ماهیَّة الحوار المسرحي (الحلقة: 3) / بقلم: عبد الصاحب ابراهيم أميري

تعد المسرحیة ، نموذجاً کاملاً لأدب شامل ، تقوم على الحوار أساساً ،کما تكشف الشخصيات بنفسها عن نفسها وتتحاور فيما بينها لينمو الحدث من خلال ذلك الحوار والمواقف التي يجري فيها على انه مهما تكن وجوه الاختلاف بين المسرحية وغيرها من الفنون “القصصية ” فإنها تبقى تعتمد علی الحوار . والحوار هو شكله النهائي الذي يميزه عن غيره من الأعمال الأدبية.
خلاصة القول: ” إنَّ الحوار هو اداة المسرحية، الذي يعرض الحوادث ، ويخلق الشخصيات، ويقيم المسرحية من مبدئها الى ختامها” (4) ولا یقصد فیه الحوار المنطوق فقط ، بل إنَّ الحوار ، هو کل حوار یعبر علی الخشبة کلامیاً ، حرکیاً ، جسدیاً ، فنیاً ، وحتی صمتاً ، وکل أداة التخاطب في المسرحية تعد حواراً ، “ويعتبر الحوار هو الخصيصة التي تميز المسرحية عن سائر الصور الأدبية الاخرى من حيث إنَّ المسرحية لا تأخذ الشكل النهائي الا عن طريق الحوار وخشبة المسرح” (5)

سنقف قلیلاً عند هذا النص المسرحي ، “کان یعلم بأن المعرکة خاسرة” وجندیان في خندق ینتظران الفرج علی أمل أن نطرح بعد المشهد سؤال
 
المنظر خندق
جندیان یحرسان الخندق وساعة متأخر من اللیل
الجندي الأول: ( ینظر بعیداً )
الجندي الثاني: ماذا هناک ؟
الجندي الأول: أنظر .. ( مشیراً الی السماء )
الجندي الثاني: (ینظر بعیداً ) … هناک ؟
الجندي الأول: نعم
الجندي الثاني: ( بعد قلیل ) لا أری شیئاً
الجندي الأول: هل تری تلک النجوم ؟
الجندي الثاني: النجوم…؟
الجندي الأول: نعم .. النجوم
الجندي الثاني: ما بها ..؟
الجندي الأول: هم الآن یشاهدون نفس هذه النجوم
الجندي الثاني: مَن .. ؟
الجندي الأول: ( ساخراً ) ومن ترید أن یکونوا… ؟
الجندي الثاني: ( کمن أدرک ) .. آه… وما الذي جعلک تفکر هکذا … ؟
الجندي الأول: لا أدري … هم علی مقربة منّا .. قدیکون ذلک هو السبب
الجندي الثاني: قد….
الجندي الأول: وقد لا یکون … أنا لا أری .. المهم إني فکرت هکذا ..
الجندي الثاني: ( ساخراً ) .. نعم ..
الجندي الأول: إنهم في هذه اللحظة یشاهدون نفس هذه النجوم … وهذه النجوم تراقب تحرکاتنا معا.. . إنها تعرف نوایانا .. إنها تعرف کل شيء… ( لحظات صمت ) .. ألا تحسد النجوم ..؟
الجندي الثاني: نعم .. إني أحسدها .. ( لحظات صمت )
الجندي الأول: هل تسمع ؟
الجندي الثاني: ( ینصت ) .. کلا
الجندي الأول: أنصت جیداً
الجندي الثاني: ( ینصت ) لا أسمع شیئاً .. وأنت ..؟
الجندي الأول: إني أسمع بعض الأصوات
الجندي الثاني: لا شک إنک تتخیل
الجندي الأول: لا أدري .. المهم إني أسمع فعلاً
الجندي الثاني: تسمع ماذا ؟
الجندي الأول: أسمع ولکن لا أفهم .. أسمع ولا أدري بالضبط ماذا أسمع المهم أني أسمع .. ها.. أسمع بعض الرجال یتحدثون
الجندي الثاني: إنها لعبة جدیدة لقضاء الوقت ..
 
سؤالٌ یطرح نفسه :
إنَّ الشخصیات في المسرحیة في جميع العصور ومختلف المذاهب كانت فصيحة اللسان ناصعة البيان. وكلها تمتلك قدراً عالياً من القدرة على أستبطان ذاتها في حین إنَّ الأمر لیس کذلک في الواقع ؟
الجواب:
أن المسرحية محاكاة الواقع. و الحوار أسلوب التعبير الدرامي المتميز. وظلت الشعوب قروناً طويلة تتغنى بحوار المسرحيات . وظل الأمر کذلک قرون طویلة ، ولکن بتغییر محسوس . والیوم یمکننا أن نقول والحوار هو الذي يقيم التواصل بين الشخصيات وبينها وبين المتلقين. والأخطر من هذا أن الحوار المسرحي يبدو لا معنى لـه إذا لم يحمل شحنته العاطفية المتولدة عن العلاقات بين الشخصيات. ومهما بلغت قوة الفعل من الدلالة بديلاً عن الكلام، فإن موضوع المسرحية وصراعها وشخصياتها لن تقوم لها قائمة إلا بالحوار. وبهذا الشكل كان المخرجون مضطرين إلى الاهتمام بالحوار لأنه حامل المسرحية كلها وجامعٌ لشمل جميع عناصرها.(7)
والحوار الجيد هو الذي تدل كلمة فيه على معنى يكشف عن حقيقة معينة، ويعبر عن تلك الحقيقة تعبيراً دقيقا لا مبالغة إفتعال فيه،لأنه يسلط الذي يحمل العمل الدرامي الى إسماع المتلقين(8)
ننظر معاً ثانیةً الی هذا المقطع من نص مسرحیة “کان یعلم بأن المعرکة خاسرة “.
الجندي الثاني: أنت تتخیل ( لحظات صمت ) هل حقاً أنت تسمع بعض الأصوات ؟
الجندي الأول: نعم… یمکنک أن تنصت ، وسوف تسمع
الجندي الثاني: ( ینصت بدقة ) أنا لا أسمع أي صوت .. أنَّ مواقعهم تبعد عدّة کیلومترات ..قد تکون أصوات اللیل .. ثم إنه لیل ساکن جداً یختلف عن بقیة اللیالي .. لیل لطیف ( ینظر الی زمیله ) .. هل أنت خائف… ؟
نفهم من ذلک إنه الوسيلة الأدبية للتفاهم، والتخاطب، بين الممثلين، وبالتالي نقل الافكار، وسرد الحوادث للجمهور . سواء وجه الحوار الى المتفرج، والمسرحية تعرض، وتمثل، أو وجه الى القارئ بين دفتي كتاب، فهو الذي يطور موضوع المسرحية ، ويكشف سرائر شخصياتها، ويجذب الإنتباه الى فنيتها.وهو بالنهایة عبارة عن لغة مسبوكة في قالب تخاطب بين الممثلين والجمهور أو بين شخصيات المسرحية فيما بينها
سؤالٌ آخر 
يطرح هنا …..هل هناک فرقٌ بین الحوار والحدیث العادي .؟
الجواب:
…..نعم …الحوار ليس الحديثَ العادي الذي يجري بين الناس في الحياة. فالحديث العادي لا هدف لـه. ويمتلئ بالزيادات والبذاءات والسخف.
وخیر مثال لنا ، ما یحدث في الرحلات الطویلة ، التي نشکو همومنا أو نفتخر بما عندنا ، لمن یجلس بالقرب منا دون هدف یذکر، أما الحوار المسرحي فمركَّزٌ منتقى مهذب. وله غاية محددة. أي أنه درامي. ولا شك أن الكتاب المسرحيين جميعاً يعرفون ذلك ويفرقون تفريقاً دقيقاً بين الحوار المسرحي وبين الحديث العادي. نقرأ معاً هذا الحوار ثانیة ؛ من نص مسرحیة “کان یعلم بأن المعرکة خاسرة “:
الجندي الأول: هل تسمع ؟
الجندي الثاني: ( ینصت ) .. کلا
الجندي الأول: أنصت جیداً
الجندي الثاني: ( ینصت ) لا أسمع شیئاً .. وأنت ..؟
الجندي الأول: إني أسمع بعض الأصوات
الجندي الثاني: لا شک إنک تتخیل
الجندي الأول: لا أدري .. المهم إني أسمع فعلاً
الجندي الثاني: تسمع ماذا ؟
الجندي الأول: أسمع ولکن لا أفهم .. أسمع ولا أدري بالضبط ماذا أسمع أسمع ولا أدري بالضبط ماذا أسمع المهم أني أسمع .. ها.. أسمع بعض الرجال یتحدثون کما لا يجوز فيه التوقفات والمقاطعات كما في الحديث العادي. (وهو يجري على نسق متواتر من التنظيم).
فالشخصيات لا يقاطعُ بعضُها بعضاً. وكل واحد منهم ينتظر إنتهاء كلام شريكه حتى يبدأ كلامَه. والنقطة أو الفكرة التي تم الكلام فيها لا يُعاد إليها إلا لسبب يتعلق ببناء الحبكة. وبذلك تبدو المسرحية في نهاية الأمر قطعة مسبوكة يهدر فيها الكلام من أولها إلى آخرها. فإذا تخلل الحوارَ فترات صمت – ولا بد أن يقع فيها فترات صمت- كانت هذه الفترات جزءا من الكلام لأن الصمت في المسرحية كلام.
فهو يمهد لجملة أو يترك لها زمناً حتى تترك أثرها عند المتلقي.وكثيراً ما أورد الكتاب في ملاحظاتهم الإخراجية (لحظة صمت قصيرة) أو (لحظة صمت طويلة).(9)
کما لاحظنا ذلک في النص المعروض .
وأهم ما یتمیز الحوار المسرحي: فهو ینمو في يد الكاتب ، مع نمو الحكاية. والأمثلة في الحیاة الإجتماعیة کثیرة ، کما إنه الصورة مشابهة للواقع ، ومخالف لـه من ناحية ثانية. إذ يشابهه في تعريفنا بنوازع الشخصيات وسلوكها الإنساني. ويخالفه في أنه مركَّب بطريقة فنية لها وظائفُ محددة. فهو ليس حواراً واقعياً. وإنما يوحي بالواقع . ونمو نص ِ “کان یعلم بأن المعرکة خاسرة ” هو أستسلام الجندي الثاني للأمر الواقع وقبوله الأسر .
یمد الجندي الثاني یده في جیبه ویخرج صورة مطویة یرتب الصورة – یرفعها عالیاً
الجندي الأول: ما هذه الصورة..؟
الجندي الثاني: بیت الله العتیق …!
الجندي الأول: بیت الله العتیق وو؟!
الجندي الثاني: نعم أخذتها مع حاجیات أخری من أحد البیوت في المدینة التي سیطرنا علیها… وأحتفظت بها… في جیبي لوقت الحاجة…وها هو الوقت قد حان …
الجندي الأول: أنت أیضاً کنت تعلم بأن المعرکة خاسرة..؟
الجندي الثاني ……. (یخرجان من الخندق)
الجندي الأول: ( یرفع یده علامة عن الإستسلام )
الجندي الثاني: ( یرفع الصورة عالیاً )
الجندي الثاني: أنا مسلم .. ( یختفیان )
صوت المذیاع قرار مهم: لقد تم الإتفاق أخیراً علی بنود الصلح لذا نعلن مایلي علی جمیع الجنود والمقاتلین في کل قواطع الجبهات أن یتوقّفواعن إطلاق النار فوراً.. والحفاظ علی خنادقهم حتی إشعار آخر الكتاب العرب يعرفون،
أيضاًً معنى المحاكاة في المسرح معرفة دقيقة. ويسوقون حوارهم ببراعة في هذا الميدان. لكن خللاً ما في فهم محاكاة الحوار للواقع أوقعهم في متاهة انتقاء لغة الحوار أهي الفصحى أم العامية؟ دون التساؤل هل هذا الحوار يؤدي وظائفه الفنية والجمالية، المنوطة به؟ هل يحمل هذه الميزات؟ وغيرها .. وهنا لابد من القول ، إنَّ الحوار ولغتهُ یجب أن تقاس علی الشخصیة، لا علی الأسلوب الذي یریده الکاتب ، بل إنَّ الشخصیة ،هي التي تختار حوارها ولتوضیح ذلک لابد من سؤال :
هل إنَّ الرجل العامي الذي لم یدرس ، یمکنه أن یتحدث باللغة الفصحی السلیمة ..؟
الجواب …. بالطبع کلا….. – حسناً .. ماذا سیحصل .. لو إنَّ المؤلف أحقنهُ بالفصحی کسائر شخصیات مسرحیتهِ
الجواب …. لا شک سیتقیيء الممثل هذا الحوار ، ولا یستسیغهُ المتلقي . فمیزان الحوار الذي یستعملهُ الکاتب یجب أن یعمل بدقة ، فلا ریب إذا إختلط الحوار الفصیح بالعامیة، طبقاً لحالة الشخصیة ولغة التفاهم . وأخیراً یمکننا أن نقول إنَّ الحوار علی أشکال :
وهما الحوار المسرحيُّ الداخلي والحوار المسرحيُّ الخارجي، فالحوار الخارجي هو الحوار الذي يكون بين شخصيتين أو أكثر من الشخصيات على خشبة المسرح، حيث يعد الشكل الأكثر انتشاراً في المسرحيات، ويجب فيه أن تستمع الشخصيات إلى بعضها البعض أثناء الحوار. أمّا الحوار المسرحي الداخليُّ، فله ثلاثة أشكال، الأحادي والجانبي والحوار الموجه للجمهور، فالحوار الداخلي الأحادي (المناجاة) هو حوار الشخصية الواحدة تلقيها أما الجمهور، في هذا الحوار يستطيع المؤلف الكشف عن مكنونات الشخصية الداخلية بحيث يستطيع الجمهور الإحاطة بكافة التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالشخصية.
أما الحوار الجانبي، فهو الحوار الداخلي الذي لا تسمعه باقي الشخصيات، وهو يعبر عن ما يختلج في صدر الشخصية في ذلك الموقف، أما الحوار الموجه للجمهور فهو الحوار الذي تنتظر فيه الشخصية إجابة من الجمهور، حيث يكون الممثل وحده على خشبة المسرح، أو قد يكون معه شخصيات أخرى ولكنهم لا يسمعونه. أهمية المسرح والحوار المسرحي ، كما في باقي الفنون تتمثل بالقدرة على تسليط الضوء على القضايا الإجتماعیة بالإضافة إلى محاولة عرض النفس البشرية وما يعتريها من ضعف وشك، حيث تُمثل الشخصيات المسرحية مرآةً لكل شخصٍ يشاهدها، لهذا كان لزاماً على الكاتب والمؤلف المسرحي أن يطور قدراته الكتابية، لتطوير الحوار المسرحي الذي يعدُّ مركزة الدائرة التي تدور المسرحية في فَلكها، فليس من قليلٍ سُّمِّي المسرح بأبي الفنون. وهذه التسمیة ( أبو الفنون ) تعود الی إنَّ المسرح یشمل کماً کبیراً من الفنون والآداب ، حتی یظهر صورة جلیة علی الخشبة ، ففیه الحکایة والقصةِ والروایةِ والشعرِ

عبد الصاحب ابراهيم أميري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت