مسرح الشارع أسير النظرة الدونيه للمجتمع؟/ بقلم: حسام الدين مسعد

الشارع هذا الفضاء المادي الطارئ كان محل الميلاد الأول لفن التمثيل منذ ان خرج ثيسبس علي عربته لأول مره ليحاكي بعض المقاطع من الأساطير اليونانية القديمه إلي وقتنا هذا المكتظ بفرق ومهرجانات مسرح الشارع
فالشارع هو المكان المتمسرح الذي يقدم فيه العروض المسرحيه خارج العمارة المسرحيه
لكن تظل النظرة الدونية للفن المقدم في الشارع تسيطر علي المجتمع وتصمه بكل مالاينبذه وهو لصيق بالشارع كأولاد الشوارع والغجر وبنات الشوارع واطفال الشوارع …وغيرها من التهم التي تلتصق بالشارع في نفي صريح لقيمة ما يقدم في الشارع من فن وكأن المجتمع يمارس شيزوفرينيا فهو يشاهد عروض الشارع من اجل التسليه والمتعه فقط ولا يعبأ بالقيمة أو الرسالة التي تطرحها في عروضها .لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي اسباب تلك النظرة الدونيه لفنون الشارع؟ وما هي اسباب عزوف النقاد عن التنظير لمسرح الشارع ؟وسنحاول الإجابة علي هذين التسأولين من خلال كتابات المستشرقين والرحالة عن التمثيل في مصر
يشير الباحثون إلى عدم وجود فن مسرحي عربي في مصر، بشكله المألوف اليوم، في القرن الثامن عشر، بل نراهم يتحدثون عن انتشار الفنون الشعبية الاستعراضية على اختلافها، وهم يعتمدون في معلوماتهم هذه على ما رواه بعض الرحالة، واولهم الدانمركي« كارستين نيبور» الذي وصل الاسكندرية سنة 1761. •يتحدث نيبور عن عروض الشوارع بشكل دقيق، مشيرا، أولا، إلى[ فن الغوازي اللواتي يعملن لقاء أجر زهيد. تتكون هذه الفرق من مجموعة راقصات غجريات غير متزوجات يرقصن في الأماكن العامة وفي البيوت في مناسبات الأفراح. وكان مصدر رزقهن الزهيد يتقاضينه حين يؤدين رقصاتهن مقابل بيوت الأوروبيين المنتشرة عند الشاطئ.]
إن ما سطره نيبور من وصف للغوازي يحمل نظرة إستهجان ونبذ من المجتمع فهم مجموعة راقصات من الغجر اللاتي لا مأوي لهم سوي الخيام التي يتم نصبها خارج المدينه بعيدا عن الكتلة السكنيه وغير متزوجات كناية عن ان المجتمع يرفض مصاهرتهن اما لسوء سلوكهم او لجهل انسابهم وبالتالي فهو ينبذهم من الإنصهار فيه ويتقاضين مصدر رزقهن الزهيد مقابل الرقصات التي يؤدونها أمام بيوت الأوربيين المنتشره عند الشاطئ وهذا كناية علي ان الأوروبيين كانوا يستوعبوا هذا الفن ويقدروا صناعه او انهم يعطفوا عليهم كعطفهم علي الشحاذين والمتسولين.
•بعد ذلك يتحدث «نيبور» عن فني الأراجوز وخيال الظل. فيقول[ إن فن الأراجوز منتشر في أرجاء القاهرة، وإن لم يتطور، برأيه، رغم تقادم السنين، ويضيف انه فن جدير بالاهتمام لولا ان متفرجي القاهرة يجعلون تمثيلياته مقززة. أما خيال الظل فهو محبوب جدا في الشرق، وإن لم ترق له باباته نظرا لسخريتها من عادات الأوروبيين ولباسهم. كما يتحدث عما شاهده من فنون شعبية أخرى واستخدامهم الحيوانات في ألعابهم، خاصة القرود، للإمتاع والمؤانسة.]
ويؤكد نيبور علي دور المتلقي في عروض الأراجوز وكيف ان الجمهور في القاهره يجعل تمثيلياته مقززه . إستهجان اوربي من «نيبور»لجمهور الأراجوز الذي يشكل بنية المجتمع القاهري وقت ذاك وكيف ان هذا الفن و بابات خيال الظل الساخره من عادات الأوربيين كانت مقززة لينيبور لتؤكد لنا إختلاف الشارع الأوروبي عن الشارع العربي القاهري في تقبله لفنون الشارع وعروضه التمثيليه
•بعد ذلك ينتقل للحديث عن فن المسرح الذي فاجأه حين يكتشف [أن هناك عددا كبيرا من الممثلين من مسلمين، مسيحيين ويهود يمثلون حيثما يدعون، وفي الهواء الطلق، لقاء أجر زهيد جدا. فقام نيبور باستدعائهم ليمثلوا في بيت صديق إيطالي لم يُعجب بهذا التمثيل لا هو ولا أصدقاؤه. كانت بطلة المسرحية امرأة قام رجل ملتح بأداء دورها دون أن يوفق في إخفاء لحيته.]
ونستخلص من هذا المقطع إستهجان المجتمع وتحريمه التمثيل علي المرأة في حين انه تقبلها حين ترقص في الشوارع
•وبعد خمسة وثلاثين عاما يمر بمصر سائح أوروبي آخر يدعى« بلزوني»، وهو إيطالي الجنسية قام بتسجيل بعض ما شاهده من تمثيل الفنانين الجوالين المعروفين باسم “المحبظين”، شاهد مسرحيتين قدمتها فرقة شعبية مصرية في احتفال أقيم في شبرا سنة 1815.
ويقول “بلزوني”:
[لعل أكبر مظاهر فن المسرح المتجول شأناً في مصر مانجده في فن جماعة ” المحبظين”(1)، وقد شاهدت مسرحيتين قصيرتين قدمتا ضمن احتفال بالزواج أقيم في حي شبرا عام 1815م، حيث بدأ الإحتفال بالموسيقى والرقص التقليديين، ثم قام جمع من الفنانين بتمثيل المسرحية الأولى، وهي تدور حول رجل يريد أن يؤدي فريضة الحج ومن ثم يذهب إلى راعي إبل ويطلب منه أن يحصل على “جمل” مناسب يركبه إلى مكة وهنا يقرر الجمال أو راعي الإبل أن يغش الحاج الذي يريد الذهاب إلى مكة فيحول بينه وبين صاحب الجمل الحقيقي الذي يريد بيعه وعليه يطلب من الشاري في الجمل مبلغاً كبيراً أكبر مما طلبه صاحب الجمل الحقيقي، على أن يعطي صاحب الجمل الحقيقي مبلغاً أقل مما دفعه الشاري ليحصل لنفسه على فرق السعر الذي اختلسه في الوساطة بين البائع والمشتري، ثم يدخل لدائرة التمثيل جملاً مكوناً من رجلين تغطيا واكتسيا بكسوة تقليدية وبديا كما لو كانا جملاً حقيقياً على أهبة الرحيل إلى مكة، وهنا يركب الحاج الجمل ويكتشف أنه ضعيف وقليل الهمة فيرفض أن يقبله ويطلب أن تتم اعادة نقوده التي دفعها في شراء الجمل ويقوم بين الحاج ( المضحوك عليه ) وبين راعي الإبل نزاع يتصادف خلاله أن يدخل صاحب الجمل الحقيقي فييتبين هو والشار أن راعي الإبل لم كتف بخداع الإثنين فيما يخص المن بل احتفظ لنفسه أيضاً بالجمل الأصل وأعطى الشاري جملاً حقيراً وتنتهي المسرحية بهروب راعي الإبل بعد أن يلقنه كلاً من الشاري والبائع علقة ساخنة.]
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏حشد‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏‏
•بعد هذا التاريخ بحوالي خمسة عشر عاما نجد المستشرق الدنماركي« إدوارد لين» يتحدث عن فرق “المحبظين في مصر بعد 15 عاماً مما شاهده “بلزوني” وكان ذلك في إحدى حفلات ” محمد علي باشا” عام 1830م، بمناسبة ختان واحد من أنجاله وقد أشترك المحبظون في الحفلة بمسرحية أقرب للعروض السياسية على بساطتها حسب وصف “لين” من حيث خطوطها الرئيسية وشخصياتها، حيث يقدم المحبظين عروضهم تلك أمام ( سلطان مصر ) بجرأة شديدة كما لو كانوا يعرضونها في حفلات الزواج والختان داخل بيوت العظماء وحلقات المتفرجين حين يقدمون ( مسرحهم ) في الأماكن العامة من حيث اعتماد عروضهم على النكات والحركات الخارجة، كما أن الممثلون ( المحبظاتية ) كلهم من الذكور، مابين رجال وصبيان يقدمون جميع الأدوار الرجالية والنسائية.
يقول “لين”:
[تدور المسرحية حول فلاح فقير فقراً مدقعاً أسمه “عوض” وتقول سجلات ” العمدة” أن عليه ديناً يساوي ألف قرش أي عشرة جنيهات لجباة الضرائب لم يدفع منهم سوى خمسة قروش فقط، فيذهب له شيخ البلد ليسأله لماذا لم يدفع ماعليه من مال لجباة الضرائب فيرد عليه “عوض” بأنه معدم ولا يملك مليماً واحداً ليدفعه، وحينئذ يأمر شيخ البلد الغفير النظامي أن يطرح “عوض” أرضاً ويتم جلد المسكين عشرين جلدة ثم يساق إلى السجن بأوامر من العمدة الذي يري أن العشرين جلدة ليست عقاباً وأن ذل السجن هو العقاب اللائق حتى يدفع ماعليه أو يموت بداخله ميتة الكلاب، ويذهب “عوض” للسجن وتزوره زوجته هناك فيطلب منها “عوض” أن تاخذ بيضاً وقليلاً من الكشك الصعيدي والشعرية وتذهب للمعلم “حنا جرجس القبطي” فتعطيه البيض والكشك والشعرية كأتعاب دفاعه وتوسطه لإخراج “عوض” من السجن، وبالفعل تأخذ الزوجة كل ماطلبه منها زوجها في ثلاث أسبته وتمضي تسأل عن بيت المعلم ( حنا جرجس ) فيقال لها أنه هذا الرجل الذي يرتدي العمامة السوداء والذي يضع في حزامه محبرة كبيرة، وإذ ذاك ترجو الزوجة المعلم “حنا” أن يبل منها هداياها كأتعاب لدفاعه عن زوجها المسكين والتوسط لإخراجه من السجن، فيقبل المعلم ” حنا جرجس” ويطلب من الزوجة أن تتحصل بأي شكل على عشرين قرش وتذهب لتعطيها لشيخ البلد، وبالفعل تعمل الزوجة بنصيحة ” المعلم حنا” وتذهب لشيخ البلد وتعطيه العشرين قرشاً وهي تقول له صراحة: إقبل مني هذه ( الرشوة ) وأخرج لي زوجي! .. المدهش أن شيخ البلد يقبل الرشوة وينصحها أن تتوجه لبيت الناظر وترجوه في إلحاح أن يطلق سراح زوجها وتبتسم له وهي تستعرض جمالها أمامه فيقبل الناظر عرضها ( الشهي ) وينحاز للزوج ويعمل على تحريره من السجن.]
•ويعود «لين »ليصف فرق المحبظين[ الذين يضحكون الناس بنكات هابطة مفسدة. وكان هؤلاء يُشاهدون في حفلات الزواج والختان في بيوت الكبراء، وأحيانا في ميادين القاهرة العامة يتحلق المشاهدون حولهم. لم يكن بين هؤلاء “المحبظين” أي امرأة، بل كان يقوم بهذا الدور رجال وصبيان في لباس امرأة.]
إن «إدوارد لين» لم يعي ماتقدمه فرق المحبظين من عروض كوميديا إنتقاديه تنتزع موضوعاتها من الواقع الحي المحيط بالمجتمع
•و يقول الدكتور« علي الراعي»
[قد كان هناك طوال القرن التاسع عشر – على الأقل – دراما محلية تماماً، خالية من المؤثرات الأجنبية التي أخذت تتعامل مع فن التمثيل في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، وما لبثت أن أثرت تأثيراً بارزاً على حرفية هذا التمثيل.]
.
.
ويعود بنا ” دكتور على الراعي ” للتعليق على الصورتين الكوميديتين السابقتين اللتان قدمتهما فرق المحبظاتية – ورواهما كل من «بلزوني »و«لين »وهما جزء صغير من عشرات النصوص التي ساقها في كتابه – بالقول[ أن هاتين الصورتين عبارة عن كوميديا انتقاديه انتزعت موضوعاتها من الواقع الحي المحيط بالممثلين والمتفرجين ومن ثم فهي ترضي جمهورها بالإمتاع والنصح معاً، على عادة الفن الشعبي في مصر.]
ويصف الراعي هذه العروض بأنها [ كانت على درجة لا بأس بها من التقدم الفني فهي تبدأ بعرض موسيقي ( شعبي ) واقعي يقدمه بعض الفنانين مع راقصتين أو أكثر( يقوم بأدائها فنانين ذكور )، وهي لاشك عروض ناطقه بانتمائها إلى البيئة التي أنتجتها، كما أنها في تركيبها الفني وطريقة صنع شخصياتها لا تبين عن أي أثر فني آخر غير مسرح خيال الظل والأراجوز وكلاهما من فنون مصر المحلية، ومن هذه المحلية وبفضل التبسيط الظاهر تنطلق الشكوى الموجعة والسخرية الدفينة من الحكم والحكام كما ينطلق الصاروخ الموجه تجاه هدفه المعلوم، فمن وراء الضحك الظاهر تقول غالب هذه العروض في تلك الفترة بمصر أن المصري كان لا يحصل على حريته إلا إذا فقد كل شئ، ماله وشرفه معاً.]
•ومن هنا يمكننا أن نلحظ ان نظرة الإستهجان لعروض الشارع هي نظرة منبعها اراء المستشرقين وعدم وعيهم بسيكلوجية الجمهور المصري من جهة وكتاباتهم التي كان لها الأثر البالغ في عزوف الطبقة البرجوازيه او النخبة السياسيه التي روجت لإستهجان هذا الفن ووصمته بأبشع التهم وألصقتها بالشارع في محاولة للقضاء علي فن ينتقد وينتزع موضوعاته من الواقع الحي للممثلين والجمهور فتم نبذ هذا الفن خشية إثارة القلاقل والتظاهرات ضد الحكام وتم نبذ كل من يحاول ان يكتب عنه او يتعاطف مع صناعه .
وليس غريب علي النقاد المعاصرين عزوفهم عن التنظير لمسرح الشارع فما تم وراثته تاريخيا يغفر لهم عزوفهم هذا .لكن سنظل نسعي لنشر القيمه الفلسفيه لمسرح الشارع وهي بلوغ المسرح للمهمشين والغير قادرين للذهاب اليه بأن يذهب المسرح إليهم حيثما كانوا من اجل تثقيفهم وتبصيرهم لتمييز صحيح الفكر من فاسده.


حسام الدين مسعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت