لغة الصمت والحوار اللامکتوب (الحلقة: 2) / بقلم: عبد الصاحب ابراهيم أميري

يعد الحوار المکتوب العمود الفقري للنص المسرحي،  هو کل حوار یعبر علی الخشبة کلامیاً  جسدیاً، حرکیاً . وحتی صامتاً ، فالصمت جزءٌ من الحوار ، لو وقفت علی حیاتک الیومیة ، وأرادَّ أحد أصدقائک منک شیئاً مهماً ، تُلبیه الساعة وأنت لم ترد ، وبقیت صامتاً ، لا شک إنَّ عدم ردکَ وصمتک سیفسرهُ صدیقک ألف تفسیر وتفسیر ، وقد یرد علیک لیکتشف سبب صمتک وعدم الرد علیّه ، وبالتالي یجرک للإعتراف ، والکلام ومعرفة السرِ وراء ذلک الصمت .
صمتک بالحقیقة کان حواراً لا مکتوباً ، مع إنه لا مکتوب ، فهو أقوی من المکتوب بکثیر .
کي تتضح لنا الصورة لابد لنا من رسم هذا المشهد .

صدیقان في حافلة نقل رکاب ، یجلسان جنباً الی جنب ، والحافلة تقصد مکان عملهما، الأول بدین بعض الشيء مشغول بقرآءة صحیفة الصباح والآخر نحیف ینظر من خلال نافذة السیارة للشارع ، بین حین وآخر ینظر الی زمیله الذي بات مستمراً في قرآءة الصحیفة دون أن یترکها لحظة ، أو حتی دون أن یتکلم مع صاحبهِ
النحیف -یاه .. أنت قرأت الصحیفة ..؟
البدین: (دون أن یرفع رأسه عن الصحيفة) دفعت عنها ثمناً
النحیف : ألا ترید أن نتحدث قلیلاً…؟
البدین : ( دون أن ینظر إلیه ، یصدر صوتاً غیر مفهوماً من فمِه )
النحیف : (یبتسم) ماذا قلت …؟
البدین : ( دون أن ینظر إلیه ) أنا مشغولٌ بالقرآءة
النحیف : وماذا لفت نظرک فیها …؟
البدین :(ینظر الی زمیله النحیف ، کمن یعاتبه)
النحیف: الا ترید أن ترد ..؟
البدین:
النحیف: الا ترید أن تقول لي شیئاً…. أنا جزعت الصحیفة شغلتک بالکامل … الا ترید أن ترد
البدین: (دون أن یرفع رأسه عن الصحیفة ) سأرد ….
النحیف : متی …؟
البدین: بعد أن أطلع علی هذا الخبر تماماً …
النحیف: وما هو…. ؟
البدین: ( دون أن یرفع رأسه عن الصحیفة ) .. حادث سیر رهیب …
النحیف: یاه…!؟
البدین: ( یرفع رأسه عن الصحیفة قلیلاً ویعود إلیها ) دعني أقرأ ….
النحیف: أقرأ بصوت عال … کي أسمع
البدین: (دون أن یرفع رأسه عن الصحیفة، ویقرأ بصوت عال) نقلت سیارة أسعاف چثامین شابین وفتاة ،لاتزید أعمارهم عن الثلاثة وعشرین عاماً، أثر الحادث
النحیف: یاه….. أین وقع الحادث …؟
یرن نقال الرجل البدین ، یطوي الصحیفة ، ویمد یده في جیوبهِ بحثاً عن النقال ، وهو لازال یرن ، یخرج النقال من جیبه ، وما أن یرید أن یجب علیه ، حتی یلتفت إلیه النحیف ، قائلاً
النحیف: مادمت ترید أن تتحدث بالنقال ، أعطني الصحيفة
یطوي البدین الصحیفة ، ویضعها تحت أبطه البعیدة عن النحیف ، یحاول النحیف أخذ الصحیفة عنوة ، فیقع نقال البدین تحت النحیف ، النقال لازال یرن ، ینظر البدین للنقال متحسراً ، یحاول أن یرفع النقال من الأرض ، الا إنَّ من فرط سمنتهِ ، لم یتمکن ، ینظر النحیف ، دون أن یمد إلیه عوناً ویلتفت صوب النافذة وینظر للطریق
البدین: هل بالإمکان أن تناولني النقال ..؟
النحیف: …
البدین : الا تسمعني ..؟
النحیف: …
البدین: ( یحرک النحیف من یده ) ناولني النقال ( النقال لازال یرن ) قد تکون زوجتي
النحیف: …
یرمي البدین نظرة علی النقال وأخری علی الصحیفة ، ویسحب الصحیفة من تحت أبطه
البدین خذ الصحیفة وناولني النقال
2
ینظر النحيف البدين ومن ثم یلتفت صوب النافذة ، دون أن یبالي بحدیث البدین
 

~~~~~~~~

أدوار الصمت في التعبير المسرحي
قد یکون دور الصمت أقوی بکثیر من دور الحوار، والسبب یعود لقراءة الصمت، وفق رؤیة القارئ والمشاهد، والقرآءة الصحیحة یجب أن تکون طبقاً للخط الدرامي للنص المسرحي ، هو بالتالي (الصمت العجیب) یقودنا الی الصراع والعقدة ، ویجب أن لا ننسی إن الصمت حوار . .. حوارٌ قاتل ، وهو وسیلة حادة لکسر الحواجز والأجسام وإرهاب الشخصیة المقابلة ، فالصمت هنا لا نقصد به السکوت المطلق ، وعودة للمشهد .
النقال لازال یرن
البدین: أسمع یا زمیلي … إن النقال لازال یرن … لابد إن هناک أمراً مهماً … ناولني النقال
النحیف: الا تراني أنظر للشارع …؟
البدین: الشارع ….. أمرهُ أهم من أمر نقالي ..؟
النحیف: …
البدین: أنا لست عاجزاً تماماً ….
البدین یفتح حزامَ سرواله قلیلاً ،ویتنفس بشدة ، ینظر للنقال ، ینحني یده لازالت بعیدة عن النقال ، یأخذ الصحیفة من تحت أبطه ، وینحني بإتجاه النقال ، النقال لازال یرن ، یحاول جاهداً بمساعدة الصحیفة أن یحرکها من وسط أقدام زمیله ، ینظر إلیه زمیله النحیف دون مبالات ویعود للنظر من النافذة ، یحاول البدین جاهداً سحب النقال بمساعدة الصحیفة من تحت أقدام زمیله ، حتی یتوسط النقال أقدام البدین ، یمد البدین یده للنقال ، ویأخذه بین أصابعهِ،یتنهد فرحاً والعرق یتصبب من جبینه ، ینظر إلیه النحیف ، بأستخفاف. وأخیراً یتمکن البدین من أخذ النقال من علی الأرض ینقطع صوت رنین النقال ینظر البدین متلهفاً للنقال ، عسی أن یرن من جدید ، لکن دون جدوی ، یتأوه ترتسم علی شفتیه إبتسامة غریبة
البدین: ترکوا لي رسالة صوتیة
ینظر النحیف للبدین دون مبالات ، یعود للنظر للشارع یضغط البدین علی أحد الأزرار یعلو صوت النقال
صوت النقال أنا أحد موظفي .. مشفی المدینة الکبیرة … لا أدري … أعتقد إنَّ هذا الرقم یخصک… وأنت السید فاخر فخري یهز البدین برأسه ویتمتم ..
البدین: نعم ….. أنا هو … الا إنَّ هذا النقال یعود لزوجتي
یسرق النحیف نظراتٍ صوب البدین
صوت النقال إن کنت السید فاخر فخري … وزوج هذه السیدة … صاحبة هذا النقال فإنها الآن في مشفی المدینة الکبیرة ….
البدین: (یصرخ) واه …
یتأثر النحیف ، ویضع یده علی کتف زمیله مواسیاً
البدین: ( یتمتم بصوتٍ عال ) ماذا حلَّ بها …؟
صوت النقال لا تصرخ … أهدأ …. حافظ علی أعصابک … إنها لازالت بخیر …
حالت سیر ومرت بسلام .. إنها الآن في قسم الطوارئ ..
إسرع إنهم بحاجة إلیک ….
البدین: حادث سیر …!!(14 )
يتفوق الصمت علی الحوار الكلامي في أکثر المواقف، ویتأزم الموقف . وكثيراً ما يكون الصمت لوناً من ألوان التورية ، لأنه يبدو سكوتا ظاهريا عن الكلام ، بينما هو في حقيقة الأمر كلام مضمر، يحمل معنی الإدانة ؛ وهو بذلك يشكل قوة إتصال غير شفاهي ؛ بخاصة عندما يكون هو الوسيلة الوحيدة للإتصال . وكثيراً ما يكون الصمت موقف إستثارة لفهم الآخر عبر لغة العيون التي تحل محل اللسان في التعبير عن المسكوت عنه وبطريقة أكثر بلاغة . وعندما لا تكون هناك حاجة إلی الكلمات يكون الصمت دعوة الآخر إلي التأمل والنظر کما شاهدنا في المشهد . وقد يكون الصمت نوعاً من الحماية عند الخوف من زلل الكلام . وقد يكون صمت إرهاص وترقب حذر في
3
مواجهة اي تهديد موشك علی الوقوع ؛ قد يصبح الصمت صراخاً بلغة الفطرة تعبيراً عن ألم الرغبة المكبوتة التعبير. والصمت – في كل الحالات – هو حالة ذهنية . كما أنه حالة اختيار إجباري ، وبخاصة عندما يكون إستبدالاً للإتصال الكلامي بالنظرات.
بالتالي ، هناک الکثیر من الحکم تمتدح السکوت ( الصمت ) فنسمع من هذا وذاک .
– إذا کان الکلام من فضة … فالسکوت من ذهب .
بما إن المسرح نقلة واقعیة من المجتمع ، فهذه النظریة تنطبق تماماً ، علی المسرح بأسالیب عدَّة
مع الأخذ بنظر الإعتبار الأهمية الدرامية والجمالية للغة الصمت في فنون التأليف و التمثيل و العرض المسرحي ؛ إلاّ أن قلة قليلة من الكتاب والمخرجين من أستطاعوا نظم لغة الصمت مع لغة الكلام في صياغتهم لصور التعبير المسرحي كتابة أو أداءً .
وقد يكون الصمت مطلبا متعدد المستويات والأهداف الدرامية في منظومة الحوار الذي تنطق به شخصية أو أكثر من الشخصيات المسرحية
ويقول (بريخت) علی لسان الأم الشجاعة : “ما فائدة قرع الطبول إذا لم تكن هناك آذان تصغي”
وإذا كانت الكلمة تستقبل بصفتها شيئا أو معلومة أو خبراً يستحق الإنتباه وحب الاستطلاع فالوقفة الصامتة في مسار الكلام تستقبل علی ذلك النحو نفسه . أما إذا كانت الكلمة بصفتها كائنا حيا تستحق النظر والتأمل فهما وإعجابا أو نفورا وفق قدرها في سياق العبارة أو الصيغة التعبيرية ، فالصمت بصفته وبقدره في سياق التعبير الدرامي يستحق النظر والتأمل . خلاصة الأمر أن الصمت ، يستقبل في منظومة السياق التعبيري الدرامي ، إن لم يكن بقدر أعلى من إستقبال الكلمة ، فهو علی المستوى نفسه من الانتباه والتقدير من حيث الأثر الدرامي والأثر الجمالي .
نستنتج من کل ما جاء ، إن الصمت ، هو الحوار اللامکتوب ، الذي یدونه الکاتب بنقاط ، ویترکهُ في سلة المخرج والممثل ، منتظراً الإبداع
خلاصة البحث أن الصمت أشد فاعليت من كل حوار ، ويجب يكتب كحوار والكاتب الجيد يجب ان يكون ملما بكافة أدواته

عبد الصاحب ابراهيم أميري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت