"تشوبا تشوب" نص لا يستكين إلى الظل وينام/ د. خالد أمين
“من حسن حظي.. أن نصوصي مهادنة.. مسالمة.. تستكين إلى الظل وتنام..
ربما خوفا من النور.. أو من الآخر..
أو ربما خوفا من الضياع في زحمة المنشورات..”
(محسن زروال، تقديم “دوبل فاص”، ص. 3)
في تقديمه لنص “دوبل فاص” الصادر ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة سنة 2018 يصف محسن زروال كتابته بـ: ‘المهادنة’ و’المسالمة’… نصوص ‘تستكين إلى الظل وتنام’ وسط’زحمة النصوص المنشورة’… والحال أن قارئ هذه النصوص يصطدم بتوترها، وتصدعها، وجرأتها في تناول القضايا الشائكة، من قبيل: ظاهرة البيدوفيليا، والاستبداد، والسلطة… يٌبدي محسن زروال اهتماما خاصابالجسد والعنف الجنسيخاصة في سياق التاريخ الأكبر لبناء الذاتية. ويُعد هذا الاهتمام جزءاً من تشريح ظاهرة الاستبداد بشتى تمظهراته. إنها كتابة أقرب إلى الشذرية خاصة فيما يتصل بالشكل.
نلاحظ منذ الإرشادات المسرحية الأولى بأن نص “تشوبا تشوب” نص مكثف وحابل بالتوترات. يقحم القذارة ونقيضها معا من خلال: ‘كرسيين أحدهما في شكل مرحاض والثاني في شكل حوض ماء’، القيء من جهة وتلاوة القرآن من جهة ثانية… هكذا يلخص الكاتب تصدع ذات ‘ولد المخزني’ في صرخة صامتة تذكرنا بصرخة الأم في رائعة برتولد بريشت “الأم الشجاعة وأولادها” وهي تستلم جثمان ابنها… من الواضح أن ‘ولد المخزني’ مُفجع فجعته مصيبة أثقل من أن تتحملها الكلمات أو النظام الرمزي برمته…: “يصرخ بصمت وينهار… فترة صمت قاتلة لا يكسرها إلا صوت القراءة”.. ‘ولد المخزني’ هو أيضا ‘مخزني’ في حالة عصيان وتمرد على بنية السلطة الآن. إنه مهدد بعقوبة شديدة جراء رفضه الانصياع لأوامر رئيسه المتمثلة في قمع تظاهرةالثاني غشت 2013 أمام البرلمان، وهي تظاهرة ليست من محض خيال زروال وإنما تحيلنا مباشرة إلى وقفةضد العفو عن “بيدوفيل أجنبي أدين باغتصاب أحد عشر طفلا مغربيا، تتراوح أعمارهم بين أربع وخمس عشرة سنة”. أما حالة عصيان ‘ولد المخزني’ فهي الأخرى تذكرنا برفض رجل أمن تعليمات رئيسه لقمع تظاهرة بساحة البريد بالرباط أيضا.
المخزنــــــي: (كقائد عسكري في معركة.. ) أطاك (… يتوقف ولد المخزني عن الحركة ويجمد فيمكانه..) أطااااااك!..
ولد المخزني: ما مأطاكش!..
المخزنــــــي: (غاضبا)) أطاااااااك!.. (يخرج هاربا في الممر الضوئي…
ولد المخزني:ما مأطاااااكش.!. ما مأطاااااكش.!.
إنه رفض له مبرراته. ‘ولد المخزني’ هو الآخر ضحية من ضحايا البيدوفيليا… اغتصبه مخزني آخر وهو في الثامنة والنصف من عمره: “صعيب يغتصبك واحد وانت صغير.. ويوميا تشوفو قدام عينيك وما تلقى ليه جهد.” لقد دفن يوسف طفولته في المقبرة التي وقع فيها ما وقع، وهي ذات المقبرة التي ترقد فيها أمه في مثواها الأخير، والتزم الصمت ثم الصمت حتى وهو يتألم: “وكل ماكبرت كيكبر معك.. كل يوم كنت كنكبر..وكل اليوم كنت كنحس بالجرح كيكبر.. بحال الذمالة.. كيتنفخ ويحمر ويقياح.. وكانلازم علي نداويه.. وباش نداويه.. كان عندي حل واحد.. نتلّح للسربيس”.وحتى التحاق ‘ولد المخزني’ بالمخزن كان بدافع الانتقام.. الانتقام من مغتصبه الذي اغتال براءة الطفل فيه، من جهة، ومن جهاز السلطة برمته الذي أجهز على الصورة النموذجية للأب حين تأمل الطفل يوسف بإصرار مشهد إهانة أبيه ‘المخزني’ من طرف ‘القايد’ وهو صغير: “المخزن مخدمني قايد علىهذ الزريبه.. غير باش نربي الشمايت بحالك..”.فحتى أثناء لعبة الاستنطاق يكشف زروال لا إنسانية الاستبداد في حدود علاقته بالسلطة.
في نص “تشوبا تشوب” يصعب تتبع مسارات الشخصيات ومآلاتها في الحاضر، وذلك بالنظر إلى “حركة التباعد التي تنجز الحاضر نفسه، وتمنعه من أن ينحصر ويتطابق.”[1] فالزمن المسرحي يشوبه تصدع خلاق؛ إذ يرفض الصيرورة من خلال تداخل الأزمنة. أمثل لهذا التصدع بمستهل المسرحية،حين يُشاهد ‘مول الكاشكول’ (في الممر الضوئي في الخلف) أمام الميكروفون في بوح مسترسل يقدم فيه جزءا صغيرا من بورتريه يوسف سلام (المعروف ب ‘ولد المخزني’) على أن يكتمل ذلك البورتريه فيما تبقى من المسرحية عبر شذرات يقوم المتلقي بتجميعها وترميم أجزائها لإنتاج صورة مسرحية متكاملة عن الشخصية في نهاية المطاف.فجأة تغيب إضاءة الممر ويغيب معها ‘مول الكاشكول’ ليقذف بـ ‘ولد المخزني’ وأبيه ‘المخزني’ في الممر الضوئي في أسفل الخشبة… هكذا تتوالد مشاهد المسرحية في نفس مسرحي واحد دون تقسيمها إلى فصول أو مشاهد منفصلة.كمايتعمد الكاتب تفكيك الحبكة الدرامية لكن دون التخلي عليها نهائيا، ودون إحداث تصدع شامل في الخطاب المسرحي برمته. ورغم أن كتابة محسن زروال ليست شذرية بالكامل، إلا أنها تنزاح عن بناء خطاب مسرحي خطي يعتمد الوصل بين مجزوءات تشكل سلسلة تطور الأحداث الدرامية قصد إنتاج المعنى في النهاية.
هكذا، تتفكك وحدة الزمن في نص “تشوبا تشوب” لصالح تداخل بين الماضي والحاضر، مما يؤدي أحيانا إلى دراماتورجيا استعادية مبنية على عمل الذاكرة. والاستعادة هنا ليست هي العودة، بمعنى العودة إلى الحكاية، بل إلى طرائق جديدة ومبتكرة لحياكة الحكاية وطرزها وتقديمها في حلة مغايرة: طرائق تتسم أكثر بالهجنة، والتشظي، والتوسل بتقنيات السرد الفيلمي. ويبدو كل هذا واضحا في اختيارات زروال الجمالية التي تبدو وكأنها تنتمي إلى صنف السهل الممتنع، إذ بإمكانه الانتقال من حالة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر بإشارة بسيطة وتغيير في إضاءة الممرين اللذين يشكلان عماد اللعبة المسرحية في “تشوبا تشوب”. هكذا يتحول الممران إلى غرفة في بيت المخزني، أو غرفة استنطاق، أو حانة، أو مقبرة… يمنح نص “تشوبا تشوب” مقترحات لتحويل الفضاء المشهدي إلى حالة امتلاء، إذ يقترح مشاهد موازية في الوقت نفسه بهدف تعميق الإنشطار حتى على مستوى إدراك المشاهد وتلقيه: شخصية تتحدث على الميكروفون بينما تُجسد في اللحظة ذاتها حالة درامية أخرى في إحدى الممرات.
يمكن تصنيف تجربة “تشوبا تشوب” فيما أسماه جان بيير سرازاك بـ: “دراما الحياة” بدل “الدراما في الحياة”. ويتجلى هذا في مستويات عدة. لعل من أهمها: مستوى الامتداد، إذ تصبح حياة شخصية ‘ولد المخزني” بماضيها وحاضرها جوهر الفعل المسرحي عوض التركيز على فترة محددة من حياة الشخصية. فعصيانه الحالي له مسبباته في الماضي الدفين. ومن ثم، “تجسد دراما الحياة حياة معكوسة، وتصبح إنية من وجهة نظر فلسفية، بينما تعد الدراما في الحياة متسامية (لأن الشخصية تتعذب من لدن قوة خارجية).”[2]
شخصيات “تشوبا تشوب” شخصيات مُجوقة choralisés-إذا ما استعرنا تصنيف جان بييرسرزاك-، وذلك لكونها تشهد على الحدث وتتأمله في الآن نفسه من خلال المزج بين بوح مسترسل عبر أثير الميكروفون تسرد فيه مجزوءات من واقعة الاغتصاب أو وقائع أخرى موازية، والحالة الدرامية المعروضة بشكل مباشر في إحدى الممرين الضوئيين… ينتصر محسن زروال للشكل الرابسودي الذي ينبني على جدلية التفكيك وإعادة البناء. كما أنه يقذف بشخوصه لتشارك في الحدث وتصبح شاهدة عليه في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، يذكرنا سرزاك بأن: “الموضوع الرابسودي يتميز عن الموضوع الملحمي من حيث كونه موضوعا منشطرا clivé: أي لأنه في الوقت نفسه درامي وملحمي، وشخصية مشاركة في الحدث وشاهدة عليه.”[3]
يصبح الميكروفون ـ بوصفه وسيطا ـ الآلية التي تساعد في تحقيق ذلك الإنشطار؛ إذ يُمكن من إنجاز عملية البوح من جهة، ويُعد وسيلة الانفتاح على الآخر من جهة ثانية. وهو في نهاية الأمر أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما…. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن التوظيف الواسع الانتشار للمكروفون في راهن المسرح المغربي له تأثيره هنا،في سياق الحديث عن “تشوبا تشوب”. فالميكروفون هو جهاز يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية. وبالتالي فهو يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للممثل. وهنا تحديدا نكون إزاء المؤدي عوض الممثل… والمؤدي شخصية مركبة، يرقص على حد السيف، فهو تارة مشارك في الأحداث الدرامية وتارة أخرى شاهد على تلك الأحداث. يقوم المؤدي بخلحلة وإرباك التمثيل الطبيعي والإندماجالكلي في الشخصية لصالح أداء منشطر يجمع بين الدرامي والملحمي في الآن نفسه…
نص صادم وجدير بالقراءة.
الاحـــالات:
[1] عبد السلام بنعبدالعالي، “فيالكتابةالشذرية”، https://www.alawan.org/2013/12/08)).
[2]حسن المنيعي، “شعرية الدراما المعاصرة”، (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2017)، ص. 31.
[3]جان بيير سرزاك، “تقاسم الأصوات”، ضمن كتاب “شعرية الدراما المعاصرة”، ترجمة حسن المنيعي، ص. 54.