تنشيط الذاكرة المسرحية:" برحيل الرجال عن الأرض .. يضيع العرض"/ ناصر العزبي

مقال عمره ثمان سنوات، بالعدد ال11ـ من نشرة المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الخامسة 2010م ، عن مسرحية “عرق البلح” من إخراج د. عبير منصور الذي مثل جامعة حلوان بالدورة الخامسة من المهرجان القومي للمسرح المصري، وهو واحد من المقالت القريبة لي حيث أبدع فيه مجموعة الهواة من الطلبة والطالبات الذين قدموه، وهو واحد من المقالات التي حالفني التوفيق بشكل كبير في اختيار عنوانه

عن ” مسرحية عرق البلح ”

برحيل الرجال عن الأرض .. يضيع العرض

 
عناوين فرعية
في ” عرق البلح ” ؛
هل الزخارف وكثرة التفاصيل .. تكون في صالح العرض ؟!
عندما يشغل الديكور المساحة المجردة يقتل مساحة الخيال !
” عرق البلح ” من عروض المهرجان التي أعجبت بها ، فهو عمل فني احتوى على كثير من العناصر الجمالية لتي كانت سبباُ في تميزه ، ومن تلك العناصر أذكر ذلك ” الحماس ” الذي تمتع به فريقي التمثيل والديكور من طلبة قسم المسرح بآداب حلوان ، أيضاً عنصر ” القيادة الواعية ” للفنانة المخرجة عبير منصور التي تتوافر تتمتع بخبرة مسرحية واسعة “ممارسة ودراسة” ، وكذلك ” تيمة الرحيل ” التي اتخذها العرض موضوعاً له ، تلك العناصر وغيرها كانت عوامل نجاح لهذا العمل الفني الراقي …
المخرجة ؛

د. عبير منصور المدرس المساعد بقسم المسرح بآداب حلوان ؛ فنانة ذات موهبة أصيلة تمتد علاقتها بالمسرح إلى أكثر من عشرين عاماً ، منذ بداية التحاقها بالجامعة ، وقد قامت خلال مسيرته ببالتمثيل بالجامعة وبالثقافة الجماهيرية وحصدت كثير من الجوائز ، ولا زلت أذكر أداؤها ـ في آوائل التسعينات ـ في عرضي ” طلقات الحجارة ـ 90 ” ، ” الغربال ـ 95 ” للراحل عبد القادر مرسي ، و دورها الرائع في ” من يملك النار ” للمخرج جمال مهران ، أيضاً شاركت في عروض احترافية بالمسرح وبالتليفزيون لمخرجين كبار أمثال عبد الرحمن الشافعي ، حسن عبد السلام ، هناء عبد الفتاح ، ناصر عبد المنعم ، وغيرهم .. ، وهي قبل وبعد ذلك تمارس فن المسرح باعتبارها فنانة موهوبة وممثلة متميزة أقدمت على ثقل موهبتها بالدراسة بالمهد العالي للفنون المسرحية ، وأذكر أيضاً أيضاً أنها شاركت بالرقص مع فرقة بورسعيد للفنون الشعبية ، كل هذا وغيره جعل مخرجتنا مُحملة بتاريخ فني كبير مكنها من امتلاك أدواتها كمخرجة لها رؤيتها
الحكاية ؛
أحداث الحكاية تقع في قرية من قرى الجنوب ، تضيق المعيشة بمن فيها ، فيهج الرجال منها سعياً لتحسين أحوالهم المعيشية ، يترك العريس عروسه واعداً إياها بالخلخال والذهب ، ويترك الزوج زوجته الحامل آملاً في أن يوفر لإبنه القادم حياة آمنة ، ويترك الأب أسرته من أجل أن يعود بما يعينه على شوار إبنته التي باتت في سن الزواج ، يرحل ست رجال من القرية قاصدين العمل بإحدى الدول من أجل العودة بالمال الذي يأمن مستقبلهم ، .. يخلفون وراءهم ست زوجات ، وما بين الرحيل والعودة يكون المرار ، مرار اللوعة والحرمان والوحدة للنساء ، ومرار الغربة والسُخرة والمشقة للرجال ..
وتلتقط عبير منصور فكرة الرحيل عن فيلم ” رضوان الكاشف ” ، وبينما ركز ” الكاشف ” على أهل القرية ـ في الفيلم ـ باستهلاكم النخيل واستمرارهم في قطعه وتجريده حتى باتت قريتهم مكشوفة لا تحمي أهلها من لهيب الشمس ، ولكننا نجد ” عبير ” في مسرحيتها تركز على رحيل الرجال عن القرية ، وتعزف على الأثر الإنساني لهذا الرحيل في محاولة منها لإحداث إسقاط على واقع الوطن الذي ضاق بالرجال ليضطرهم للهجرة بحثاً عن ما يحقق لهم ولأسرهم الآمان .. وفي غيبة الرجال تفترس الوحدة النساء ، وينصب الطبال ” أحمد علي ” فخاخه لإغوائهن مستغلاً الضعف الإنساني لديهن محاولاً النفاذ إليهن ، فتقع ” شفى ” في المحظور ، وتظهر فضيحتها ، ويعقب ذلك مشهد الحرق لـ “شفى” للخلاص من الفضيحة والتطهر من العار حيث تقمن النساء بحرق الخائنة ، .. وتصلنا الأخبار تباعاً ، فنسنع أن أحوال الرجال التي لا تسر ، ونعرف بقتل إبراهيم للكفيل ، وبموت حسين ، .. وفي القرية يقلح  أحمد في تمكنه من طلوع النخلة العالية وتفتن به النساء ، وتنشأ علاقة بين أحمد وسلمى ويطلب خطبتها ، .. ويعود الرجال ، ويكتشفوا خسران كل شيء وضياع العرض ، لم يجنوا من وراء الرحيل إلا العار ، يذوق سالم مرار العار ، ويكتشف فضيحة ابنته سلمى .. وليقرر الثلاثة ـ حسين/ سالم/ إبراهيم ـ أن يطلع أحمد العالية وأثناء طلوعه ينهال ثلاثتهم عليه بالبلطة والسكين والسيف …
عن العرض والمنظر المسرحي ؛
منذ اللحظة الأولى لبداية العرض تأخذك الدهشة حيث تنجذب للحالة المسرحية التي تأسرك ويصعب عليك طوال مدة العرض بل وبعده ـ التخلص من هذا الأسر ..! هذا مع إيقاع سريع للعرض يتحكم فيه أفراد التمثيل ، ويبدأ العرض بزفة بمقدمة خشبة المسرح لتأخذنا الموسيقى والألحان والأغاني التراثية التي تمتد بطول العرض مع جملة من الططقوس الجنوبية التي تستمتع بمشاهدتها ، ..
أما المنظر المسرحي الذي يطالعك به العرض في البداية والذي شكلَّه د. محمد سعد ـ وتلامذته ـ كان منظراً غاية في الجمال والروعة ، دقة واتقان في التنفيذ ، فالمشهد الافتتاحي مع للعرض ” الزفة ” عبارة عن ستار من التل مرصع بمتيفات شعبية كثيرة تكشف من خلالها القرية عن بعد ، وبرفعها ينكشف المنظر لنا ، لم يترك الديكوريست مساحة في المسرح إلا وشغلها ، على يمين المسرح كانت غرفة نوم “شفى” ؛ حائط مُطعم بالنخل ، وسرير نحاسي كبير يسرق نظر المشاهد إليه ويشغل مساحة كبيرة من المكان ، وعلى اليسار ؛ ساحة دار العيلة ، مدخل ونافذة ومصطبة ، وفرن ، وأيضاً مفردات نخيل ، وفي العمق ساحة للنخلة ” العالية ” ، و مفردات أكسسوار كثيرة منثورة هنا وهناك ، …
ومن المعروف أن المساحات المجردة تعطي مساحة نسبية للخيال ، وبانعدام المساحة المجردة تنعدم مساحة التخيل ، وهذا ما كان من ديكور ” عرق البلح ” ، لقد أصرف في الجماليات ولم يترك للمشاهد مساحة للخيال ، أيضاً اهتم بجماليات بصرية كثيرة مما انساه أن يعكس الفقر وحياة البؤس والحرمان وضيق المعيشة التي دفعت رجالها للرحيل ، أما الإضاءة فقد كانت موفقة بشكل كبير في هذا العرض واستطاعت المخرجة توظيفها مع الحلات النفسية ..
.. ولكن هناك جماليات من نوع آخر أصرفت المخرجة في استخدامها دون أن تتحكم فيها ، فأحياناً تفرض الزخارف والجماليات نفسها بما يصعب التخلص من أسرها ، فمن الطبيعي أن يكون كل شيء بقدر فلا يجوز الاعتماد على الكل ما يتم جمعه بل علينا الانتقاء ومن تلك الجماليات المادة الغنائية التراثية ؛ فالمخرجة اعتمدت على استخدام الأغاني التراثية بشكل كبير، ورقص الصبايا للعروس ورقص الرجال بالعصا للعريس ، وركزت على ممارست طقوس المناسبات والعادات ومنها طقوس الزفة والميلاد وطقس السبوع ورش الملح والخطوة  والعديد والندب وبعض الأغاني الجنوبية المرتبطة ببعض تلك المناسبات ، ومن بعض مقاطع الأغاني أذكر من أغنية الزفة ” ” ياناس النخل قبلي / طرح بحري وقبلي .. ، .. شفت كوعك لما شمَّر ؛ قلت فل وقلت مرمر ” ، ومن أغني التنويع على الرحيل أو العديد ” وصيت عليا مين وسافرت يا محبوبي .. وصيت عليا مين ؟ / وصيت عليك وعليك .. السيد ورب العالمين ” ، ” زعق الوابور ع السفر .. أنا قلت رايحين فين ؟ / رايحين تغيبوا سنة ولا تغيبوا اتنين ؟ / رايحين تغيبوا سنة .. متنوَّحيش يا عين ” ، ومن الأغاني التراثية ” بيبة” وهي أغنية تعرف بالـ ” عذابات ” وأظنها لا تتناسب وحفل السبوع وإنما تعبر عن العذابات بشكل عام التي تعايشها النساء ومن مرارة الواقع والظروف وكان للمخرجة أن تضعها في موقع أخر ، ومن الإغراق في الطقسية أن أصرفت المخرجة في طقس الولادة على خشبة المسرح ، وهو مشهد over لم يكن العرض بحاجة إليه، أما موسيقى محمد الزغبي فقد كانت من أهم إيجابيات العرض حيث تناغمت مع الحالات النفسية بين الفرح والحزن ، وبين داخل النفس وخارجها ، وقد اعتمد الزغبي على التوزيع الموسيقي لبعض الجمل اللحنية التراثية والأخرى المؤلفة لبعض الجمل الموسيقية التي تماشت مع التصاعد الدرامي للعرض
وقد ظهرت بعض الإشكليات المتعلقة بالنص والناتج عن الصياغة بما كان له أثره على البناء الدرامي ، ومنها أن اهتم نص العرض بست شخصيات محورية وهي كثيرة على عرض مسرحي مدته ساعة وكان من الممكن التركيز على حالة أو حالتين فقط ، الأكثر ، أيضا الحوار الذي بدى وكأنه “كوكتيل” ليس مرتبط بالهجة الجنوبية ، ومن ناحية التكنيك لم تستطع المخرجة التخلص من أسر الفيلم السينمائي فاعتمدت على تنفيذ المشاهد على مستوى الحركة والانتقالات مما ترتب عليه التي تكرار الإظلام ، وكان عليها هنا بالتحديد ـ بالنسبة للإضاءة ـ ألا تتخلص من التكنيك السينمائي  بأن تعتمد على البقع الضوئية بالانتقال من مكان إلى آخر بإسلوب المزج السينمائي ـ نزول تريجي بالإضاءة للمشهد الجديد وسحب تدريجي للمشهد المتهي ـ  بدلاً من الإظلامات المتكررة بين المشاهد .. ، أما بالنسبة للاستعراضات فإن الجميل هنا هو اعتماد المخرجة على فريق التمثيل نفسه بالقيام بالاستعرضات بما هو في صالح التجربة وعليه لا نقيمها باعتبارها استعرضات ـ شكل جمالي زخرفي ـ ولكن كجزء من دراما العرض ، فبدت متميزة ببساطة الجمل الحركية وعفويتها التي توافقت مع المعنى الكلي للمطروح أمامنا.
وتبقى الإشارة إلى أن الحصيلة الجمالية لتفاعلات جزئيات العرض مع المضمون القكري ـ الركيزة الأساسية ـ للعرض نتج عنه حيوية وإيقاع يه نكهة خاصة غطت على سلبياته ..
التمثيل ؛
أجاد فريق التمثيل جميعه ” مارينا مجدي ، نهاد نايل ، ندى إبراهيم ، وسام أسامة ” اللائي جسدن أدوارهن ” آمنة ، حمدية ، سليمة ، الأم ” وقد تميزت معهن كل من ” أماني عاطف ، وميسون حسين ” في دورهيما ” شقى ، سلمى ” ، كذلك أجاد الشباب ” فادي أحمد ، شهاب الدين أحمد ، محمد سامي ، محمد مجدي ، مصطفى بسيط ، إسلام علي ” في أدوار ” حسين ، سالم ، إبراهيم ، العبيط ، التخين ، سيد ” ومعهم تميز بشكل خاص الموهوب ” محمود السيد ” الذي فام بدور ” أحمد ” وأيضاً المتمكن ” أحمد عبد الجواد ” في دوره ” أحمد علي “
كما أرى من الضروري تقديم التحية للفريق المهاري الذي قام بتنقيذ الديكور ” بسمة خليل، منار سعد ، عائشة محمد ، يوشينا وجيه ، مرام نبيل ، مادونا مجدي ” و وجميعها تملك طاقات شبابية مع توافر الخبرة لها سيكون لها شأن كبير كل في مجاله
ناصر العزبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت