المخرج الوريث الشرعي للنص (الحلقة: 7) / بقلم: عبد الصاحب ابراهيم أميري
بعد الولادة الشرعیة للنص ، وتكامله ، یمسح المؤلف عرقهُ مبتهجاً بما حققهُ طیلة فترات المخاضِ والولادة ویغلق صفحات مسرحيتهِ ، فرحاً لإنهاء دوره .فیودعها علی أمل أن یراها في ثوب عرسها علی خشبة المسرح ، یصفق لها ویتفاعل معها کما یفعل الجمهور ، ((إذ لم یکن ینوي أن یکون مخرج العمل)) ، أما إذا کان الحال غیر ذلک ، فتبدأ أرهاصاتٌ جدیدة تشغل فکر الکاتب مخرجاً . فهو منذ الساعة التي ینتهي من کتابتها ، یفکر بکیفیة ولادتها علی المسرح ، فالعمل المسرحي من الأعمال التي لیست لها وقتاً محدداً للعمل علیها ، بل إنها تشغل بال الکاتب والمخرج ، حتی تظهر علی المسرحِ مبتهجةً ، وإبتهاجها عید المخرج.
المقولة التي تقول ، إنَّ الکاتب، یکتب النص وهناک من یقوم بأخراجه وتقع علیه المسؤولیة التامة ؟ لیست بمقولة صائبة . فإنها تؤدي أن یهمل الکاتب الکثیر من الإرشادات والحوار اللامکتوب معتمداً علی تفسیر المخرج أنا شخصیاً لا أتفق مع هذه المقولة ، فالنص المکتوب یجب أن یکون کاملاً حتی بالنقطة ، وعلامات الإستفهام والتعجب والصمت والسکوت …الخ.
فالکاتب عندما یکتب ، یجب أن یکتب نصاً متکاملاً من جمیع النواحي وفیهِ أجاباتٍ واضحة لکل سؤال وأستفسار ، ویجعل التفسیر فیه قلیلاً ومنحصراً ولیس معدوماً ، ولا یسمح لنفوذ الأقلام الدخیلة بالحذف والإضافة ، فهو عندما یکتب یجب أن یکون واعیاً لکل صغیرة وکبیرة ، ویعیش حالة النص بحذافیرها ، ویجب أن یکون وسط الأحداث ،ومهندساً لعملهِ المنجز ، والذي علیه أن یقدمه دون أي نقصان ، هذا إذا کان النصُ کتب للمسرح فقط ، أما إذا کان الحال للقرآءة ، فأمر الکاتب یصعب کثیراً ، عندما یکتب للقرآءة ،((علماً بإعتقادي إنَّ لیس هناک نصاً للقرآءة فقط، النص یکتب للخشبة))، لذا علیه أن یسهل تصورات القارئ ویساعدهُ في رسم المواقف والمناظر ، ویجعل المسرحیة سهلةً للهضم ، لا بمعنی المباشرة ، کما یشده فکریاً ، ویکون الی جانب القارئ ، یمدهُ بتفاصیل النص والأحداث ، ویساعدهُ علی الهضم، شأن الکاتب هنا ، شأن قدح الماء الذي یسهل عملیة الهضم ، ویجعل اللقمة سهلة ، کي لا یرمي بالنص بعیداً ، لأنه لم یتمکن من إستیعابه ، وهذه المهمة لیست بالمهمة السهلة .
لو نظرنا الی حالة الإنسانِ منذ ولادته حتی رحیله الی عالم الملکوت ، لوجدناه أدواراً ومراحل ، وفي کل مرحلة نجد بعض الشخصیات، التي تنتهي دورها أو تضمحل وتظهر شخصیات أخری وحال المسرحیة کذلک ، فعندما یضع المؤلف مولودهِ ( النص المسرحي) سیکون هو صاحبه، مادام لازال حروفاً علی ورق .
عندما ینضج النص ویکون صالحاً للعمل وعلیه توقیع المؤلف ، یأتي دور المخرج ، أو بالأحری صاحب العرض المسرحي ،لیوقظ الکلمة ویبث الحیاة فيها .کما قرأ النص ویحفز المتلقي علی کسر الحواجز وإلغائها وتجاوز الزمان والمکان والصعود الی الخشبة مع الممثل ، أو نزول الممثل من الخشبة والجلوس بالقرب من المتلقي ، کل هذا یتم بلباس الإبداع ، لیهشم الرتابة والتقالید السائدة ، ویقدم قرآءةً جدیدة للنص المسرحي ولوحةً فریدة تجتمع فیها جهود کل العاملین علی الخشبة من مهندسي الدیکور والإنارة والماکیاج والمؤثرات التصویریة والصوتیة،لتثیر التساؤولات وتجعل المتلقي یبحر في بحر سحري لا یجد مثیلهُ الا في قصص ألف لیلة ولیلة ویذوب في النص،ناسیاً نفسه .
بهذه المقدمة یمکننا القول ، إنَّ المخرج ببساطة ،هو من یحول النص المکتوب إلى عرض نابض بالحياة، وكذلك هو قراءة ثانية أو تأليف ثان للنص المسرحي،( تألیفٌ تصویري ) وهو جامع كل عناصر العرض المسرحي المختلفة والمتعددة مع بعضها البعض، لیخلق لنا لوحة منسجمة ، مؤثرة ، صادقة ،تسحر عقل المشاهد نستنتج من ذلك ، بدون المخرج لا يمكن للمسرح أن يعيش، ولا للمنصة من أن تحتفل ، وبدون الکاتب لا یمکن النص أن یولد ، فالمخرج هو من يقود العمل ويحدد معالم طريقة الإبداع ، وهو من تتعلق به جميع مشاكل فن المسرح بلا إستثناء ، فهو کرب الأسرة الذي يتحمل مسؤوليات البيت علی عاتقهِ وهيَّ ليست بالقليلة حالها کحال العرض المسرحي ، فالمخرج مسئول عن رداءة النص، وجودتهِ یعد فخراً له ، لأنه صاحب القرآءة الأولی ، قرآءة النص للخشبة ، لذا نجد عروضاً متعددة بأشکال مختلفة لنصٍ مسرحيٍ واحد ، فیها الناجح والفاشل ( فالقرآءة ِ للمخرج ) وعن إداء الممثلين وتمثيلهم المصطنع ،وإبداعهم یسجل في سجل حسناته الفنیة ، وعن الجمهور عندما يضحك مواقف لا تستدعي الضحك، فهو یمثل حالة فشلهِ ، حاله کحال رب الأسرة ، الذي یکون مسؤولاً عن تصرفات أولادهِ وزوجتهِ .
و المخرج هو المتحدث الرسمي باسم كل العاملين في المسرح ( کرب الأسرة في البیت ) فعادة ما يكون رأيه هو المرجع قبل أي فنان آخر، فإلى المخرج يوجه أي تساؤل حول العرض ، وهو من جانبه يلتزم بالإجابة عنه. فالمخرج بهذا يحمل مسئولية فنیة كبيرة ( کرب الأسرة ) ، لكنه أيضا وفى المقابل يمتلك قدراً أكبر من الحقوق والواجبات .( کرب الأسرة ) .
نفهم مما جاء أن المخرج یجب أن يكون شخصاً موسوعياً ، يلم بالموسيقى وبالفنون التشكيلية ، وبتقنية المسرح، بل وبقضاياه وأموره التنظيمية ، والإدارية والتكنيكية. وفى نفس الوقت فانه ليس ملزما بالمرة بان يكون قادراً على الكتابة المسرحية ، وبالمثل فانه من الممكن أن يكون ممثلا عادياً ، ولا يستطيع الرسم ، أو لا يعرف العزف على أي آلة موسيقية، المهم في المخرج أن یولد مخرجاً !! هذه المقوله ، قالها (ستانسلافسكي): – إن المخرج لا يجب أن يُربى بل يجب أن يولد مخرجا !؟ فان کتب تعليم الإخراجِ المنتشرة في الأسواق ، – كيف يجب أن تخرج مسرحية .. أو كيف تكون مخرجاً ؟ أو حتى دورات التدريب المكثفة والمكرسة لإعداد المخرجين، هذه كلها لا تستطيع أن تصنع من الراغبِ مخرجاً ، وهو یفقد الإستعداد الطبيعي وهو ما نطلق علیه الموهبة للإخراج . وإن تعلم شیئاً من فنون الإخراج من خلال المطالعة والدراسة ، أیضاً لن يصبح مخرجا جيداً أبداً . حتی الجامعات والأکادیمیات الفنیة لا تجعل من غیر الموهوب مخرجاً مقتدراً ، بل تجعله معلماً جیداً ، لذا نجد في کلیات الفنون الجمیلة ، عدداً من الأساتذةِ البارعین في فن التعلیم وقواعدهِ یعلمون الفنون التمثیلیة والفنیةِ بأسلوبٍ باهر ، الا إنهم لیسُ قادرین علی تقدیم أعمال جیدة .التعلیم فن ، والأبداع شأنٌ آخر ، تولد من الموهبة ، والموهبةُ شأنٌ طبيعي تحاج الی عقل واع ، و ثقافة واسعة ، کي تستطیع أن تکون قادرةً على التنظيم والتربوية (كمعلمٍ)
لذا نجد إنَّ الشخص الموهوب لا یحددهُ عمرٌ معین .قد یکون شاباً یانعاً ، وموهوباً کبیراً ، بعد هذا الأستعراض السریع لحال المخرج ، نفهم بأن هناک لا نزاع علی دور المخرج ، وحول من هو الأحق بالتمييز الممثل أم المخرج ، فان الوقائع الحية نفسها ، أثبتت وبصورة دامغة ، انه وعلى الرغم من أن المؤلف المسرحي هو أساس المسرح ، وان الممثل هو هيكله الرئيسي، أن قدر المسرح اليوم متعلق بدرجة كبيرة بالمخرج ، حیث أن دور المؤلف قد إنتهی بعد توقیعهِ للنص وأصبح کتاباً للقرآءة والتقدیم ، وإنَّ الممثل هو جزءٌ من أجزاء العرض المهمة الحیة الناطقة ، التي تنقل الصورة وتجسد الأحداث وفق خطة المخرج ، وبالتالي تذوب الأشیاء المحیطة بالممثل ، من قطع وإکسسوارات ، وإنارةٍ وکل أدوات المخرج المستعملة بالعرض المسرحي ، لتشکل هلالاً تتبعهُ نظرات المتلقي أینما یستقر، وتستمع إلیه بصمتٍ بالغ ، وذکاءٍ حاد حتی تری ما تربوُ إلیه لوحة المخرج.
فالمخرج هو من يجمع اليوم كل زمام الأمور ، التقنیة والفنیة المتعلقة بالخشبة والنص ، التي بدونها لا يمكن أن يكون هناك مسرح. ولا یمکن هناک جمهور، وإنَّ سبب بقاء المسرح حیاً طیلة هذه القرون الماضیة ، هو تماسک وإتحاد الكاتب والممثل والجمهور.تحت غطاء المخرج ،فالمخرج فهو القوة الرئيسية المركزية لهذا الاتحاد .
إننا لو أستعرضنا تاریخ المسرحیة ، ومدارسها ، وسر نجاحها ، لوجدناه یتمثل في شخصیة المخرج الکاتب ، وهو أدرى بشعابها بعكس المخرج الوارد على المؤلف والغريب عنها .. وهنا أشیر الی المسرح الملحمي وصاحبه (بريخت ) الذي جعل من المصانع مسرحاً ، ومن العمال فنانین ، وقدم أعمالاً ناجحةً ، کما سجل بإسمهِ مدرسةً ، کذلک شأنِ ( هارولدبیتر) الذي جعل من الغرفة مسرحاً ومن الصمت حواراً ، وقدم روائعهِ بیده ، الذي تعتمد علی عدةِ ممثلین . هذا لا یعني إننا نرفض رفضاً قاطعاً المخرج الذي یقوم بإخراج أعمالِ غیره .بل إننا نستقبل برحابة صدر المخرج الممبدع الذي یخلق من النصِ المیت لوحة تنبض بالحیاة .وإنَّ عملية الإخراج هي ترجمة بحد ذاتها إما أن تترجم حرفياً وتشوه النص ( وهذا ما نختلف فیه ) أو بتصرف إبداعي وترقي بالعمل إلى مستوى فني لائق… من مبدعٍ نسی نفسهُ وتجلی في الإبداع (وهذا ما نبحث عنه)، وإذا ما قام الکاتب بإخراج نصهِ (النص المكتوب) عندما يصب الكاتب (إخراجه للنص ) بذات القالب الذي رأی فيه عمله المسرحي … وبذات التصور والتقييم .. أي أن الكاتب عندما يقدم على إخراج ما كتبه هو إمتداد للنص تدويناً وليس إخراجاً بمعني الإبداع بل بمعنى التكرار .. فالابداع الأول هو كتابة نص مسرحي مشبع بعبقرية وإبداع الكاتب .. ثم يأتي دور المخرج الذي يضفي إبداعه أيضاً محركاً جمود النص بثقافته الإخراجية الإبداعية .. أي أن النص بمثابة جسد حي ولكنه جامد عن الحركة والعطاء الحركي معدوم النشاط يأتي المخرج ويحقن النص بوصفته الإبداعية الخاصة لينطلق العمل بحيوية ولكن بشخصية مغايرة لما تصوره كاتب النص ، وقد تکون موازیة وخادمة للنص ، فالعمل الإخراجي هو رؤيا خلاقة إبداعية يحوزها المخرج خارج تصور الكاتب . أي ان الكاتب ينتهي دوره بعد أن يختم النص مدوناً … ثم يأتي دور ال مخرج الذي يستقل عن الكاتب برؤيا إبداعية قد تغايره تماماً، فالنص المسرحي دائماً بحاجة الی من یوقظ کلماته ویبث فیها الحیاة ویجعل من شخصیاته، شخصیاتٍ حقیقیة من لحم ودم تتآلف تتنافر وتتحدث وتصل الی نتائج مع المتلقي . فالهدف في العرض المسرحي هو المتلقي ولا غیر المخرج الوريث الشرعي للنص
عبد الصاحب ابراهيم أميري