نص مسرحي:" كنت ذات يوم…"/ تأليف: محمد عبد الخضر الحسيناوي

مونودراما

 
المكان: بكل أنقاض الأرض
الزمان: كل الأزمنة صالحة
(رجل كثيف اللحية والشارب، شعر الراس طويل وغير مرتب وكأنه لم يغتسل منذ مدة طويلة يدخل بعجالة لغرفته البسيطة جدرانها أكياس معبأة بالنفايات وسقفها أعمدة بالية فوقها صفيح مستوي وبعض أكياس النايلون، السرير عبارة عن أكياس القمامة والوسادة صحف ومجلات قديمة,  الجوانب بعض الاكياس المتراصفة الغرفة تتوسط المسرح وتأخذ الحيز الأكبر لا ابواب ولا شبابيك الواجهة الامامية مفتوحة بالكامل بجانبها غرفة صغيرة من نفس المواد مغلقة بستارة معلقة بقضيب سلايت كتبت قطعة اعلاها بألوان مختلفة كون الأقلام جمعت من النفايات وحسب انتهاء الاحبار القطعة واضحة (قاعة الاجتماعات الكبرى)
رجل: ما زلت اركض تعبت قدماي والكل يبحث عني لم ارتكب أي جرم ولا تلك المخلة بالشرف، المخلة بالشرف ههههههه لست واثق من تلك لأنهم حين مسكوني المرة السابقة من كثر التعذيب والضرب والتعليق والسحل واللسعات الكهربائية فقدت الوعي ساعتها رغم الدماء التي سالت لم اصحى الا باليوم الثاني على الماء الحار والغريب باني استيقظت مرتخيا، لا أحس حتى بقدمي وراسي يدور في السقف رغم الماء الحار وصراخ المرعب صاحب الراس الكبير والانف المنفوخ تلك الليلة التي تخونني معرفة خباياها لم اعد اكترث لتلك الكلمة، ولا اعتقد بانها لم تخترق الجميع لأننا تحت سقف واحد.
(يحاول تشغيل المذياع المركون فوق كومة نفايات يحركه بلا فائدة يمينا وشمالا يضربه ولكن بدون فائدة يضعه بمكانه ويبحث بين الأنقاض بحرقة ليجد بطاريات يمسحها برداءه وهو مرتبك وفرح يمسك حجرة يضرب بها البطاريات يلتقط المذياع ينتزع البطاريات القديمة ويرميها ويضع مكانها البطاريات الجديدة المستهلكة يفتح المذياع يبحث بين المحطات ويغير حتى يستقر على محطة وصوت المطرب حسين نعمة اغنية يا حريمة يتنفس الصعداء ويعود مختبئا يتقدم ويجلس القرفصاء يسند جسمه على كيس الخردة التي يجمعها كل يوم ويردد مع الاغنية بخوف شديد وكانه يتناغم مع الموسيقى برقصة وبنفس الخوف يقف ويخرج ويدور يقترب من المذياع بقوة ويمسك به يحاول اخراج البطارية يمسحها ليضعها في جيبه وهو يثرثر)
رجل: كيف تٌسرق الكلمات والاحلام، كيف تموت الحقيقة ولأتبقى سوى الأوهام، انت قلتها منذ زمن بعيد وما زلنا نرددها لأنهم في كل مرة يسرقون الكلمات والاحلام والمستقبل البعيد، يسرقون ونحن نغني ونطرب ونرقص على الجراح وحين نتعب ننام او نهرب لأحلاملا تجرؤ الوصول الى حل، وان تجرأت سياتي كابوس يمزقها،  الوطن كان كل همي وعلمي وعملي كنت اسهر أيام وانا اعمل بين المخابر والبحوث بعض النتائج كانت سيئة ومؤثرة حتى اصبت بضيق التنفس وتقلصات الرئة رغم الاحتياطات التي كنت اتغافل عنها، (ينتبه لمعصمه الملفوف بقطع بالية من الشاش)  لم انساك لا تتحرك وكأني ظلمتك، انت أيضا كنت ضحية تلك الأبحاث اذكرها جيدا تلك الساعات التي امتزجت بين الخيال والواقع وجعلت كل هذا الجسد الثقيل فراشة تبحث عن مخرج وتقفز فوق الأشياء ولم أكن احلم باني أعيش بعد تلك اللحظة لولا بطولة الكف وتضحيته لإنقاذ الجسد الخافق وازاحة التركيبة التي ازاحته وابتعدت، شكرتك بالسابق واليوم العنك، بكل لحظة العنك ما كان لك ان تنقذني لو مت ساعتها ربما كنت بطل يشيعني الجميع بعلم الوطن ويسير خلفي كبار المسؤولين ويعزف النشيد الوطني ويسجلني التاريخ من علماء هذه الامة، هههههههههههلا اقصد من علماء هذه القمامة (ينظر الى النفايات خلفه) لا اتحدث عنكم أنتم عالم خاص يصعب ان اتحدث عنه، أنتم أكبر مني بكثير، أنتم عالم المسحوق والمترف عالم تشكل رديف للعالم الطبيعي منه نستطيع معرفة أحوال الاخر وطبيعة حياته، وهذه القمامة تتحدث عن بيئتها المقرفة وناسها المسحوقة، غذائهم المتعب واغراضهم البالية، حتى بقايا غذائهم لا يشبع نملة، يالكم من جبل الصبر المتهرئ، تحملون اللؤلؤ وبطونكم خاوية، تقفون فوق آبار المال وجيوبكم فارغة، أي عقول تحملون، لا حديث لكم سوى ان الله يحب الصابرين، ولكنكم تناسيتم بان الله عدو الخانعين، ماذا فعلت بي ياسيد سومر فتقت جراح الامس وأطلقت الحكم لما تبقى من العقل بالرحيل، لن تتمكن مني فانا وانت من نسل واحد مزقته السنون وارهقته العواصف ولكننا صامدون جذورنا قوية لا مستقر لها بأعماقالأرض، تحتاجها الأعماق لتستقر بها الأرض،
(يحمل بعض الاغطية ويرميها داخل الغرفة بحرقة)
رجل: كم كرهت الاغطية من ذلك المحجر المهلك وكم تمنيت ان تهمل وتحذف من هذا العقل المتمسك بالذكريات المؤلمة كلما دعوت الله نسيانها ازدادت الرؤيا وتوضحت التفاصيل هي نقمة او رحمة لا اعلم ولكنها كابوس يتحرك جفت الدموع ويحاول ان يجفف الدم في العروق، لم أكن خائف عندما هجم قطيع يخفي ملامحه، مدجج بالسلاح والهراوات والاقنعة احمد الله باني لم اتزوج ولا اطفال عندي والا تحجرت الدماء بدماغي وجفت العروق، المسكينة امي كانت بجانبي وصينية العشاء امامنا أصوات مرعبة وصراخ همجي كسروا الأبواب وقفزوا فوق السياج لمأكن اقصد ركل العشاء ولكني ركلته دون ما أدري، سقط بعض الحساء على اقدام امي التي لا أرى بعروقها قطرة دم وتحول لون وجهها الزهري الى قطعة (خريط) (الخريط هو صناعة شعبية لأهوار العراق يجفف ويحرق البردي لتخرج منه مادة صفراء تأكل حلوة المذاق) الرحمة لك يا امي لم تصمد ساعات بعدما رأتني مكبل بالقيود ومحمول بالهراوات، حلمها وقوتها وحياتها تزاح بلحظة وبلا سبب،هي التي تذكرني كل يوم بأنهم سيأتون اليك ويكرمونك وتعود لعملك، لست مجرم، قواتهم الكثيرة كان يمكنها ان تحرر مدينة، وانا لا املك سوى عقلي وقلمي لماذا كل هذا الرعب والقوة، لست مجرم لاهان بهذه الطريقة لم تنفع كل الكلمات لأنهم لا يفهموا شيئا وان فهموا ازادوا ضربا وتوبيخ، لست مجرم أيها السادة وأنتم مخطئون لي تاريخ نظيف من الاجرام واسالوا عني، كأني أشتمهم او ابصق في وجوههم يزدادون عنفا وكراهية، لست مجرم ربما توهمتم باسمي او عنواني من كان يقتل ويسرق ويفجر يسكن في الشارع المجاور، لكمة في الراس وقبضة في العنق من ذلك المجرم الساكن بالشارع المجاور، اااااااهاختنقت من رائحة فمه النتن وهو يصرخ بوجهي ويصف نفسه بالمجاهد، ااااااااااااه أي دولاب هذا يقلد الأرض ولا يقف، لست مجرم انا عالم ذرة، يا ليتني لم اقلها ربما فهموا الامر باني قنبلة، الهراوات والتنكيل وكيس نفايات اخفى راسي وانتهى الامر، وجدت نفسي بين العشرات لم اتعرف عليهم من قبل لا وجوه لهم ولأحراك، الدماء تغطي نصف وجوههم والصراخ كلامهم، من أنتم ماذا يجري أي جرم ارتكبنا دون ان ندري، من منكم مثلي لا يد ريما يحدث، العيون الذابلة وحدها تجيب بخجل كلهم مثلي لا يعلمونما يجري،ساعات ونادا الحارس باسمي رغم عدم احساسي بكل اعضائي ولكني فرحت ونهضت، نعم انا هو، لقد انكشفت الغمة وعرفوا باني بريئا سيعتذرون مني ولن اسامحهم على قتل امي والرعب الذي رافقني، ولكني تراجعت، ساعفوا عنهم لان الوطن يستحق ومشاغلهم كثيرة ربما اختلط عليهم الامر وتشابهت الأسماء والاجساد الوطن يستحق ما داموا يدافعون عنه،الصفعة اعادتني للمحجر وتلاشت اعتذاراتي، ما زلت واقف تحرك قالها ورحل تبعته قدماي بخوف وحذر، ركلني بقوة يطلب مني جلب غطائي معي قلت لا احتاجه الجو دافئ هنا، جديد هنا نعم جديد، تعالت قهقهته المركبة، اجلبها معك لتعود محمولا بها لأنك لن تقوى على المشي، ضاع كل شيء وتبعثرت السيطرة وايعازات العقل القدم واليد يتحركان دون ارادتي حتى معدتي الهادئة بدأت تتصارع وتتمرد، امسكت بغطائي خلفه عبر ممر ضيق كل من بهذا الممر يركلني او يبصق او يصفع وانا احدثهم باني لست انا المقصود وستعرفون هذا، دفعني بغرفة كبيرة واغلق الباب ورحل، ستة اشباح يسكنها خمسة منهم يمسكون الهراوات والأخير يجلس خلف منصات لأجهزة الكهرباء كأنه رائد فضاء،سألني أحدهم هل انت نعم انا هو، كأنهم وجدوا الله لم يتركوا شيئا من جسدي الا وسالت منه الدماء وتكسر ما يمكن تكسيره،اعترف لا املك أي اعتراف سوى أنى عالم، سجل اعترافاتك اعطوني ورقة وقلم كتبت بعض المعادلات العالقة ولم تمحى اتهموني بانها طلاسم أحاول تسخيرها ليعفوا عني وعادت الهراوات واصوات، لن تنفعك هذه الطلاسم، اعترف لا املك أي جريمة لاعترف بها، اكتب ما تعرف كتبت تركيبات بعض المواد، امسك أحدهم بكفه على الورقة مبتهجا كأنه اكتشف الكوكب وصرخ هذه رسائل مشفرة يرسلها للأعداء، قيدوني على سرير مفصول من الوسط معلقة اطرافه نحو السقف ورائد الفضاء يتحكم برفعه نحو السقف كلما ارتفع يتقوس ظهري حتى امتزج راسي بالسقف احسست بان الرقبة والعمود الفقري انفصلا وأغمي علي، لا اعرف اقسم باني لم اقتل نملة، لست مجرم واقسم باني اكثركم حبا لوطني، لست مجرم إذا كان حبي لوطني يجعلني مجرم فانا مجرم اقتلوني لينتهي الامر، أنسا لابد ان أنسى لن تكوني عالقة الى الابد ذكريات مملة تعيدني كل يوم لتنتقم مني وكل يوم اقسم ان لا اعيدها ولكنها مصرة ان تعيدني، سألغي كل ذاكرتي،
(يبحث بحرقة في جيوبه ويخرج بطاريات المذياع يمسح وهو يثرثر بانه سينسى كل شيء يضع البطاريات في المذياع يحر يمين وشمالا)
المذياع: نشوب حرائق في منطقة سكنية قريبة من احدى الوزارات المهمة مما أدى الى احتراق الطابق الثاني للوزارة بالكامل المخصص للعقود والأمور القانونية. جاءنا توا ما يلي اثناء نقل الأموال من المطار المركزي للعاصمة هبت عاصفة ترابية رملية قلبت الشاحنات مما أدى الى فقدان الأموال بالكامل.
(يمسك المذياع دون وعي ويرميه بعيدا على كومة أكياس النفايات الا ان صوت المذيع مازال يتحدث)
المذياع: هروب أحد المسؤولين بعد اختلاسه مليارات الدولارات وتأكد بانه سافر جوا بصحبة اثنين من موظفي السفارة التي ينتمي اليها.
(يهرول نحو المذياع ويحطمه بالأقدام ويعاود سحقه ويهرب بعيدا، يجلس بوضع القرفصاء يرتعش من الخوف تتحرك يداه وقدماه دون ارادته وبشكل عشوائي ضحكات مصطنعة تعلو وتهبط مع تلك الضحكات المزيفة يمسح دموعه التي فاضت دون علمه، يسمع صوت المذياع من الفضاء)
صوت: استطاع التنظيم الإرهابي قتل 1700 شاب في أحد المعسكرات.
(يجوب المسرح مرتبك بصراخ ونحيب ممتزجة ضحكات تعلو وتخفت يطرق بأقدامه الأرض ويضرب بكفوفه الراس يسقط وسط المسرح راكعا على ركبتيه خافي الراس بينهما)
رجل: الا يكفي.. الا يكفي.. ما عدت اطيق سماع تلك الاخبار، هي اخبار مزيفة، لا.. الناس تموت وتسرق.. انا المزيف نعم انا بفكري وجسمي مزيف.. من كثر الضربات على رأسي والكهرباء اللاسعة غيرت كل شيء السمع والبصر حتى اللمس (يسرع نحو أحد الاكياس ويلمسه) اشعر بان تلك الاكياس ناعمة كالحرير ربما هي فعلا مصنوعة من الحرير. لا لا.. لست انا المزيف ما زلت اذكر اسمي اجل اذكره لست متأكدا ولكني اعرفه، انت المزيف أيها المذياع المخرب تعكس كل الأشياء الجميلة الى دمار اجل انت المزيف، جاسوس بيننا تعكس الاخبار، بلا، انت هو لأننا لا نملك صناعة ولا تجارة ولا زراعة ولا أي شيء هم من صنع تلك الأجهزة الاستعمارية يتحكمون بها كيفما يشاؤون غايتهم اخافتنا. لو كنا نصنع تلك الأجهزة لما تجرأت على نقل تلك الاخبار.
(يقف وسط المسرح وكأنه يرى شخصا يتحدث ويتصارع معه تشكل حركاته الدائرية باتجاه عقرب الساعة دائرة للحدي والصراع مع الذات وتختلف الحركات عندما يأخذ دور الاخر حركة مستمرة تتصاعد حسب الحوار)
رجل: ابتعد عني لم اعد اطيقك انت سبب بلائي وعزلتي
الوهم: بل انا سبب بقائك انت مدين لي بحياتك
رجل: أي حياة تلك التي أدين بها لك وانت سبب جنوني
الوهم: لولا جنونك هذا لما بقيت حيا
رجل: حيا، أي حياة تقصد تلك الغثيان والجنون، هل انا حي ام تائه بين الاثنين
الوهم: كنت ستتعفن بالسجن او ربما تقتل لولا وجودي لما أطلق سراحك
رجل: لولا وجودك لما كنت هنا بين غفوة عالم وصحوة مجنون
الوهم: انت من دعاني اليك كنت نائما، دعوتني لأنقذك كانت كل قواك بالية خاوية
رجل: لم افعل شيئا كنت صامدا لأني اعلم باني لم افعل شيئا انا بريء
الوهم: ومن يصدقك وانت وامثالك اصبحتم عبئا في عالم الجهل
رجل: ماذا تريد مني، اتركني وابحث عن غيري
الوهم: لا رفيق لي غيرك افهم ياهذا ولدت معك حين تدفن اتحرر
رجل: ولكنك الضياع، تحاول الغاء هويتي
الوهم: هويتك عن أي هوية تتحدث تلك التي اجبروك على الجلوس فوق ….
رجل: كفا،اسكت،اخرس، لا اريدهم ولا اريدك كفا، لا تتحدث بتلك الأمور بهذا الفضاء
الوهم: حسنا، لندخل قاعة الاجتماعات الكبرى ونتحدث بالأسرار
رجل: تلك الأمور لايجب التحدث بها قاعة الاجتماعات الكبرى تتسم بالسرية ولا يجب فضح الاسرار
(يقود الوهم وكان شخصا يرافقه يشير بيده لدخول القاعة ويرتطم وكان شخصا يزاحم الدخول يفتح ستار قاعة الاجتماعات الكبرى وهي عبارة عن مرافق غير صحية تنتشر بها المقاعد الشرقية بطريقة عبثية، يدخل وينظر للجمهور)
رجل: الجلسة سرية جدا
(يغلق ستار القاعة)
 
 
محمد عبد الخضر الحسيناوي
24/5/2020 الساعة الثالثة صباح يوم الاحد
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت