الإضاءة المسرحية البديلة (مغايرة ثورية لتراث المعالجة الفنية)
مقدمة عن كتاب (الاضاءة المسرحية البديلة) للمؤلف عماد هادي الخفاجي
إن التجريد الرقمي الذي أعاد تشكيل منظوماتنا المفاهيمية للعالم مثلما هو قد اثر في خلق نمط الثقافة التي تمحي فيها فروق الواقعي والمصطنع لترجمة التفاعل الافتراضي والانغمار في عالم هو فائق الواقعية, كذلك هو عمل على إعادة تخليق الإطار الجمالي لفعالية الوعي الإنساني ذاته وتجسداته بالفنون الجميلة فانتفاء الفجوة ما بين الإرادة وبين التحقق في العالم الرقمي قد خلق حضورية فائقة الفعالية (Hyper activity) سواء كان ذلك الإطار الجمالي في فن التشكيل أو فن المسرح وهو ما انعكس على وسائط التعبير والمعالجة للفكرة الإبداعية وتجسيدها فنيا بوضعها في حيز التداول والتفاعل الجمالي. إن ذلك الحضور وبتلك المعطيات قد أزاح تراثا عالميا من التجارب الجمالية التي خاضها الوعي البشري وتشكل من خلالها لحساب معطيات التقنية الرقمية المعاصرة. ومع هذا المعطى التقني الهائل تغير المنظور في المعالجة الفنية من المنظور البشري المحدد بهاجس الكائن والممكن في التجسد إلى واقع الإمكانية الفائقة في التحقق للإرادة الإبداعية ومعالجة القيم الفنية ووصولها الى كامل مدياتها للتأثير ضمن التجربة الجمالية فما عاد الخط واللون والكتلة وسائر القيم التصميمية في المعالجة ضمن هاجس المبدع ولكن أصبح هاجسه هو الاختيار بين الكم اللامتناهي من الإمكانات المتاحة. ففي الإطار الجمالي في فن المسرح لعبت التقنية الرقمية دورها الأبرز في خلق واقع جديد للتجربة الجمالية من خلال لا نهائية الإمكانات المتاحة في المعالجة الفنية للقيم الدرامية وبما البس العرض المسرحي بكامل أطره لبوس قدرة التأثير الفائق في إعادة تشكيل الوعي البشري من خلال الفعالية الفائقة لوسائط التعبير ومن تلك الوسائط كانت الإضاءة المسرحية التي انتقلت من مفاهيمها التقليدية في المعالجة ومحدودية إمكانياتها الى التجسيد الفائق والحضورية بمديات شاسعة لنقل القيم الدرامية وتصميمها في فضاء العرض المسرحي عبر خلق التركيبات المعقدة في الإنشاء البصري المحكم في التنفيذ والتجسيد لتلك القيم فما عادت مهمام الكشف والإظهار والتكوين والطابع السيكولوجي وتعيين مستويات الحضور هي الاشتغال المحوري والوحيد لمصمم الإضاءة فمع معطيات التقنية الرقمية أصبحت هنالك إمكانيات هائلة في بناء وتشكيل الفضاء الدرامي حسيا عبر التصميم المحكم للضوء الذي هو سحر المسرح ودونه ينطفئ المكان وتتلاشى قواه وأثره في إزاحة العالم الواقعي باتجاه تجربة عيش طقسي ينتظم عبرها فهم الذات لذاتيتها وموقعها من عالمها ومصيرها ومبدأها ومنتهاها فلا مسرح بلا ضوء والضوء في معطيات التقنية الرقمية أصبح منبعاً سحرياً لا متناهي الإمكانات فتطرح الإضاءة المسرحية البديلة مغايرة ثورية لتراث المعالجة الفنية واحتواء خطابات الدراما في بنية بصرية حضورية فائقة التحقق.
إن بحثا في هذا المجال يعد جرأة ومغايرة ومخاطرة أشبه بمحاولة هدم المعبد ولم شظايا تعاليمه في بناء ثوري لا يمكن أن يوصف إلا بأنه تحريك للساكن وهرطقة جمالية تتيحها مشاعر الامتلاء بالقوة والقدرة للإنسان المعاصر, إنسان خالق بقوة التكنولوجيا لإرادته ومحقق بقدراتها مواضع ذاته حضوريا في الهنا والآن خارج محددات الطبيعة بمفهومها التقليدي حيث إن كل عالمه هو سيلات من الإشارات الاليكترونية التي تمثل امتدادا عصبيا لجهازه الذهني بالخلق والإنشاء بعد إن تلاشت الفجوة ما بين الواقعي والافتراض. فالتاريخ قد علمنا بحقائقه الحتمية إن كل إزاحة وتحريك تبدأ هرطقة فتكون ثورة وتنتهي واقعا جماليا جديدا يمتلىء بحقائقه ومعطياته كما في هرطقة (كوبرنيكوس) و (غاليلو غاليلي) و (مارتن لوثر) وهكذا هي الإضاءة المسرحية البديلة بمعطيات التقنية الرقمية كذلك هي تدشن واقعا جماليا مغايرا للتراث والمألوف وتترك بجمالياتها أثراً لإزاحةٍ بالغة في إستراتيجيات الذوق والتلقي الجمالي للعرض المسرحي.