مسرحيا: هذا هو المكتسب الالكتروني الأهم!!! / د. سامي الجمعان

التواصل المجتمعي الإلكتروني الذي فرضته جائحة كورونا على شتى فئات المجتمع، صنع ثقافة جديدة في التواصل الهادف إلى صنع حراك علمي وفني وإبداعي له طابع عولمي إن صح التعبير، فما كان صعب المنال في جمع جملة من المبدعين أو الدارسين على منصة واحدة بات يسيرا وسهلا وبأقل التكاليف، وحديثي في هذا المقال سوف ينصب على وجه من وجوه استثمار هذه القنوات التواصلية في المسرح، والمسرح العربي خاصة.
لاحظنا كيف ألقت الأزمة بضلالها على المسرح والمسرحيين في العالم أجمع، فظهرت لها جملة من التجليات الافتراضية، كان من أبرزها تنظيم الورش التدريبية، والندوات العلمية والفنية والثقافية الجماعية، كما أبرزت شكلا جديدا من أشكال المهرجانات المسرحية ذات الطابع الافتراضي، وشهدت إنتاجا للعروض المسرحية التي اضطر إليها المسرحيون بسبب التباعد الاجتماعي، محاولين اقناع أنفسنا بجدواها، وقوة فعاليتها، وقد نلتمس لأنفسنا عذرَ خوفنا على عجلة الحراك المسرحي من التوقف، أو التلاشي القسري في حضوره المجتمعي، خصوصا في ظل تصاعد وتنامي جاذبية قنوات السوشل الميديا، وسطوة هيمنتها على العقول والميول والفراغ، وازادت قيمة هذه الأهمية حين وجدنا العالم بأسره محشورا في سجون افتراضية، غير قادر على التواصل الطبيعي المعتاد، وأن سبيلة الوحيد كان شبكات الانترنت وفضاءاتها المفترضة، وهنا أطرح سؤال الدهشة لو لم يكن بين إيدينا مثل هذه القنوات في أزمة الكورونا وسطوتها علينا .
على أية حال حدث ما حدث وكان ماكان، ووجد المسرحيون أنفسهم في مأزق كبير انطلاقا من طبيعة المسرح القائمة على فعل الجامعة والمجاميع.
وبالتالي هي قناعة شخصية أن يكون هناك مسرح من نوع جديد يستغني عن الجمهور الحي والمباشر ويعوضه بالشاشة والجمهور الافتراضي، وأنا شخصيا لا يمكنني الاقتناع بفكرة تخلي المسرح عن دفء المشاهدة المباشرة، وحميمية الحضور الجماهيري المتسمر أمام الخشبة، ليرصد تقطيبة جبين الممثل، وسقوط قطرات العرق من وجنتيه، وتعاريج جسده وهو يتلوى أمام عيني، وغير مقتنع بإمكانية أن يحل المسرح محل السينما وشاشتها فيفقد خاصيته الرئيسية في الطقس الفرجوي المدهش. لكنني وبعد تأمل في هذه التجربة الكورونية، وفحص لتجلياتها استطعت الخروج بمكتسب له قيمة مضاعفة، وقدرة هائلة على تجسير العلاقة، وتوفير الوقت، وتدعيم الشراكات، وتلك هي طبيعة الأشياء إن أحطنا النظر إليها من زواياها المختلفة، وخففنا تطرف القراءة نحوها، وتعصب الرأي فيها، وهذا الموقف المتأمل أوقفني عند تجلٍ مهم من تجليات التباعد، الذي دفع بنا للبحث عن حلول ناجعة له.
 

