدس وبتراب التعب والسهر والمجاهدة ، بطين المجالدة والمران والتمثل ينحت شخصية الفنان الساحر ، عارفا ، باحثا ، كاشفا، مساهما ، مشاركا فاعلا ، ومؤثرا حتى جن ، جن الفتى ، جن الطحان ( يوسف ) ، صرخوا به أن أعقل ، لكنه يرفض العقل وينتمي الى عقل العقل ، يصّير سطح البيت ، الدروب ، الساحات ، المدرسة ، يصّير الخان مسرحا ، يصّير دكة بيتهم في محلة ( خضر الياس ) منصة مسرح ، تصير الدنيا كل الدنيا ملعبا ومسرح … ويجن …
- يجن الطحان يوسف ، ومن أين له أن يعقل ، أن يهادن ، وكل ما يكّون بصرياته اليومية يزّين له تلك اللوثة الضوء ، وذلك الجنون العسل المسرح يدفعه اليه دفعا ، يحرضه ويغريه على الالتصاق بألوانه وعوالمه الساحرة ، آلام شعبه ، هموم وطنه ، أمته والعالم ، معادن صحبته الاصيلة التي تعّلق شريط حلمه الملون بأقواس تمنياتهم القزحية ، وكانت احلامهم شاهقة القمم وكأنها – لفرط صعوبتها واستحالة تحقيق ولو صفحة من سفرها المجيد تبدو – مجهولة وعصية .
- لكنهم فتية آمنوا بقلوبهم الخضراء وعقولهم المشرقة … عضّوا على تلك الاهداف النبيلة واهتدوا ، فكانوا لها ، وكان لها .
- لم يشغل الطحان يوسف دبق الدنيا ولمعانها الكاذب ، ترفها ولذائذها ، مجدها الزائل ، ومغنمها الأني ، بل كان خفوق جناحه يضرب همة واصرارا صوب سماوات أخرى ، يفتش عن قيمة عليا ، وذكر مدى الازمان برغم التجاهل والتناسي يبقى ، عن فكرة أسمى ، ترسم للاوطان للانسان دنيا ، بها يعيش كريما ، بها يحيا …
- بأفكاره ، بكائناته وعباراته ، بملاحته وقفشاته كم يدوخنا متعة هذا الطحان يوسف ، كم يسكرنا فائدة هذا العراقي البغدادي الكرخي الاصيل ..
- كم يضحكنا حد البكاء ، وكم يبكينا حد الضحك …
- كم يسعدنا هذا المعلم ، الآسطه ، المبدع ، الوطني الشعبي ..
- البسيط والغني الملتزم ، وكم يشوقنا بحكايته الاثيرة مع المسرح ، الحكاية التي كانت هي البداية ، والتي ظلت وستظل مع تقادم الازمان بداية …
- حكاية الطحان يوسف الذي يتنكب مطحنته ، ويروح يتجول بها في قلب وشرايين وأوردة الوطن ، أزقته ، دروبه ، حاراته ومحاله ، يظل يدور بها ويدوّرها صورا منتقاة من الواقع ، لا يعيدها ليعبدها ، ليعكسها ، لا ليحّنطها هي هي فوق خشبة المعنى … انما محركا نظرته الذكية الماهرة ، يرمي فضة الاسئلة ، يرمي بذور التحريض والغضب والفعل المّثور فوق هذا المسرح أو ذاك ، في هذه الصحيفة و ذاك المطبوع ، في أحتدام هذه الندوة أو في احتفال ذياك المهرجان ، يصوغ من ملح ساعاته وشهوره ، من سنواته الطافحة بالخصب ، من راحته ، من أحتجاج ضغط دمه ، يصوغ من ضجيج حياته فعلا ناريا … يشحن صرخة الحقيقة .
- صياد ماهر للفكرة هذا الطحان يوسف ، بارع في مغازلتها ، تدويرها واحيائها ، شجاع في الدفاع عنها ، ذكي في تدويلها بين صفوف الجماهير أينما حط وارتحل …
- يرسم شخوصا طالعة من عباءات الفقر ليحاورها ، يمتحنها ، يجادلها ، يحاصرها ، يدعكها ليثّور واقعها المعتم ، حالما بزرع أوفر غلّة ، بواقع أخر ، أعز وأجمل وأبهى ، أعوام تدور ومطحنة العاني يوسف تدور وتدور وتدور ، ما كلت ولا شاخت ، بل ظل تعجيلها شابا متحضرا يسافر في الزمان والمكان ثم يعود ، ينبت في واقعه الشعبي العراقي ، يقضم الرغيف في مأكله ، ويحتسي الشاي المهيل في مقاهيه ، يرحل مع شخصياته ، حكاياه الشعبية ، مع أساطيره ، يصوغ منها بصريات واقعية فنتازية ، ساحرة وساخرة … مبكية وضاحكة حد العلقم ….
- ولم يكتف ، لم يهدأ ، ماكنته تهدر وتستمر تجوب المدن والعواصم ، وبما يفيد الانسان ، تغتني حقيبته عبر الايام والسنين ، ممتشقا فكره النّير وبديهته الحاضرة لابداع مدونات مسرحية تنتصر للفقراء والمهمشين ، أبطالها طالعون من سديم الحاجة وقاع البساطة ، من سوط القهر والاضطهاد ومن ظلم الاستبداد …
- الا أنه ومن خلال عين حلمه البعيد يمنحها حضورا مسرحيا مؤثرا ، واضافة لبعدها الجمالي المحلي يطلقها بعدا انسانيا شاملا …
- ينقلها من مألوفية الصورة الى بهاء الطلة وقوة المثال ،
- يصّير لها قدرة التحليق ، أن تخاطب المزاج المحلي ، وأن تفوز بنعمة الحياة المسرحية في عدد من فضاءات المسرح العربي .
- في جميع محاوراته وحوارياته المسرحية و السينمائية ، الاذاعية والتلفازية ، كان العاني ملتحما بصف المواطن والوطن .
- هو ذا الطحان يوسف ، هذا الواقعي ، الاجتماعي ، التسجيلي ، الملحمي ، ورائد المسرح الشعبي ، ابن الشعب الذي صار فنانا ، فتوّجه الشعب فنانا له ، ينطق بلسانه بطموحاته وأحلامه ، ويفوّضه محاميا ينال حقوقه …
- هو الكاتب المسرحي ن الاذاعي والتلفزيوني و السينمائي ، هو الممثل والناقد والاداري ، هذا الذي حلّق في فضاءات شتى دون أن ينال التعب والوهن من ضربات جناحه العملاق ، انما ظل شابا وفتيا .
- شاب أمام صيحة الحق ، شاب أمام وقدة الابداع وشهقة الخلق .
- ثقته بأرادة الانسان الجبار ، أمام شفافية علاقته بالناس ، معارفه ، جيرانه وأسر مهنته … أمام حقيقة هذه الدنيا ، أمام كرامة أرضه ، أمام الوطني العاشق والمعشوق لمجده ،
- أمام الحرية لبني عراقه ، لأمته ، وسائر الأنسانية ….
** عزيز خيون\ مخرج وممثل وباحث مسرحي
مؤسس ورئيس محترف بغداد المسرحي