كتاب الخميس (الحلقة الرابعة عشر)/ عرض و قراءة: عزيز ريان

اسم الكتاب : مقاربات مسرحية (قراءة في المسرح الغربي الجديد… ومسرح الهجرة العربي)
الكاتب: د. حسن المنيعي
عدد الصفحات: 147
عن : منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة،سلسلة رقم 64
طبعة: أولى  2019
 
 

الناقد حسن المنيعي ينبش في “مقارباته” المسرح المغربي وخباياه بين الأدائية ومسرح ما بعد الدراما وينبه إلى ضرورة العناية بمسرح الهجرة العربي المنسي

 
يستمر المركز الدولي لدراسات الفرجة بطنجة في إغناء المشهد المسرحي بالمغرب خصوصا والعربي عموما بالإصدارات القيمة لممارسي المسرح وباحثيه.
فالمركز أصدر للدكتور حسن المنيعي كتابه الموسوم ب: مقاربات مسرحية،والذي خط على قسمين مع ملحق ختامي.
ففي القسم الأول ثلاث محاور وهي:
1.تعايش الهزلي والمأساوي في الكتابة الدرامية الحديثة
2.المسرح الجديد،من الأدائية إلى كتابة الركح المقسم بدوره إلى خمس فقرات :
1- تحديث المسرح،
2-الأدائية،
3-مسرح ما بعد الدراما،
4-المسرح الجي،
5-كتابة الركح.
3. عن الأدائية وجمالية العرض الأدائي.
أما القسم الثاني محاوره على الشكل التالي:
1. تغيرات المسرح المغربي في أفق تغير المجتمع
2. عن الإخراج المسرحي في المغرب
3. مدخل إلى المسرح العربي في المهجر(فرنسا نموذجا) الذي قسم لى فقرات تالية:
1- مسرح العمال المهاجرين من 1970 إلى 1985(فرنسا نموذجا)،
2-مسرح أبناء المهاجرين (أو ما بعد الهجرة)،
خاتمة: المسرح العربي في المهجر
واختتم الكتاب بملحق عبارة عن مقالات :
1/ قراءة الركح من لدن الجمهور للكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي برونو تيكل
2/ صحة من تاريخ مسرح الهجرة بفرنسا(مهرجان المسرح الشعبي للعمال المهاجرين)نموذجا للباحثة الفرنسية في مجال الدراما وسوسيولوجية المسرح جان لوغاليك
 
يسلط الضوء الباحث والناقد المنيعي في القسم الأول من كتابه على زوايا مختلفة في التيمة المسرحية،حيث ينتقل بين سرد لتاريخ المأساة وتجدرها الأدبي دراميا،وحضورها على مستوى الممارسة الركحية في ارتباطها تمسرحا بمخرجين كبار في العالم الغربي.
فالتراجيديا كانت مجالا خصبا لبحوث الفلاسفة والباحثين منذ نظرية” المحاكاة” عند أرسطو،مما مكن الكتاب الدراميين أن يعتبروا المحاكاة ليست معالجة مباشرة للواقع،بل “محتمل” أن يجد الناس ذواتهم فيه(الإيهام أو الاندماج)
فتميزت التراجيديا عن الكوميديا من خلال أهدافهما وشخصوهما،وآثار كل منهما على المتلقي. ولا يمنع من تلازم الغرضين باعتبار الكوميديا جنس درامي مبني على أساس فني منطقي وعلى حبكة ولغات متنوعة تؤسس ما هو فرجوي عبر الإمتاع وتنسيق أطوار الحدث.
إذن،التمرد ضد “محاكاة” أرسطو أدى إلى تلاحم الكوميديا بالتراجيديات فعرفنا ما سُمي ب:تراجيكوميديا خلال القرن السابع عشر كما هو الحال لنص الكاتب الفرنسي كورناي.
فالدراما الرومانسية نجحت في زحزحة القواعد الأرسطية والشعريات الكلاسيكية التي التزمت بنقاوة الجنس. فكان فكتور هوغو أول من رفض الفصل بين التراجيديات والكوميديا،فتخلص من وحدتي الزمان والمكان مبقيا على وحدة الحدائق منتميا لمسرح شكسبير.
وكما لخص إيمانويل جكار أنه لكي يتعايش ما هو هزلي بما هو مأساوي،فلقد حرص صناع الدراما الجدد على تلاحم هذين العنصرين المتناقضين،وعلى تباعدهما في نفس الآن،ليخلق معمار مسرحي دينامي. فيكفي مثلا أن نقوم بتضخيم البؤس ليبنثق المأساوي. كما لا يمكننا أن نعتبر أن من اعتمد ثنائية المأسوي الهزلي أنهما متناقضان،بل يمكن اعتباره مسرحا يمكن فيه للضحك أن يكتسح مجالا مأسويا.بل حتى عند كتاب العبث الذين جعلوا الهرجة والدراما تخلق ضحكا”أصفرا”.
حضور الهزل في المسرح الغربي الحديث لم يكن مصادفة،بل نتاج لعنف سياسي عرفه القرن العشرين،بعد انسحاب “البطل” وظهور “كائنات مهرجة ومبتذلة”.
فتحديث المسرح -بحسب المنيعي- هو في عمومه الحرص على البحث على شكل درامي خالص،معتبرا أن أزمة الدراما الحديثة تنحصر في هجنتها. أي تسرب عناصر ملحمية وغنائية بحكم انغلاقها وإقصاءها لكل مرجعية خارجية عنها. فكان التفكير الملح في ايجاد حل لهذه الأزمة بإيجاد شكل مسرحي جديد يعيد النظر إلى الشكل الدرامي،وكذل إلى التقليد المسرحي عن طريق اللعب الموروث عن المسرح الدرامي.
وبالتالي النظر إلى مسرح المستقبل ليس كنص درامي فقط بل باعتباره ممارسة ركحية. من هنا قام المسرح ب”تحديث” أداوته كباقي الفنون مثل التشكيل والرواية والشعر وغيرها. غير أن المسرح عرف محطات فارقة في مجال التحديث وذلك منذ بداية القرن العشرين،بتأثره بالمدرسة”المستقبلية” Futurisme  ما بين 1909 و 1920. حيث رفضت هذه المدرسة جماليات الدراما التقليدية،واخترقت قواعدها بابتكار “المسرح التركيبي” Théâtre Synthétique  الذي جعل العمل المسرحي مكون من محكيات عديدة تدعمها نقلات تشكيلية وصوتية،فكان هذا المسرح بداية لما سيعرفه العالم لاحقا ويسمى بالأدائية Performance في الممارسة المسرحية. وهو تحديث ارتبط بأعلامه من المخرجين والمنظرين والكتاب كالفرنسي أنطوان أرطو والألماني برتولد برشت…
الأدائية هي مصطلح أنجلوساكسوني يشير إلى أشكال فنية عديدة ترتكز في الأساس على الارتجال والصدفة والفرجة مع حضور المتفرجين وإمكانية تعرض الفنان لخطر ما. أي أن الكلمة كمؤشر إلى الفعل الفرجوي والملموس لفنان يتحرك فوق الخشبة. هي أداء فعل فوق الخشبة. فرجة يدور الحديث فيها حول”مؤد” لا يمثل ولا يحاكي،أي جسد يحيل على ذاته من خلال عرضه لأحداث دالة أو رمزية أمام جمهور معين.
يشير المنيعي إلى ارتباط مسرح ما بعد الدراما بالألماني هاتس تيز لميان الذي ثار ضد المسرح الدرامي التقليدي،باعتباره مسرحا يقوم على نص مكتوب يستحضر حكاية وشخوصا درامية متصارعة،وبحدث يثير الإيهام لدى المتفرج عن طريق محاكاة الواقع.
النص هنا عنصر من عناصر أخرى. هو مسرح يخلط بين أساليب متعددة ويخترق الأجناس الفنية ويفتح الطريق أمام الأدائية،لممارسة مسرح جديد،يسعى ليكون مسرحا ملموسا متجليا كفن في الفضاء،والزمن وبأجساد بشرية.
هانس رأى أنه مسرح يمنع استمرارية المسرح الملحمي البرشتي ومسرح العبث لأنهما يدوران في فلك المتخيل. وأشار إلى أهم مواصفات هذا المسرح الجديد:

  • مسرح لا يقوم على مبدأ الحدث L’action
  • مسرح لا يقوم على مبدأ الحكاية La fable
  • مسرح يقوم على الموقف Situation
  • مسرح يقوم على الحالة Etat

إذن المسرح الجديد هو عبارة عن اختيارات فنية وغيرها في نظرية هانس عن مسرح ما بعد الدارما ساهمت في ظهور نوعين جديدين للمسرح: المسرح الدرامي الجديدNéo-dramatique
من هنا عرفنا ما يعرف في كتابة الركح، بالكتابة الدرامية  التي لم يعد لها حضورا في المسرح الجديد لأن الركح هو نقطة انطلاق العمل المسرحي وفيه لم  يتموضع الكاتب كسلطة ابداع منفردة.
كما أن الحكاية والخطاب لم يعد يؤسسان البنية الكبرى للحدث الدرامي.
فالركح هو نقطة انطلاق العرض ونهايته.
لا شك أن المسرح هو فن متحرك متجدد دوما في علاقته بفنون العرض،وهي أشكال وليدة العناية بالعرض وما يجد له من تفاعل بين المؤدين والمتفرجين أدى إلى ظهور مسرح طاقاتي Théâtre Énergétique ،وكما حدده الفرنسي فرنسوا ليوطا بمعنى أن المسرح ليس هو مسرح دلالة،وإنما مسرح حضور القوى وأشكال الحدة والتوتر…
مما يدفعنا عن الحديث عن فن الأدائية وجمالية العرض الأدائي،التي تشير إلى أن البعد الجمالي للمسرح ينحصر في “النص” وعلاقته بالمتلقي ولا علاقة له بالشعرية. والنظريات الجمالية في القرنين 17 و18 لم تحقق القطيعة مع منظومة أرسطو وإن ركز ديدرو اهتمامه على الممثل.
حتى الوصول إلى القرن 19 مع المخرج المسرحي أندري أنطوان من خلال مسرحة الجزء الذي أظهر جماليات مسرحية انعكست في تأملات نظرية حول الظاهرة المسرحية(بعناصرها كالنص والإخراج المسرحي،والتمثيل المسرحي والملابس). فتمرد على التقليد الأدبي المسرحي،واعتبر النص “ذريعة” فرجوية تتجاوز حدود الحركات والأصوات والموسيقى واللغات الجسدية المتفجرة الأبعاد دون الاقتراب من المحاكاة الأرسطية،بل لكي يؤسس فرجة حية وشاملة تعكس “الحياة الحقيقية” التي جدد معناها المسرح.
فتخلى مفهوم الأدائية عن معناه الأولي ليعبر عن أحداث تنتمي إلى الحقل الثقافي والسوسيولوجي،فجعله مفهوما صعبا للإدراك.
الأدائية وإن كانت شكلا جديدا للمسرح فلا تفرض سوى حقيقة ما يؤسس الحدث. مما يجعلها نقيضا للمسرح بمفهومه العام ومنذ منتصف الستينات فاضت أعمال باهرة بتوظيفها لفنون أخرى تعتمد الفعل الحي أو الصادم(كالجسد العاري،الجرح الفعلي…)
وحتى على مستوى التحليل والقراءة النقدية للعروض فالأدائية تضعنا أمام نظام جمالي للفنون متعارض مع النظام الكلاسيكي للفن شعريا أو فرجويا. فالمنظومة الجمالية للفن وضعت حدا للعرض المسرحي بتخليها عن منطق العرض وتتبنى منطق “الحدث” المرتبط بالعرض الأدائي ضمن نظام جمالي ما بعد/حداثي له خصوصيته.
وهنا لا ننسى ما أضافته المنظرة الألمانية إريكا فيشر-ليشه التي اعتمدت مفهوم الحدث الأدائي لوصف جمالية الأدائية وذلك في كتابها الهام: جماليات الأداء-نظرية في علم جمال العرض محددة إياها في ثلاث خصائص:

  1. التعامل المتبادل بين المؤدي والمتفرجين باعتماد حلقة التغذية المرتدة.
  2. سقوط الثنائيات المتعارضة.
  3. حالة البين-بين والتحول.

فدرست الكثير من العروض التي ظهرت منذ الستينات والتي لا يمكن تحليلها أو مجرد وضعها على ما هو جمالي أو ما هو غير جمالي. لأن الجوانب الجمالية تذوب داخل الجوانب السياسية والأخلاقية والاجتماعية ويعطي التناقض بينها ومن تكمن خصوصية التجربة الجمالية المقدمة في العروض التي تعرف امتزاجا للجمالي باللاجمالي بشكل سحري يجد الحدود بينهما والذوبان في وحدة ينتفي فيها التعارض وبالتالي التشكيك في مفهوم استقلالية الفن.
أما في القسم الثاني فلقد تطرق الكاتب فيه إلى تغيرات المسرح المغربي في أفق تغير المجتمع،إذ عرف المسرح العربي بداياته اختزلت في تراثه كشكل من الأشكال الفرجوية العديدة. فمن “البخيل” لمراون النقاش 1874 وصولا إلى محاولة البحث عن صيغة درامية عريقة.
بالمغرب خلال فترة الحماية الأجنبية 1912-1956 كان المسرح كشكل من أشكال المقاومة الوطنية أي بالاعتماد على نصوص تعبر عن مطالب سياسية: التنديد بالاستعمار،والمطالبة بالاستقلال.
التجربة الأولى للمسرح المغربي لم تطرح أسئلة المسرح بمستوياته: الكتابة،الإخراج،التمثيل أو الإعداد الركحي. بل اعتمدت على مسرحة نصوص عربية مشرقية وأخرى مغربية لإيصال خطاب سياسي وحث المتلقي/الجمهور على المقاومة للتحرر واسترجاع الكرامة…
أعمال أولى بالفصحى لمحمد القري،المهدي المنيعي،عبدالواحد الشاوي كسلاح ضد الغزو اللغوي واعتمد “الفقيه” للتصحيح اللغوي أثناء التدريب على العمل المسرحي. وهنا نشير لتجربة نقابة الإتحاد المغربي للشغل التي انتجت تجارب فرجوية هادفة. نشير لنصين: “في انتظار مبروك” المعد من طرف المسرح الطليعي عن رائعة في “انتظار غودو” لبيكيت،و”مومو بوخريصة” عن نص يونسكو: “أميدي أو كيف نتخلص منه”.
بعد هذين العملين نشهد تجربة الطيب الصديقي الرائدة،الذي بدأها بمسرحية: “المغرب واحد”،ومسرحية “مولى إدريس”.فعاد إلى ممارسة مسرح عربي الهوية،معتمدا بعض القوالب ما قبل المسرحية كالبساط والحلقة والذخيرة التراثية الأدبية والصوفية(سيدي عبد الرحمان المجذوب،الحراز،مقامات بديع الزمان الهمداني…)
الفنان الكبير الصديقي استطاع ايجاد صيغة مسرحية اخترقت صيغة المسرح الدرامي الأوربي،بتوظيف عناصر فنية،حولت العرض إلى حدث احتفالي-فرجة شاملة تجمع بين السرد والحكي،والارتجال،الغناء،الأقنعة،الدمى،الألعاب البهلوانية،جماليات اللباس،الخط العربي،الديكور المتنقل المؤسس لفضاءات تحرك الممثلين..
فشكلت التجربة علاقة وطيدة مع الجمهور من منطلق الممارسة وليس التنظير. فاعتبر البساط مسرحي مغربي ذو طابع تلعيمي مضاف إلى أشكال مسرحية عالمية،يتوجه إلى كل الشرائح.
وأعماله التراثية أسست لمسرح حداثي منذ منتصف السبيعينات على يد الهواة. وهي انتاجات استرجعت مرجعيتها من أزمات هزت كيان المجتمع المغربي،وبل وصل إلى مطالبة بحل مشكل العالم العربي كالقضية الفلسطينية. مسرح الهواة مستقل لا توجيه مؤسساتي يحده. فكان مسرح الهواة 1979-1992 فسحة ابتكار مدعومة بالبحث الدراسي تمخض عن الاحتفالية أساسا.
نذكر تجربة عبد الكريم برشيد الذي أسس فكريا وجماليا لبناء مسرح عربي قائم على الاحتفال ومفهوم المسرحية التي لن تكون النص بل ما سيعبر إليه ساعد تمسرحه فوق الخشبة.
ويخضع للتفجير أي إخراج ما فيه من حيوية وحرارة وهو تغيير ظهرت كتابة”جدولته” خاضع لتركيبية لعبية لتكشف دراميا ضد الكتابة التقليدية الخطية. وأسلوب جامع بين الأدبي والمسرحي لرصد موضوعات اجتماعية هامة وبطولات فردية أو جماعية تعرض لخطابات واقعية رمزية أو غروتيسكية بنطاق فرجوي شامل دافع لمشاركة المتفرج في أبعادها الفكرية والجمالية.
فاقتحم الكثير من الهواة عالم المسرح الاستعراضي إلى جانب بعض المسرحيين الشباب خريجي المعهد العالي للفن المسرحي المؤسس سنة 1986. مما مكن المسرح المغربي من أن يستمر في أداء وظيفته كفن اجتماعي بقواعد فنية وضوابط مهنية منذ التسعينات إلى حدود الآن،نظرا لدعم الدولة،وتجديد ذات المجتمع المغربي لفرض أرضية الإصلاح والتغيير وبناء دولة العدالة والديمقراطية.
فظهرت حركة مسرحية بأفاق ووجوه متعددة لا تحصر توجهاتها الفنية ولا ترصد قضايا فكرية عبر نصوص مؤلفة أو مقتبسة كتقليد ما يسمى فعل الإستنبات Transplantation  أي إعادة كتبة نصوص.
هي إذن حركة تأرجحت بين مسرح الدراما بحوار يعتبر وسيطه الكلامي وغايته الإيهامية،ومسرح ما بعد الدراما الخاضع لمعالجة واقع تأمل الفنان ذاتيا،الحريص على توظيف تقنيات بصرية وسمعية للتواصل مع المتلقي لإمتاعه وتثقيفه. هو تأرجح جعل المسرح المغربي اليوم على عدة أشكال من التمسرح،ويدخل غمار التجريبية كما في العديد من الدول العربية.
وخصص المنيعي فقرة للإخراج المسرحي بالمغرب،وفيها انطلق من تعريفات عامة لهذا التخصص الفني. فأندري أنطوان (1858-1943) الذي اعتبر الإخراج المسرحي فنا يجعل الحدث والشخوص التي في خيال الكاتب الدرامي تنتصب فوق الخشبات. وهو تحديد ارتبط بظهور المخرج في نهاية القرن 19 وهي مهنة ستخضع لتطورات واضحة موازاة مع تطور المسرح ممارسة. تطورات ساعدت كل مخرج بحسب أسلوبه على تأويل النص وكشف أغوار دلالته وأبعاده الفكرية.
وبالمغرب عرف الإخراج المسرحي بدايات تأثرت بالمسرح العربي الذي لم يصل بعد إلى مرحلة النضج على مستوى “الوعي الجمالي” . فكل الفرق إبان الحماية تمارس مسرحا نضاليا(هاويا)،يعتمد مسرحا يقوم على عرض يهتم بالملفوظ السياسي اللغوي. ملفوظ غير مدعوم إخراجيا،ويعتمد على إخراج “سكوني” يوصل الموضوعة الكبرى للنص،معتمدا الإلقاء،الحركات والغناء ولوحة كديدكور في خلفية الركح…
ولكن في مرحلة الاستقلال وما بعدها(1956-1875) تحول المسرح إلى أرضية متشعبة بعوالم فنية واكتساب مهارات،إما بتأطير مؤسساتي أو عن طريق الدراسة. فانفتح المسرحيون المحترفون والهواة على مفهوم الكتابة الدرامية،وإعداد الفرجة انطلاقا من تصور إخراجي مستجيب للإدراك الجماعي. من هنا اتسم الإخراج المسرحي بتنوع لغات،ومدارسه واقعيا ورمزيا وعبثيا.. وغالبا ظلت لغة الإخراج الكلاسيكي،بين كل المخرجين باعتماد التسلسل المنطقي للفصول: المشاهد،بنية الحكي(دون إضافة شيء للنص)،ملء الخشبة بديكور صمم من طرف فنان موهوب،وإنارة غير فنية ومتطورة. هنا كان هدف الإخراج هو انتاج مسرحية”محكمة الصنع ” كما  بمسرح البولفار الفرنسي مثلا.
ونذكر هنا مخرجين رواد كالصديقي،عبد الصمد دينية.. وهواة تعاملوا جميعهم مع نصوص عربية ومقتبسة أوروبيا.
فلا يمكن إهمال دور الصديقي الرائد في الإخراج الذي استوعب الأساليب الإخراجية المرتبطة بالدراماتورجيا الكلاسيكية،حيث أظهرت ثقافته وتعلمه أصول الفن الدرامي على يد المخرج الفرنسي الكبير جان فيلار. ودون نسيان محمد تيمد الذي اعتمد نقلات سمعية/بصرية وحركية لم تكن سائدة فسمي رائدا للتجريب في مسرح الهواة.
ثم عرف المسرح المغربي مسرحيات الصديقي التراثية وبساطاته التي أدرجت فيما يسمى بالمسرح الشامل بإبداع “شعرية” ركحية تعرف انصهار الممثل في مكونات جمالية للتركيب المشهدي المرتكز على لغات،حركة،بصر،سمع وبتجانس ايقاعي تدهش المتلقي وتوصل رسالة المخرج/المؤلف. مسرح”ممتع” جامع بين الفرجة الحية ومسرحة التراث.
فتأثر الهواة بهذا الأسلوب،وشكلت خشبة المسرح المغربي إلى حدود منتصف التسعينات حقلا خصبا للتجارب الإخراجية التي تعتني بتفكيك النص،وترجمته إلى عرض موظفا لفنون عديدة تمفصلت أشكالها وتعابيرها في فضاءات متعددة للعب.
كما عرف العرض التقليدي تجديدا في بنيته الإخراجية على يد الفنان عبد الواحد عوزري بمسرح اليوم فتميزت هذه الفترة بحداثة الإخراج على مستوى المفهوم والصناعة،فانفتح المخرج على أشكال فرجوية تراثية وحولها لقيم جمالية تعين على مناقشة قضايا راهنة.
وظهرت فترة”مسرحيين جدد” في إطار فرق احترافية لخريجي المعهد العالي للفن المسرحي،فأصبحت الفرجة “لغة” تدعم “منظومة” الإخراج وتستثمر كل الفضاءات بما فيها “جسد” الممثل المنصهر في عناصرها البلاستيكية حسب المواقف والتلفظات.
مما أدى إلى إنتاج مسرح متنوع بجمالياته السينوغرافية،وفرق المسرح الدرامي لإرساء مسرح كوني مهتم بالأساس بالأداء(برفورمانس)،الإخراج،ويشتغل على نصوص ألفها كتاب جدد ،أخرى نصوص أجنبية أعيدت كتابتها بدون ردم أبعادها الفكرية.
الإخراج أعاد النظر في المتلقي فوجدنا عروضا قائمة على دراماتورجيا “الإستبطان” أي التي تركز على الفرد ليشارك في الحدث الدرامي المقدم من طرف الممثلين كعرض “شكون يطفي التلفزة” من إخراج جواد السنيتي عام 2014،و عرض “واحد جوج ثلاثة” من إخراج لطيفة أحرار سنة 2015.
إذن الإخراج المسرحي المغربي متسع الأفاق،متقاطع مع فنون مسرحية عديدة،وتوفر بعض صانعوه على طاقات في الخيال والإبداع ساعدتهم على تحقيق انفجارات هائلة على مستوى الكتابة الإخراجية في ارتباطها الوطيد مع السينوغرافيا وإدارة الممثلين.
ومن الإخراج المسرحي-وصل المنيعي- إلى مدخله في المسرح العربي في المهجر(فرنسا نموذجا)،حيث صعوبة الحديث عن مسرح عربي في المهجر لنذرة الكتابات وتشتت تجاربه وحضورها وغيابها أوروبيا وعربيا.
البحث الجامعي الفرنسي هو المنبر الأول الذي اهتم بهذا الموضوع عبر أطروحتين وكتاب عن المهرجان الأول للمسرح الشعبي للعمال المهاجرين ومقالات نشرت في بعض المجالات.
مسرح المهاجرين اعتمد في فترة السبعينات ومنتصف الثمانينات على مغاربيين ساهموا في ما يسمى: حفلات الأحياء المنظمة من طرف عائلات العمال بمختلف الجنسيات في نهاية كل أسبوع. وبرغم حضور الناقد المنيعي لهذه الأنشطة فإنه يعترف بعدم تسجيله ولو ملاحظات على هذه الحفلات وسيتطرق إلى الموضوع بحسب ما علق بذهنه أو ما شاهده..
هي دراسة تعريفية برافد مسرحي مجهول إلى الآن.
مسرح العمال المهاجرين(1980-1985) فرنسا نموذجا: وهو وليد لقدوم مهاجرين مغاربيين إلى فرنسا خلال الستينات للعمل بمصانع فرنسية. هو حضور شكل تأسيس فرق هادفة تجاوز عددها 30 فرقة معظمها من تأطير عمال جزائريين أشهرها: العاصفة،الكاهنة،نجمة،المسرح العربي في المهجر،الممثلون المهاجرون… وهي فرق اشتغلت بفضاءات الأحياء والأندية العمالية وتجمعاتهم السكانية والمراكز الإجتماعية،ودور الثقافة،وبعض قاعات المسرح.
مما جعله مسرح-حكي يحاول الصمود في بلد الغربة ويسرد تجربة فردية أو جماعية. عن طريق نصوص تعتمد “الملفوظ” جماعيا وشفهيا يشارك فيها الكل كمسرح حياة الفقر مثلا. حيث استمرت فرقة العاصفة مثلا في مقاهي باريس لمناقشة روادها بظروف عيشهم وعرضها في نهاية الأسبوع بعد تسجيل الأراء. هو مسرح تحريضي في حالات رصد الحياة اليومية في المهجر،وللأوضاع العلية في الوطن الأم أهمها مسرحية لكي تصبح دموع أمهاتنا أسطورة لفرقة الكاهنة…
بعدها يعرف هذا المسرح جيلا ثانيا من المهاجرين اعتبروا فرنسيين كباقي الفرنسين وتنكر بعضهم لأصول الآباء. جيل عاش حالة فراغ على مستوى الهوية فلا هو بالفرنسي ولا بالمغاربي. حتى نصل إلى الجيل الرابع الذي أكد على الانتماء للآباء وللغتهم. وهي أجيال سميت بالبور” Beur الذي ظهر بشكل لافت بعد مسيرة المساواة والعنصرية من مرسيليا إلى باريس 1983 فأعطي الحق في حضور للأبناء المهمشين في المجال السياسي. لكن حركتهم فشلت ولم يستمروا بعد ظهور حزب الجبهة الوطنية 1984 المسيء للهجرة والمعادي للإسلام…
لم يخضع مسرح البور لدعم مؤسساتي فتأرجح بين الحضور والغياب باستثناء بعض الفرق الرواد كفرقة نجمة،العاصفة،الكاهنة.تأرجح بين مسرح القرب والمسرح الاحترافي الشعبي المرتكز على التفكه والضحك الأسود لمعالجة قطائع هوياتية واجتماعية تفرق بين الفرنسي والعربي،وتلمح إلى مساوئ الاندماج واستيعاب ثقافة الآخر وتناقضات المجتمعات الديمقراطية ومصير الفقراء ضمنهم المهاجرين…
خلاصة أن المسرح العربي في المهجر مسرح عربي نضالي لا يقوم على انتاجية مستمرة مستقلة بشكل منظم بل بمبادرات فردية للفنان المهاجر.
غير أنه عرفت ظاهرة العروض المشتركة بين دول المهجر ودول أصل المهاجر حيث شاركت فرق مشتركة في الدورة العشرية لأيام قرطاج المسرحية.
هو إذن مسرح عربي في المهجر يجب متابعته وتوثيق مراحله وإنتاجيته في كل بلد لجأ إليه العربي أو ولد أو ترعرع أو نفي إليه باعتبار أهميته في تسليط الضوء على حالة العربي المهاجر وتأرجحه بين الثقافتين وإظهار هويته الجديدة. وهنا الإشارة لندوتين دولتين نظمت الأولى سنة 2017 تحت عنوان: “الأشكال المسرحية المهاجرة”،والثانية سنة 2018 تحت عنوان: “عبر الحدود،المسرح وقضايا الهجرة” المنظمتين من طرف المركز الدولي لدراسات الفرجة بأمل زيادة الاهتمام بهذا الموضوع ويساهم كمدخل لإنارة الطريق أمام الباحثين لاحقا.
واختتم الكتاب بملحق عبارة عن مقالتين :

  • الأولى موسومة ب:” قراءة الركح من لدن الجمهور للكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي برونو تيكيل
  • والثانية ب” صفحة من تاريخ مسرح الهجرة بفرنسا(مهرجان المسرح الشعبي للعمال المهاجرين نموذجا) للباحثة الفرنسية في مجال الدراما وفي سوسيولوجية المسرح.

 

 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت