الحبكة المسرحية (الحلقة: 4) / بقلم: عبد الصاحب ابراهيم أميري
من كتاب دروس في فن المسرح
الحبکة المسرحیة هو أسلوب عرض الموضوع بمهارة فنیة بحیث لا تسمح لأي تدخل في هیکل المسرحیة،
بعد أن نضع نصب أعیننا المواد الأولیة للبناء المسرحي، الموضوع وقد اکتمل وحددت أهدافه، والشخصیات قد رسمت بدقه وبانت هویتها وأخلاقیتها وتعاملها مع الآخرین، وحدد الصراع وأسبابه وأهدافه، فما علینا عندئذ الاّ بأقامة البناء، فالبیت المبني بناءاً محکما ومتینا لایمکن له أن یرتکز علی أرض رخوة والاّ سقط وانهار بسرعة، ونفس الشئ ینطبق علی المسرحیة، ولو أردنا أن نضع تعریفا للحبکة فعلینا أن نعرفها بالشکل التالي:
الحبکة المسرحیة هي طریقة أو أسلوب عرض الموضوع بمهارة فنیة بحیث لا تسمح لأي تدخل أجنبي في هیکل المسرحیه، وکلما کانت حبائك الحبکة محکمة احکاما کاملا، کلما کانت أحداثها أکثر منطقیه وقریبه من الواقع
( اذا کانت المسرحیة تنتمي للمدرسة الواقعیة) وشخصیتها مدروسة، ویظهر العمل وکأنه وحدة متکاملة متجانسة، وکلما کانت حبائل الحبکة رخوة وغیر متینة ظهر الموضوع أو الحدث بعیداً کل البعد عن الواقع لا یصدقه الإنسان العاقل البالغ وتسمح للعامل الأجنبي (المخرج، المشاهد، المصحح ….الخ) بالتدخل في العمل یضیف ویطرح، بحذف شخصیة أو أکثر دون أن یصیب العمل أي مکروه ویخرج المشاهد ولدیه ألف مؤاخذة ونقطة ضعف علی العمل الفني. نحن في حیاتنا الیومیة (علی سبیل المثال) نسمع بعض الأکاذیب، الاّ اننا وللوهلة الأولی نصدق الأکذوبة وکأنها حقیقة.ماهو السر وراء تصدیقنا للأکذوبة؟
کما إننا نلاحظ إن بعض الجرائم الکبیرة التي نفذت بذکاء ودهاء فائق عن طریق الفاعل، وبخطة مرسومة من قبل، وکل شئ قد حدد مسبقاً ونفذ حسب الخطة المرسومة أي بالشکل الذي کان یراه الفاعل والطریقة التي کان یطلب منا أن نفکر بها.
إنّ السر بلا شك يكمن وراء قبولنا لما یراه القاتل أو الفاعل یعود الی التخطیط والتنفیذ وبعبارة أخری الی طریقة حبك الکذبة أو الجریمة، وانّ مقدرة الحابك (إنْ صح التعبیر) الکبیرة في رسم الحدث وتصویره بحیث إننا لم نمیز بین الکذبة والحقیقة والفاعل الحقیقي والمجهول في المرحلة الأولی.
الحبکة المسرحیة المتینة، اذا أردنا أن نتصورها کشکل وجسم فهي تشبه البناء الشامخ الکامل، أو کالبیت الذي هندس هندسة دقیقه ومحسوبة بحیث لا یسمح لأي معمار أو مهندس أن یغیر أو یقترح تغییر شکل هذا البناء الکبیر العظیم.
والسؤال الذي یطرح نفسه الآن هو :
کیف نعرف انّ حبائك الحبکة شدّت بطریقة محکمة؟
للأجابة علی هذا السؤال نأتي الی عمل مسرحي ما، نطالع العمل عدة مرات، وفي المرة الأخیرة وبعد أن عرفنا کل تفاصیل الموضوع وما یهدف الیه الکاتب من خلال عمله المسرحي، نأتي لندرس المواضیع الفرعیه التي تخدم وحدة الموضوع، ونحاول أن نشد بعض خیوطها ونرخي الخیوط الأخری ونقطع الخیوط التي لا ترتبط بأصل الموضوع ولا تخدم الفعل الحقیقي ، ومن ثم ندرس تأثیر هذه الافعال علی سیر أحداث العمل المسرحي ، واذا أردنا تصویر الحالة جیدا، فلابد لنا من مثال وخیر مثال علی ذلك أن نتاول احدی المسرحیات لفرقة مصریة قدمت عرضا تجاریا هدفه الأول تسلیة الجمهور والکسب المادي من وراء العرض، نحن في البدایة یمکننا أن نحذف مقاطع کثیرة من العمل المسرحي دون أن یؤثر ذلك علی العمود الفقري للمسرحیة، لذا یمکننا أن نشخص بسهولة ان المسرحیة لا ترتکز علی أرضیة صلبة وانها تشکو من مرض ضعف الحبکة ، وتسرب الأجسام الغربیة الی هیکل المسرحیة ، لذا فالمسرحیة تشکو داء المفاصل، نبدأ بالفحص من جدید ونشخص المرض الحقیقي للمسرحیة، نراها تشکو علی سبیل المثال من داء الحشو والأضافات اللامنتهیة؟
بعد أن یتم حذف ما یراه البناء المسرحي (الحبکة) حشواً وغیر مناسب، نبدء بمطالعة العمل للمرة الأخیرة (أي بعد عملیات القطع والبتر) نشد الخیوط من جدید، لاشك أننا سنلاحظ ان هناك فراغا کبیرا في أحد مجلات شبکة الخیوط المترابطة، حتی إننا نکاد نلاحظ ان بعض الخیوط تکاد تنقطع فقد تحملت وزناً وشدّا لا تطیقه، أي انها کالحائط الذي لا یتحمل البناء الذي بني فوقه، فیقع الحائط علی المتفرج المسکین القابع في الصالة الذي لا یخرج بنتیجة معلومة ومفهومة من المسرحیة عدی صراع شدید في رأسه یضطره للبحث عن الأقراص المسکنة، والسبب یعود للکاتب الذي لم یستطع طبخ الحبکة کما یجب فظهرت المسرحیة تشکو التخمة من جانب وفقر الدم من جانب آخر، لذا تبدء عملیة وضع الأضافات اللازمة لأظهار الحدث بعد أن تمت قبل ذلك عملیة استئصال الزائدة الدودیة، وبعد کل تلك العملیات الذکیة تبدء مرحلة استعراض الشخصیات واحداً بعد الآخر، ندرس دور کل شخصیة علی حده في العمل الفني، وهل یمکننا طردها من الساحة اذا حصلنا لها علی بدیل ینجز دوره التمثیلي من بین نفس الشخصیات.؟ أم نأتي بشخصیة أخری من الخارج لها خصائص أخری تحل مکانها؟ أو نحذف بعض أعمال وأفعال الشخصیة الفلانیة واعطائها لشخصیة أخری..؟ کما ندرس طبائع واخلاقیات کل شخصیة في العمل المسرحي، و اذا وجدنا انّ هناك تناقضا نحاول أن ندرس سبب هذا التناقض، واذا لم نجد له مبررا نتخلص منه، والعملیة تشبه عملية اقتلاع السن الفاسد.
والحبکة المتینة تعني خلو العمل من کل جسم غریب وزائد ومن کل حدث قد یؤدي بالنهایة الی إهتزاز أرکان المسرحیة ، فمسرحیات المسرح المصري التجاري نجدها وکأنها کشکولاً یحتوي عشرات المواضیع هدفها الأول والأخیر رفع شباك التذاکر حتی إنك قد تجد الممثل یرتجل في اللیلة الثانیة ویؤلف في اللیلة الثالثة ویخرج عن النص عندما یجد إنه أستطاع کسب الجمهور وقد تجد بعض الممثلین یتنافسون فیما بینهم في الأداء والتألیف من أجل جلب الأنظار ، فتشعر أخیراً أنك أمام مجموعة من اللطائف البعیدة عن البناء الفني تؤدي الأحداث علی الخشبة المتحرکة بعیدة کل البعد عن المفهوم المسرحي.
عبد الصاحب ابراهيم أميري