الاستنبات والميتا-مسرح في مسرحية : "مشهور مش مشهور" لمازن الغرباوي/ د. سعيد كريمي
لعل ما يلفت انتباه المتلقي في العمل المسرحي الموسوم ب: “مشهور مش مشهور” الذي أعده وأخرجه المخرج الشاب المتألق مازن الغرباوي انطلاقا من مسرحية “كلخاس” للروائي والمؤلف المسرحي الروسي أنطوان تيشخوف، قدرته الكبيرة على استنبات المسرحية وملاءمتها مع السياق المصري العام، وتكييف النص مع النسق الثقافي المصري، عنوانا،ولغة، وأحداثا، وواقع…حيث خلنا أنفسنا أمام مسرحية تغوص في أعماق التاريخ الكفاحي المصري الحديث، (نكسة 67، وانتصار 73)، وما صاحب ذلك من تأثيرات سلبية وإيجابية عميقة على كل أبناء الشعب، بما في ذلك الممثلين الذين تلاحموا في الصراء والضراء، معبرين عن روحهم الوطنية، وتماهيهم مع القضايا الكبرى المرتبطة بمصير البلاد، مبدعين أعمالا مسرحية تساهم في التعبئة، وتكريس القيم الفضلى التي استشهد من أجلها المناضلون الأفذاذ.
كما أن استحضاره لأجيال الستينيات والسبعينيات من الممثلين والممثلات الذين صاروا اليوم نجوما، وكانوا آنذاك في بداياتهم، يبحثون عن موطئ قدم في الساحة الفنية يسير في الاتجاه نفسه. وهذا يعني أن الاستنبات الذي قام به مازن يتجاوز الاقتباس النمطي نحو محاورة النص الأصلي، وإفراغه في بنية ثقافية مصرية أصيلة. وهو اشتغال دراماتورجي واع، يجعل من النص الأول ذريعة لإعادة كتابة نص مواز، يشترك معه في التيمات الكبرى، لكنه ينزع نحو الاحتواء والتجاوز، والمغايرة والاختلاف. فنص العرض الذي شاهدناه على الركح، احتفظ فيه مازن فقط بروح نص تشيخوف، بيد أنه لجأ إلى تمصير نصه الذي جعله يمتح من معين المجتمع الفني المصري بإكراهاته، ونجاحاته، وإخفاقاته، ورهاناته، وتحدياته.وهذا يعني أن الاستنبات يتجاوز الاقتباس،والترجمة، نحو كتابة نص جديد من رحم نص سابق، بملامح وقسمات خاصة ومتفردة.
ومن مظاهر الاستنبات في هذا العرض أيضا طقس قراءة الفاتحة الجماعية عند الممثلين قبل رفع الستار، وهو تقليد معنوي سائد داخل المسرح المصري، يؤكد على العلاقة الروحية الإيمانية القوية التي تجعل الممثلين يستحضرون بركة الخالق وهم مقبلون على تقديم عمل فني صرف، سائلين منه العون والسداد. والأدهى من ذلك، أن المخرج عمل على تبيئة النص، وتحديثه، وملاءمته مع السياق العام الدولي المأزوم الذي يعيشه العالم اليوم في ظل انتشار جائحة كورونا التي أرعبت البشر، وجعلت الجمهور يخشى التجمعات، مفضلا الحجر الصحي، والانزواء في البيوت خوفا من العدوى، ومن عبثية الشرط الإنساني المتمثلة في الموت.
ومن أهم الميزات التي طبعت مسرحية “مشهور مش مشهور” أيضا هي استنادها إلى الميتا-مسرح، باعتباره خطابا يسائل الفعل المسرحي، ويضعه موضع تشكيك ومساءلة، ساعيا إلى طرح جملة من الأسئلة الحارقة المرتبطة بمسار ممثل أفنى عمره، وزهرة شبابه في المسرح، وظل رغم ذلك مغمورا، وفقيرا، ووحيدا، حيث لم يتمكن من تحقيق أي حلم من الأحلام التي راودته، بما في ذلك الاقتران بمحبوبته التي غادرته بعد عجزه عن فتح بيت للزوجية. وشكل الانتماء إلى الركح عزاءه الوحيد، حيث دخل في مجموعة من المونولوجات التي عرت واقعه البئيس، وكشفت عن مأساوية حياته.
وفي ظل غياب ثقافة الاعتراف داخل الوسط الفني، فإن أمه هي الوحيدة التي رفعت معنوياته، واعتبرته ممثلا نجما في الوقت الذي لم يحظ طيلة حياته بفرصة تمثيل أدوار بطولية، مكتفيا بدور الكومبارس، أو الممثل الذي يفوه بجملة أو جملتين على الأكثر، ساعيا إلى إقناع نفسه بأنه ليس هناك دور كبير ولا دور صغير، وأن الممثل الحقيقي يمكن أن يبين علو كعبه حتى من خلال جملة واحدة!
هكذا جعلنا مازن الغرباوي عبر تقنية الميتا-مسرح نعيش ونتقاسم مع الممثل مأساته، ونسائل مؤسساتنا المسرحية عن المعايير الفنية التي بموجبها تعطى الفرصة لممثلين ليجلوا عن أنفسهم وقدراتهم، ويحرم آخرون من هذه الفرصة بشكل ممنهج. وهذا يعني أن الميتا-مسرح هو نوع من النقد الذاتي الذي يلجأ إليه المسرحيون لمساءلة الممارسة المسرحية، ووضع الأصبع على أعطابها، في أفق تجاوزها. وهو ما انتهت إليه المسرحية من خلال رد الاعتبار معنويا للممثل عبر تسمية البناية المسرحية التي اشتغل فيها لأربعين سنة باسمه، أي “مسرح مشهور”…
ويبقى أن هذه المسرحية رغم قصرها، إلا مشحونة بفائض من المعاني والدلالات التي ينبغي مطاردتها، كما أنها تدخل جماليا في إطار السهل الممتنع الذي يوحي أكثر مما يقرر، تاركا عن قصد مجموعة من البياضات التي ينبغي عن المتلقي ملؤها، مراهنا على ذكائه، وفطنته.
** د.سعيد كريمي/ أستاذ باحث (المغرب)