المكتسب الذي أعنيه يخص التدريبات المسرحية أو ما نتفق عليها بـ(البروفات)، التي يحتاجها أي عمل مسرحي، وأقصد هنا إمكانية إجراء (جزء منها) أقول ٠”( جزء منها) عبر الوسائط التواصلية الإلكترونية على الأقل في بداياتها الأولى، وهنا استحضرت تجربة حية انجزت في مسرحية (انتحار معلن) التي أنتجتها رابطة الإنتاج المسرحي العربي المشترك (ATPA)، ومفادها أن تدريباتها الأولى كانت عبر شبكات الانترنت، بالتواصل اليومي في وقت محدد بين المخرج الأستاذ مازن الغرباوي من مصر، والفنانة الممثلة منى التلمودي من تونس، وأنا كمؤلف من السعودية، وكان تواصلا مثمرا للغاية حقق الهدف المنشود منه، في ظل وجود تباعد دولي بيننا لم يفرضه كورونا حينها، إنما فرضته المشاغل التي التزم بها كل منا في بلده، وفرضته طبيعة العمل القائم على شراكة عربية من ثلاث دول على الأقل.
أما النموذج الثاني وقد فشلت في العثور على صورة أو معلومات عنه لكنني قبل شهر تقريبا تابعت في الفيس تجربة مجموعة من الشباب كانوا يجرون تدريبات عرضهم الجديد عبر برامج التواصل، وكانوا في غاية الحماس ، وقد نشروا صورا للتجربة.
النموذج الثالث هو مسرحية (مشهور مش مشهور) التي عرضت قبل أيام ضمن مبادرة وزارة الثقافة المصرية، حيث انجز الأستاذ المخرج مازن الغروباوي عبر برنامج (ZOOM) جملة من البروفات من منزله.
على هذا النحو علينا أن ننظر بجدية عن كيفية الإفادة من هذا التكنيك أو هذه التقنية في توشيج العلاقات بين المسرحيين العرب على نحو ما تتجه إليه الرابطة، وأظن بما لا يدعو للشك بأننا اعتمدنا من الآن في مشروعنا المسرحي الثاني الذي تنوي الرابطة إنتاجه على توظيف هذه التقنية في انجاز فترة محددة من التدريبات.
 

بقي أن أقول تكنولوجيا التواصل لا ينكرها إلا من يعيش خارج اطار الزمن، فهي وقود حقبتنا ومرحلتنا، إلى الحد الذي لم نعد نتخيل الحياة دون وجودها، إذن لا يتوجب منا نسف كل تجلياتها في حياتنا، ولكن يجب التعاطي معها بتوازن شديد، فحين لانقبل عرضا مسرحيا على أسلاك انترنت الهاتف وموجات اليوتيوب لا يعني أننا نرفض الاستفادة منها في تدريباتنا على الأقل، ورفضنا للعرض له ما يبرره، وربما استحضر هنا المبرر الموضوعي الذي أورده الفنان غنام غنام في ورقة له تحت عنوان (التكنولوجيا في العرض المسرحي بين الخيال والصورة المرئية)، حين حاول ايجاد صيغة تبرر عدم قابلية العرض المسرحي لهذه الانتقالة من نبض المسرح وخشبته إلى جمود الشاشة وفتورها، ويتلخص كلام غنام غنام في قوله: ” إن الجزء الذي يجري أمامنا مباشرة هو العرض المسرحي،  أما المنقول فإن عينا إلكترونية غير عيني كمشاهد هي التي ترى، وعين المصور هناك هي التي حددت وصادرت حريتي في التلقي، فلست صاحب خيار في تفاصيل ذلك التلقي، وهكذا فإن نبض وحياة عرض المؤدي  هناك تصلني مبسترة”،(انتهى الاقتباس).
تلك هي فحوى المسألة” أننا نُلغى وتُلغى زاوية الرؤية التي نختارها لأنفسنا في العرض المسرحي، كما نفتقد ذلك الحس المدهش الذي نتواصل فيه مع العرض المباشر، ونستبدله بحس لا يتسق مع المسرح بقدر اتساقه مع كاميرا السينما مثلا.

وعليه نخلص إلى أن هذه الجائحة بقدر ما افقدتنا نبض المسرح وفتنة الفرجة بقدر ما منتحتنا فرصة للبحث عن بدائل في تكتيك تواصلي جديد بين فريق العمل ومخرجه، ومدتنا بـأفق جديد في البحث عن حلول لتعزيز شراكة مبدعينا العرب في عشقهم المسرحي الكبير.
** د. سامي الجمعان / أستاذ الأدب والنقد المشارك
   ورئيس رابطة الإنتاج المسرحي العربي المشترك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت