اصدار حديث للكاتب المسرحي التونسي (بوكثير دومه) يحمل عنوان:"سَيْلُ العَرِم"

صدر حديثا عن دار ديار للنشر والتوزيع في تونس للكاتب المسرحي التونسي(بوكثير دومه)  نصا مسرحيا تحت عنوان: “سيْل العَرِم” في 116صفحة ، مؤتث بصورة للغلاف للفنّان السوري “رامي شَعْبو”.
وقد تصدّرت الكتاب مُقدّمتان ، الأولى للباحث المسرحي الأردني (د.عمر نقرش” بعنوان “سيل العرم.. الجنان الموعودة والجثث الموؤودة” ،  والثانية للباحثة و الناقدة المسرحية المصرية (د.سامية حبيب) بعنوان:” سيل العرم .. ودائرة التيه”
نص المقدمتين:
سامية حبيب رئيساً للجنة تحكيم المسابقة الثانية بالمهرجان القومى ...

سيل العرم .. ودائرة التيه / د سامية حبيب

 
ربطت حركة التاريخ نفسها بالدراما منذ فجر الدراما حين رصد ذلك أرسطو في كتابه “الشعر ” وإلى اليوم ، فمازال التاريخ معين لاينضب . لكن التساؤلات حول علاقته بالدراما تتعدد وتصعب ،هل نأخذ التاريخ كما هو  ونحترم كل تفاصيله حتى غير الدقيق منها لمجرد العظة والعبرة ؟ هل نقرأ واقعنا في أي عصر من خلال مامضى وأضحى تاريخ ؟ وهل يعطينا التاريخ دائما إجابات لأسئلتنا الحائرة عن أسباب الإخفاقات والمؤامرات في حاضرنا ؟ ومن الأسئلة الصعبة هل يعيد التاريخ نفسه في بعض الظواهر خاصة السياسية وخاصة أكثر في بلادنا العربية ؟
الحقيقة الفنية تبرهن أن كل تلك الأسئلة لايجيب عليها النقد بل الإبداع ، حيث فكر الكاتب الحر ووعيه الوطني يقوده لما يريد من التاريخ ومن الواقع ومن أي مادة درامية يشاء أن يبدع بها .
الكاتب التونسي بوكثير دومة ، كتب نصوص مسرحية متعددة يجول في أغلبها في وقائع تاريخية محددة مثل نص (السقيفة ) .
وفي نصوص أخرى يقترب إقتراب المتأمل المتفحص ويربط وقائع تاريخية  بما يحدث في بلادنا العربية وذلك بدون تصريح وبعيدا تماما عن المباشرة .
حين نتوقف أمام نص (سيل العرم ) الذي كتبه الكاتب بوكثير دومة عام 2011 وهو العام الذي أصبح علامة فاصلة بين ماقبله ومابعده في تاريخ كثير من البلاد العربية ،حيث قامت ثورات اسقطت رؤساء وحكومات وتبعها كثير من الأحداث السياسية التي مضت في إتجاه حروب داخلية وتدخلات خارجية دمرت بلاد عربية عدة ، بالنظر حولنا سنجد سوريا وليبيا واليمن وقبلهم بسنوات قليلة العراق .
حين ننتهي من قراءة نص بوكثير دومة (سيل العرم ) سيقفز السؤال :هل نحن أمام نص تاريخي يستلهم فكرته من التاريخ حين تم بناء سد مأرب في اليمن ثم هدم في مؤامرة تهدف لدمار بلد عامر بالبناء والزرع والحضارة ؟.أم نحن كقراء ومشاهدين أمام قصة سد ماء أخر في أرض أخرى من العالم ؟
في مفتتح النص نجد الكاتب يحدد عنوان للمشهد بكلمة (القطرة الأولى ) أي أنه لايستخدم المصطلح الفني المعهود (مشهد – فصل ) بل ياخذ كلمة جديدة في وصف المشاهد وهي القطرة ويليها رقم متوالي من رقم (1 : 10 )
وتلك إضافة من الكاتب تربط بين موضوع النص وهو سد الماء وبين الماء في أقل صوره وهي القطرة وجمعها قطرات تشكل ماء السد الذي يضم ماء غزيزا بين جبلين . ثم يكمل وصف المكان بأنه “أرض إلى الجنوب ” فوق سد عظيم حيث يتعانق الجبلين .لم يحدد الكاتب في النص أي جنوب يقصد ربما قصد سد مأرب في اليمن السعيد في الجنوب من خريطة الوطن العربي ،وربما قصد سدود أخرى .
وأيضا لم يحدد الزمان بتاريخ معين بل اختار تعبير يدل على القدم “الزمن غابر”لم يذكر في أي  قرن أو عام محدد . وحسنا فعل الكاتب فلم يرد أن يشغلنا بتفاصيل وربما قصد أيضا أن يعرض أزمة تتكرر في كل مكان وزمان، فهذا التجريد يجعل الفكرة عامة شاملة انسانية .
أشقاء ثلاثة يحيرهم موعد في الفجر مع الكاهن في غياب الأب الملك ، بتلك البداية يبدأ النص منذ القطرة الأولى ، غياب الملك الأب غير مبرر للأبناء الثلاثة ربيع و مهياف وحازم ، كما أن موعد الكاهن أيضا غير مفهوم الأسباب لديهم . بدأ الحدث الدرامي بغياب الملك / السلطة السياسية وحضور الكاهن / السلطة الدينية وهذا خلل في الحكم يقابله خلل في الطبيعة حيث الغيوم وحركة الماء وتداعي بناء السد وتهالك أساسه وقواعده .
في الجانب الأخر هناك فرقة وخلاف بين الأشقاء الثلاثة في الفكر والفعل ، فهم لايعرفون لماذا غاب الملك ومتى يعود ؟!
كما أن موقفهم من الكاهن متناقض، “ربيع ” يراه رجل كبير عنده حكمه قد تنفعهم في تقرير مايفعلون إزاء السد،”مهياف” يرفض تماما تدخل الكاهن لكرهه الشخصي له ، ثم مع تطور الحدث دراميا تتداعى ذكريات “مهياف”الأليمة ويتذكر اغتصاب الكاهن له في المعبد وهو صبي أي خيانة الكاهن لثقة الملك مع ابنه ثم مع أعداء البلد .
أما الاخ الثالث “حازم ” فيرفض وجود الكاهن تماما لرفضه تدخل السلطة الدينية في شئون الحكم بسبب غياب الملك الأب .
وهذاالخلافبين الأشقاء هو المدخل الذي ينفذ منه الكاهن ويتحكم في القرار الذي سوف يدمر البلد والقرار هنا بمثابة خيانة حيث يسمح للسيدة الشقراء وتلك علامة يضعها الكاتب – ولايمكن إغفالها – بالعمل في السد في الظاهر لإصلاح الخلل في أساسه واعمدته وفي الباطن لتدميره وإغراق البلاد في المياه .
وبذا يكون الكاهن /السلطة الدينية متواطئة مع السيدة الشقراء/ العدو لتدمير السد أي تدمير الأرض كلها . ومايساعد على نجاح الخطة الخلاف بين الأشقاء أبناء الملك الغائب من جانب وغياب الوعي الشعبي لأهل الأرض فهم يعملون تحت إمرة السيدة الشقراء لهدم السد وهم يظنون أنهم يرممونه تقوم المفارقة هنا على غياب الوعي بالأزمة التاريخية التي تمر بها البلاد عند الأشقاء الثلاثة والشعب . فالأشقاء يتقاتلون فيما بينهم ليصل الأمر أن يقتل الأخ الساذج “ربيع” أخيه الحكيم صاحب الفكر الثاقب “حازم “، بينما غرق الثالث “مهياف” تارة في أزمته النفسية من الكاهن وتارة في إغراء السيدة الشقراء .
ومن هذا الشقاق تنجح الموأمرة وينهدم السد وتغرق المياه الأرض ويموت الزرع والحرث ويندم الكاهن على خيانته وقت لاينفع الندم ويندم مهياف على انشقاقه عن أشقائه ويدفعه كرهه للكاهن إلى قتله ولكن بعد فوات الأوان .
الحقيقة إن قسوة الموقف الذي يقوم عليه بناء النص دراميا أي الخيانة والشقاق الداخلي في أي وطن على وجه الأرض ، مما يمكنالأعداء أي كانوا من النفاذ والنجاح في تدمير الأرض والوطن تدميرا كاملا،دون أسلحة وحروب وغيرها ، تلك حقيقة يقوم عليها الموقف الدرامي ببراعة تحسب للكاتب  بوكثير دومة.
وجماليات الموقف الفكري والدرامي لنص (سيل العرم ) يزكيها لغة عربية فخمة تقترب من الشعر أكثر منها للنثر ، وتمتع السامع والمشاهد وتعد من علامات النص الهامة ، وأضفت عليه بهاء الأسطورة والملحمة .
إننا أمام كاتب موهوب ونص ثري الفكر واللغة .. كتب ليمتعنا ويثري فكرنا وهذا هو المسرح .
 
الفساد الفني والثقافي… بين جلد الذات و نقد الذات.)/ د.عمر نقرش ...

سيلُ العرم … الجنان الموعودة والجثث الموءودة./ د. عمر نقرش

 
هناك.. حيث الضباب الذي يطفئ النور في النهى ، كان موعداً لانتظارِ ماضٍ لم يمهله النّعاس كي يكون ، و حاضرٍ لعل الأحداق تتفتح كي تراه حين يكون ، و مستقبلٍ دُنّس فيه المقدس حين ساد سحر الغواية التي كانت ، حتى هوت أمام طوفان لعنتها الأقدار و سحقت كل المصائر .هناك حيث سيلُ العرم .
(سيلُ العرم)  معمار مسرحي للكاتب التونسي متوقد الذهن والفطنة (بوكثير دومة) ، يقدم من خلاله صراعاً متصاعداً منذ اللحظة الأولى ، والتي قد قدم فيها وصفاً للمكان و الزمان الغارقَين في الإبهام و الغموض ، و ما لذلك من تأثيرٍ جليٍّ على انفصال الشخصيات رغم اتصالها ، حتى يتأكد ذلك عند تساؤلها حول المعلوم ، و يقينها حول المجهول ، وصولاً إلى تشكيكها في رصانة الحقيقة و تأكيدها على وهن الوهم .
ينتقل الكاتب بسلاسة من صورة مشهديه إلى أخرى ، و من حالة إلى حالة أخرى مغايرة تتضح من خلال الحوارات المختصرة بين الشخصيات ، و من خلال الطرح الجريء الذي تناول به علاقة الدين بالسلطة و سيطرة كل منهما على الآخر ، و ما للعقل من دور رافض لكليهما إن لم يأتيان بالحجة و البرهان ، فلا ظل في النفس إلا لما تدركه الحواس .
مطرزا ذلك بالجمال و القوة و الدهاء في شخصية الأنثى ،  التي ظهرت كمصيدة تتجمع فيها الرغبات و النزوات و الشهوات ؛ لتجري تحولاً في سير الأحداث و تصبح المحرك الرئيسي للفعل الدرامي في النص ، و ذلك من خلال سيطرتها على العقل الذي لم يستسلم للدين ولا للسلطة ، و من خلال سحرها الذي أغوى رموز الدين و السلطة ، حتى أصبح وجودها المتفق عليه مثاراً للجدل المختلف عليه أيضاً .
في (سيلُ العرم) طغى ما ترسخ في وجدان الجماعات على ما أدركه وعي القناعات ، فكان الأمل طائشاً ، و الجسد مستبشراً ، و الشتم حاضراً ، و الموت مساوماً ، و الغواية سلاحاً قاتلاً
في(سيلُ العرم) النبض الدرامي زّاخر ومكثف، بلغة درامية خالطها استيحاءات وتناصات دينية و ميثولوجية وانثربولوجية ونفسية وتقاطعات سياسية دينية عميقة، ترقى إلى الفذاذة والسلاسة الشعرية .وذخائر الشخصيات، تستخلص و تستجلي زبده الدخيلة الإنسانية في ثوابتها ومتغيّراتها ورسم منحنيا تتطوّرها بأسلوب شائق ومشوق ،وترغّب المُطالع في اقتناء جواهر هذا المنجز الإبداعي الذي يطلق صوت نذير لا يفتأ يتردد في آذننا، يدعونا الى اليقظة تلو اليقظة في عالم يموج بالأحقاد والفتن. وكأنما التاريخ يعيد نفسه ولكن هذه المرة من دق ناقوس الخطر هو             سيلعرم من نوع آخر.لا يترك حياة إلا وأدها ولا كرامة إلا أهدرها ولا وطنية إلا اغتالها ولا شرف إلا اغتصبه ولا عزة إلا أهانها ولا آدمية إلا سفكها ولا إنسانية إلا أعدمها.
العبارات والمقاطع تجعل القارئ كأنه أمام فيلم سينمائي مكتمل بالتقنيات الحديثة. تسمع فيه الأصوات أيضاً، تميزها، تأنسلها أو تنفر منها، تبعاً للحالة وللتصرف والانتماء والالتزام لكل منها. لتكتشف أن أسلوب المؤلف نابع من خميرة خياله وخبرته التقنية، برشاقة محملة بالدلالات، مشحونة بالإيحاءات، طافحة بالتأملات مشبوبة العاطفة. ليظهر لنا أن إنجاز النص في عديد من المواضع، وربما الوضعيات (الموضوعاتية، والشكلية والانفعالية)، التي تعدل وتتجاوز بدون انقطاع نحو صور جديدة للمعنى والكتابة. من هنا أنظر إلى النص كموجة تنزلق فوق نفسه التشكل أمام المتلقي الكثير من العوالم التخيلية بمعمارها الداخلي الذي يتولد عنها تجربة لثنائية الدهشة والصراع. ثنائية التناقضات الملموسة: القريبة والبعيدة، المؤقتة والدائمة، المفتوحة أوالمغلقة، المنتشرة والمنطوية، السطحية والعميقة، المتسترة والمستمرة، الكثيفة والشفافة، الحالكة والمشعة.
لذا فإن إستراتيجيةَ بناءِ الصّورة الدرامية عند بوكثير دومة وضعَت الشخصيّات ِفي أماكنها وأزمنَتها المناسبة إضافة إلى استيفائها المقوّمات الأساسّية الّتي تنهضُ عليها ابتداءً منَ الدّوافع الّتي تحرِّكُها وعوامل نموِّها وأوجه التّباين                                                         بينَها وبينَما يُحيطها من شخصيّات، والحوار الذ ي يُعبر ويَكشِف به عن فكرته وفكره ، لذا فإنّ َهي َسعى باستمرار إلى صياغَة حوار منسجم ومُتناسِق من حيث البلاغة والإيجاز والتّكثيف ليحقق به أقصى طاقة دراميّة للمعنى ودلالاته الصّورية، ليزيد من جمالية وبنائيّة نصه، وتتيحُ في الوقت ِنفسِه ِللمتلقي فرصَة التفسير والتحليل لِيُنتِجَ ويشكَّل هو الآخر نصه الجديد (نص المتلقي) وكلٌّ حس بمرجعيات هو ثقافته ونوع القراءة الّتي يستخدمها. وبذلك تَغدو الصّورة الدّراميَّةُ ذات دلالات متعددة تتنَوع مستوياتها التعبيرِية في نسق مُعين، فهي دوماً تعلو على لغة التواصل العادية، فالصورة بهذا المعنى عمل تركيبي يقوم الخيال ببنائها ليمنحهما تأثيراً جماليّاً.
في (سيلُ العرم) يستكمل بوكثير دومة بوعي ودراية مسيرة الأديب التونسي محمود المسعدي في نزعته الإنسانية وتساؤلاته الوجودية من خلال القدح الجدلي للأسئلة والتساؤلات.
من يُجبر السد ويأرب صدعه ؟
من ينجينا من جمر الحيرة ووطأة الانتظار؟
من يصم آذاننا عن نعيق الموت و صَفِيرِ الرِّيحِ؟
من يؤمن خوفنا من عصا السلطة ويطعمنا جزرتها؟
فقد اِنْفَطَرَتْوتَصَدَّعَت قلوبنا قبلانفطار و تَصَدَّعالسدّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت