في زمن الكرونا ”مشهور مُشْ مشهور ” مسرحية مصرية تناصر هموم المغيبين المنسيين/ بقلم: علي باقر

جميلٌ أن نرى أبو الفنون المسرح لا تطفئُ أنواره بل يبقى شعاعُهُ المشتعلُ بالعطاء يسهمُ في نبش قضايا الإنسانية ومعالجتها ، لا يحد من عطائه ظرف مادي كان أو وباء منتشر يحصد أروح البشر و يحاول بشراهة فجائعِهِ عرقلة أنشطة الحياة وتجميدها أو السَّعي في موتها.
فنحن دائما نشجع جيوشنا البيضاء المكافحين لتغلب على هذا الوباء ولكن هناك أيضا بشرٌ فنانون يسعون لمحاربته و الاحتراز للحدَّ من خطورة هجومه وبثقافتهم الفنية يرفضون الاستسلام له ، يدفعهم اليقين بأن لا يتوقف عطاء المسرح .. هكذا وجدناهم في عالمنا العربي يبتكرون أساليب جديدة لبيرهنوا لأخوانهم أنهم أحياء يرفضون موت فنهم ، و أنَّهم يتحدون ” وباء الكرونا ” الطائش الذي استوطن أراضي العالم و سيطرعلى أسلوب حياة الناس في هذا العام 2020 .. من هؤلاء نجد الفنانين المصريين قد ابتكروا حلولا للتواصل مع جماهيرهم العريضة في مصر و خارجها الذين أجبرتهم هذه الظروف العصيبة أن يقبعوا منعزلين في بيوتهم للحد من انتشار هذا الوباء الخطير ، وأن يشغلوا أوقات فراغهم بين فترة وأخرى ببرامج مفيدة أو بالقراءة والاطلاع أو بالمشاركة في لقاءات عبر برامج التواصل عن بعد ، لذا نجدهم مشكرورين دفعوا بهذا المهرجان المسرحي إلى المتلقين ” المشاهدين ” مع مراعاة الجوانب الاحترازية أثناء التدريب و التصوير.

فقدم المنظمون المصريون عشر مسرحيات جديدة مدة عرضها تتراوح بين عشرين أو خمسين دقيقة أقتبست جميع أطروحاتها و قضاياها من قصص قصيرة مُسْرحَها الكاتب الروسي الشهير ” أنطون تشيخوف ” وقامت وزارة الثَّقافة المصرية بتصويرها تصويراً تليفزيونيا رائعا و متقننا هذا المهرجان المصري قدَّمتْهُ فرقة المواجهة والتَّجول بالبيت الفني للمسرح بالتعاون مع فرقة المسرح القومي بالبيت الفنِّي للمسرح لمجموعة المخرجين المصريين الشباب عرضتها قناة وزارة الثقافة المصرية تحت رعاية كريمة من الأستاذة الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة ضمن مباردتها أضحك ـ فكر ـ أعرف .. خليك في البيت ـ الثقافة بين يديك “، وقام الفنَّان المصري القدير والكبير الدكتور سناء شافع بالتعقيب على عروضها.
من خلال متابعتي لهذه المهرجان استوقتني مسرحية ” مشهور مش مشهور ” التي أعدها و أخرجها الفنان الشَّاب المصري المتميز مازن الغرباوي عن قصة ” كالخاس ” التي تسلط الضوء على قضية الفنانين المنسيين المهمشين العاشقين للفن والذين أجبرتهم النَّمطية الظالمة من المنتجين و المخرجين أن يسجنوهم في أدوار هامشية لكي تموت أحلامهم دون أن يحققوا من فنهم شيئاً ، فبذلك توأدُ طموحاتهم الفنية ، هذا الجرح المؤلم سينعكس على حياتهم الاجتماعية أو العاطفية ، فبعضهم قد يهجر المسرح و منهم من يصمدولكنهم يظلون أسيرين لعشق المسرح صابرين محتسبين أن تتغيرهذه النّمطيَّة الظالمة والمقزِّمة مع مرور السنوات يدفعهم عشق المسرح وعدم ولوجهم في مهن أخرى قد تجلب لهم السعادة ، فكثيرا ما نجدهم يبذلون جهداً كبيراً في ممارسة الفن الذي يعشقونه بلا تقدُّم في تبرم مؤلم.

أجد أن هذه القضية هي التي جذبت الفنان المخرج مازن الغرباوي لإعدادها نصَّاً يعرِّي صور الألم النفسي للمنسيين من الفنانين المسرحيين و الدَّراميين الذين يملؤون الكواليس ووجودهم على الخشبة مرهون بجملة أو جملتين أمام الجمهور رغم مكانتهم و حضورهم في أي عرض مسرحي أو درامي . وما أعجبني أن خاتمة العرض تحمل في باطنها دعوة لتكريمهم وعدم نسيان حبهم و عشقهم الفني للمسرح ، وهذا هو الانتصار الحقيقي في طريقة المعالجة المسرحية المبطَّنة و الرِّسالة التي أراد الفنان المعد المخرج مازن الغرباوي توصيلها لمن يهمه الأمر، فظهور مشهور بطل المسرحية الذي سرد لنا حياته الفنية المؤلمة و انعكاستها على حياته الاجتماعية والعاطفية المحطمة ببدلته الأنيقة وهو يدخل مسرح مشهور إلى خشبة المسرح بشكله الزَّاهي في نهاية العرض هو الانتصار الحقيقي على تلك النَّمطية الظالمة لصالح شخصية الفنان المكافح العاشق.
فتحية من الأعماق لبطل المسرحية الفنَّان سامي مغاوري الذي درس شخصية مشهور بعمق فذاب في دواخلها بأحساسه العميق ، وعايشنا وحدته على المسرح الذي هو ملاذه ، فهو .. مشهور ” المشهور” في عين أمه المسكينة فقط .. فمن خلال تتبعنا لشخصيىة ” مشهور” على الخشبة و إصغائنا إلى جملِهِ الأدائية السَّردية المتناثرة في حجيم آلامه نشفق عليه من تحمله هذا العشق المأفون للمسرح دون أن يحرك هذا العشق الشفقة عليه من الجمهور الذي يحبهم و يعشقهم أو من أفواج الفنانين الذين ضمتهم الخشبة ولَمَعَ بريقهم في الأوساط الفنية.
أجد أن المخرج وفق في اختيار الفنان سامي مغاوري كشخصية لبطولة هذه المسرحية من نواحٍ متعددةٍ أولها : الشَّكلية ( عمره الذي أفناه وهو يرتقي الخشبة ) فنجد أنَّ له سجلاً حافلاً ذكرنا في وقفاته و أيامه في كل عروض المسرح التي شارك فيها وهو يسرد تاريخه فيه نجوم الفن المسرحي و الدرامي الذي خرجوا من رحم الخشبة و انتقلوا لتقديم عروض درامية تليفزيونية أو سينمائية .. و ثانيها : أن الممثل سامي مغاوي شخصيته تمتلك أحاسيس داخلية رائعة تسيطر على وجدانك و أنت تشاهد صورته و تنقلاته وحركته على الخشبة.

كما يحسب للمخرج المعد الفنان مازن الغرباوي أيضاً أنه بنى إضاءة تتواكب مع الحدث المسرحي بشكل جيد ، فقد نجح في مواكبة الإضاءة مع خروج الفنانة نادين خالد كتمثال مستحضر كشاهد على حرمان البطل منها زوجة ، وهذا الشَّكل المُستحْضَر لم يكن واقعياً و إنما خيالاً مستحضراً من فكر البطل ” مشهور” إلا أنني أجد أن المخرج المعد الغرباوي لم يوفق في الإضاءة لحظة خروج الفنان محمد طلبة ، فمن خلال متابعتنا للمشهد نجد الواقعية هي الظاهرة وليس الخيال ، فالفنان محمد طلبه كان موجوداً في المسرح ولايعلم البطل ” مشهور” بوجوده لكن في أثناء خروجه أظلم المسرح بشكل مفاجئ و سلطت بقعة على وجه الممثل البطل مشهور ” مغاوري ” أجد أن المشهد بشكله الواقعي الذي يفرض بأطفاء المسرح و إظلامه تماما لابد أن يشكل ردة فعل عند الممثل البطل فلم نجدها تظهر ، ردة الفعل قد تجعله و يتساءل من الذي تسبب في هذه العتمة؟! ، وعندما تفتح الاضاءة على وجهه فلابد بأن تثير في دوخله ردة فعل يترجم هذا التساؤل بحالة تعبيرية في الوجه مثلا تساءل من الذي معه و حينما تفتح الإضاءة كاملة يرى محمد طلبه الذي يؤكد له له أنه لم يذهب إلى بيته كما كان معهودا و أنه نام في المسرح.
و تحية أخرى مني إلى الفنان الجميل ” محمد طلبة ” الذي أسهم من خلال أدائه المتقن أن يستنطق ذلك ” الغبن و القهر النفسي ” الذي يحاول البطل مشهور أن يكبح نفورحالة التذمر وفرشها للعلن .. فالفنان طلبه هو المحرك لتفريغ نفسية مشهور الملتهبة بعد تقدم عمره وعدم تحقيق طموحه ، وكذلك الفنانة الرائعة ” نادين خالد ” التي جسدت دورها المحفز لبطل المسرحية مشهورالذي لايحصد كبعض الفنانين ثمار الشَّهرة.
و الجميل في صورة المشهدية التي رسمها المخرج مازن الغرباوي جعلها ترتقي الخشبة كتمثال جامد مقدس لمشهور ثم تدب فيه الروح بشكل فنتازي أنه تخيله لمحبوبته التي يستحضرها قلبه المتيم بها وفكره ليستذكر بأنها صورة الدفء الحاني له ، فتختمر من هذا التَّخيل شذى الحب للأنثى التي غرق في حبها ، ولكنَّه لم يصمد رغم ولعه المتعطش بها نتيجة تأجيله إعلان الخطوبة أكثر من مرة ، فتدرك محبوبته عجزه المادي ، وتقرر مغادرة عواطف رجولته المكبوته المتعلقة بهوس الفن الذي لايسمن ولا يغني من جوع دون رجعة.
المخرجُ المعدُّ الفنان مازن الغرباوي أمتعنا بهذا العرض الفرجوي وقد نجح بأن يجعل اللهجة المصرية هي لغة الحوار ليقرب هذا الهمَّ المسرحي إلى الجمهوربأن يضع المنتجين المصريين في عمق المشكلة فهم المعنيون بالدرجة الأولى ، ثم طرحه لهذه المشكلة على سائر المنتجين و المخرجين في سائر البلدان ، وأجد أن الاستشهاده بالأحداث تاريخية التي ذكرها مشهور الخامس من يونيو 1976 قد شكل تأثيراً حزيناً نتيجة نكسة الهزيمة ووقعها على المصريين بما فيها من خوف إلاَّ أنها جمعت المحبة بين الفنانين و كذلك النَّ صر في أكتوبر 1973 الذي جمع الفنانين المصريين ثانية و كان منعطفاً له أثر بارز في ازدهار الفن المسرح في مصر أم العروبة و انتشاره هذا الفن المصري في كل الأوطان العربية.
لقد أعجبني هذا العرض الذي تابعته و لايسعني إلا أن أتقدم بالشكر إلى وزيرة الثقافة بجمهورية مصر العربية الأستاذة الدكتورة إيناس عبد الدايم على وقفتها و دعمها للشباب المصري المتحفز للعطاء المسرحي المتحدي للظروف المفروضة أثناء التدريبات و التقديم الذي تتماشى مع الاحترازات لمكافحة هذا الوباء الخطير و الشكر مني أيضا لجميع الأخوة الفنانين المصريين على جهودهم التي بذلوها في متابعة الفنانين لأنجاح هذا المهرجان من إجل إنعاش المسرح الذي أبي أن يكون جامدا في ظل الركود الذي خيَّم و جثمّ على المسارح في معظم البلدان العربية و العالمية نتيجة ” جائحة الكرونا ” التي عصفت بنا جميعاً.
علي باقر . مملكة البحرين.
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت