في يوم المسرح العالمي وزمن كورونا/ تحسين يقين
الى سعد الله ونوس حاضرا
يحضر المسرح في زمن كورونا كما لم يحضر من قبل في بلادنا وكل البلاد؛ من خلال تأمل ردود أفعالنا والآخرين، كأننا فعلا داخل مسرحية، لا نشاهدها فقط، بل نعيشها، على الحقية لا في الخيال.
ولعل المظهر الأبرز له هو استلاب الكورونا للفضاء العام، وتحديد وجودنا في الفضاءات الخاصة، فكل وبيته.
كل في بيته، يساوي منع التجول، والذي خبرناه كفلسطينيين، الفرق أننا في زمن منع التجول الذي كان يتم فرضه من الاحتلال العسكري، كنا نخترقه لتحقيق أهدافنا إما بتأمين مستلزمات البيوت، أو لتوزيع بيانات القوى الوطنية، أو للترفيه، من خلال الحد الأدنى ألا وهو الزيارات. والفرق أيضا أننا كنا نسلم على بعضنا بحميمية صرنا الآن نتجنبها وقاية من العدوى.
في هذه المناسبة، في مقتبل فصل الربيع، 27 من آذار، كان يوم المسرح العالمي يعني مسيرة جمالية للمسرحيين/ات ومحبي المسرح، في مدن كالقدس ورام الله، بما كانت تحتويه من إبراز لدور المسرح وطنيا وعالميا، بالإضافة للترفيه، وكسر حدة نمطية المدن في سير أبنائها السريع، وسيادة التبادلات التجارية، بيع وشراء؛ حيث كان يصطف الفلسطينيون حول المسرحيين، يشاهدون اسكتشاتهم الكوميدية الناقدة اجتماعيا وسياسيا أيضا.
اليوم، لا مسيرات، لا كوميديا، لا توعية، ولا نقد سياسيا كان أو اجتماعيا..
كان المسرح يحضر ويحضر معه الفرح، يحضر معه رموزنا المسرحية الفلسطينية والعربية والعالمية، نذكر يوم رددنا مع سعد الله ونوس ذات نهار، في يوم المسرح العالمي قبل 24 عاما:
إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ!
نعم لا يمكن أن تقود الكورونا الى نهايتنا!
أجد نفسي اليوم عائدا إلى سعد الله ونوس، الذي كانت كلمته في اليوم العالمي للمسرح بمثابة آخر وصاياه للإنسانية؛ لذلك كان وفيا للإنسان، داعيا للحوار الذي “يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعددية، وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء…الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتموج متسعاً ومتنامياً، حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه، وتنوع ثقافاته”.
نعم، يحضر المسرح في زمن كورونا كما لم يحضر من قبل!
جاء حديث الراحل ونوس عن الحوار في سياق فكري عن دور المسرح، حينما رأى أن المسرح، سيظل ذلك المكان النموذجي، الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً. وميزة المسرح التي تجعله مكاناً لا يُضاهى، هي أن المتفرج يكسر فيه محارته، كييت أمل الشرط الإنساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى الجماعة،ويعلّمه غنى الحوار وتعدد مستوياته”.
واليوم، في ظل هجوم الفيروس، خلال تأمل ردود أفعالنا والآخرين التي تكشف حقيقتنا من الداخل، نجد أنفسنا متذكرين تقسيمات سعد الله ونوس للحوار:
- “حوا ر يتما خلال عرض المسرحي”،ونقاربه بما يحدث من أفعال كلامية منطلقة من جهات وأشخاص.
- “حوار مضمرٌ بين العرض والمتفرج”. وهو هنا ما يتم بشكل فردي اختياري داخل كل نفس، تجاه ما يرى ويسمع.
- “حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم”، يتمثل الآن بكل حديث يتم بالانطلاق من الواقع، حيث يموضع كل إنسان كبيرا كان أم صغيرا، حاكما كان أم محكوما، والسبب أن الفيروس هو الآن بطل العرض الفاعل ونحن المنفعلون والمفعولون بهم.
- “.. وفي مستوىأ بعد،هناك حواربين الاحتفال المسرحي “عرضاً وجمهوراً ” وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال”، ولعله الآن يتكون وطنيا وعالميا، بل ذاتيا وشخصيا جدا؛ ولعلي أظنه البعد الوجودي، خصوصا أن حديث سعد الله ونوس كان في سياق رؤيته للمسرح كفضاء “يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي و الوجودي معاً”.
لذلك، وهو، سعد الله نوس، الذي كان يشهد معنا التحولات التي حدثت بعد حرب الخليج بالذات، فكأنه لم يتنبأ فقط، بل كان محذرا من الآثار السلبية لتلك التحولات، لنستمع إليه ثانية: “ومع هذه التحولات، وتراكم تلك الثروات،كاني أمل المرء، أن تتحقق تلك اليوتوبيا،التي طالما حلم بها الإنسان. يوتوبياأن نحيا في عالم واحد متضافر. تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن، وتزدهر فيه إنسانية الإنسان دون حيفٍ أو عدوان. ولكن .. ياللخيبة! فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين، تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا،ا لتي بشر بها الفلاسفة، وغذت رؤى الإنسان عبر القرون. فهي تزيد الغبن في الثروات وتعمق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى، والشعوب الفقيرة والجائعة. كما أ نها تدمر دون رحمة، كلأشكال التلاحم داخل الجماعات، وتمزقها إلى أفراد تضنيهم الوحدة والكآبة”.
حذر منها ونوس قبل 24 عاما، وجاءت جائحة الكورونا لا لتعرفنا بها، بل لتعمق معرفتنا فقط، باتجاه إحداث فعل إنساني، حيث دفع الاستحقاق الحقيقية نحو أسرة (العالم قرية)، وعدم جعله لا العالم ولا القرية مجموعة مزارع وشركات عابرة للقارات في ظل رأسمالية متغولة أكثر!
ختم ونوس خطابه بالانتصار لقيم الثقافة ودورها، كونها “تشكل اليوم الجبهة الرئيسية لمواجهة هذه العولمة الأنانية، والخالية من أي بعدٍ إنساني”. وفي هذا الإطار، فإن للمسرح دوراً جوهرياً في إنجاز هذه المهام النقدية والإبداعية،ا لتي تتصدى لها الثقافة.
أما عن دور المسرح في اليوم العالمي، فرآه بأنه”هو الذي سيدرّبنا، عبر المشاركة والأمثولة، على رأب الصدوع و التمزقات التي أصابت جسد الجماعة. وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً. وأنا أؤمن أن بدء الحوار الجاد والشامل، هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن”.
كان كلمته الوصية الأخيرة، لذلك أراد في سنواته الأخيرة أن يمنحنا الأمل والقدوة أيضا بإصراره على الكتابة المسرحية رغم الألم وقرب الرحيل: “منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان. وكانت الكتابة، وللمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي..إنه ظاهرة حضارية مركّبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً، لو أضاعها وافتقر إليها”.
كان ونوس ابن 54 عاما..وعاش بعدها عاما واحدا..ليرحل فريسة مرض السرطان، الذي ما زال يشكل تحديا للطب، ومجالا للتعاون العالمي للقضاء عليه. ولعل الكورونا، بما ترمز له من جائحة وكوارث أخرى مدعاة لتوقظنا من وهم الخلاص الفردي، الذي صار اليوم ليس جمعيا او وطنيا او قوميا، بل إنسانيا كما كان دوما!
لا احتفالات في بلادنا..لا مسيرات اليوم، لا كوميديا، لا توعية، ولا نقد سياسيا كان أو اجتماعيا..ولكن هنا والآن، تتأسس منظومات جديدة سترث ما سبق، باتجاه الإنسانية والسلام؛ فلا زمان ولا مكان للشر من دول وأفراد، سيكون من الصعب اليوم وغدا تقبل العنصرية وأعداء الإنسان.
وبالطبع لن تكون الكورونا زمنا للتوظيف السياسي والاقتصادي والأيديولوجي ولا زمنا ولا مجالا للتغزل بالنظم السياسية.
Ytahseen2001@yahoo.com