لغة الصمت عند هارولد بنتر……(الحلقة: 9) / عبدالصاحب ابراهیم اميري
یعد الکاتب الإنجلیزي (هارولد بنتر) من العازفین الماهرین علی الحوار ، فیشدک حواره المبتور طیلة العرض المسرحي الذي أختلط بهِ المکتوب واللامکتوب ، وجاء حوار هجینیاً ، یسحر القارئ والمشاهد، لا شيء في مسرحِ هذا الکاتب ، سوی الحوار الهجیني المبتور ، وغرفة ضیقة وأحداث العالم الخارجي ، التي نسمعها کحوار ،ولا نراها کأحداث
یقول بنتر عن نفسه ،شخصان في غرفة ..(إنني أتعامل ولوقت طويل مع هذا التصور لشخصين في غرفة. يرتفع الستار عن المسرح فأراه سؤالاً ضرورياً: ماذا سيحدث لهذين الشخصين في الغرفة؟ هل سيقوم شخص ما بفتح ا! لباب والدخول؟”)
ويعلق بنتر على هذا الموقف الدرامي قائلا: (“من الواضح أنهما مرعوبان عند الذين في خارج الغرفة، فخارج الغرفة عالم يتحامل عليهما، وهو الأمر الذي يخيفهما… نحن جميعنا في غرفة ، وفي الخارج الغرفة يوجد العالم المخيف ، وصعباً على التحليل ويثير الفضول وينذر بالخطر… شخصان يصلان من مكان مجهول … أنا لا أعتبر هذا حدثاً سيريالياً لأن هذا النمط من الناس الذين يصلون إلى الباب كان يحدث في العشرين سنة الأخيرة في أوروبا. ليس في العشرين سنة الأخيرة وحسب بل في المائتين أو الثلاثمائة سنة الأخيرة )
ومع وضع مفهوم (الغرفة) عند (هارولد بنتر) في البال، فإن مسحاً شاملاً لمسرحيات هارولد بنتر سوف تبين لنا بكل جلاء أهمية عمله الدرامي الأول ( الغرفة) فهذه المسرحية تعتبر الأساس الذي بنى عليه كل تاريخه في الكتابة المسرحية، وسيتضح للقارئ كذلك مدى تأثر (هارولد بنتر) بمفهوم الغرفة التي يقطنها عدد محدود للغاية من الشخصيات غير المتجانسة،ومن خلال هذا يتعامل (هارولد بنتر)مع العلاقات الذاتية والداخلية لبني البشر، ويتعامل أيضا مع طرق تعامل الناس مع بعضهم البعض، وهي تلك الطرق التي دائما ما يراها (هارولد بنتر)، طرقاً فاشلة في التعامل ،.
من المهم أن نذكر أيضاً أنه يغيب عن مسرحيات (هارولد بنتر) عامل التاريخ فكل شخصياته تعيش بلا تاريخ وينقصها الحماس، ورموز وحوارات هذه الشخصيات دائما غامضة … يعكس مسرح (هارولد بنتر) ” صورة واقعية ” للحياة الأوروبية فهو مسرح يصور جزء … رغم أنه الجزء المظلم”. يصور مسرح( بنتر)بطريقة درامية الظروف النفسية للمجتمع الأوروبي،ويمر في مسرحياته مرورا بوقائع تعكس دائماً واقعا آخر فنرى الشخصيات تستخدم تعبيرات يقصد الكاتب منها نقل معلومات معينة عن الحياة الأوروبية.
ولعل أهم ما یجلب النظر في مسرحیة (الحارس)، هو إنَّ حوارها ، یعتمد علی الصمت أکثر مما یعتمد علی الکلام ، إذ إنَّ علاقات الشخصیات الثلاث في المسرحیة ، (میک – آستون – دیفز ) قد وضعت في إختبار دائم ، ومحک ، ومحک هذا الإختبار یکمن فما یقوم بینهما من ترابط وتنافر مستمرین ، فهو عازف ماهر ، علی الکلمات فیثیر عزفه المشاهد. لذا نتناول مسرحیة ( الحارس )کنموذج ، والتي قال عنها (بنتر ) ثلاثة رجالٌ في حجرة ، ورغم إنَّ هذه العبارة تبدو بسیطة في معناها ، الا إنها تتضمن بالفعل مغز ی هذه المسرحیة ، وهدف بنتر من کتابتها ، فالرجال الثلاثة هم( آستون ) ساکن الحجرة وأخوه (میک ) شریکه في المنزل (ودیفز ) ، ذلک الشخص الغریب ، الذي أحضره ( آستون ) الی منزله بعد أن أنقذه من مشاجرة قامت في إحدی المقاهي . ویبدو إنَّ ( آستون ) بحاجة الی صدیق یؤنسه ، في عزلتهِ بعد أن خرج من مستشفی الأمراض العقلیة ، وللتعرف علی مسرحِ بنتر وعزفهِ ، نقرأ قسماً من مسرحیة ( الحارس ) معاً بعد وقوفنا علی وصف المشهد والمکان ، فهو یکاد یکون مکملاً للشخصیات
الـمـنـظـر حجرة بها نافذة في الحائط الخلفي، نصفها الأسفل مغطي بجوال یوجد سریر حدیدي بجوار الحائط الأیسر ، یعلوه دولاب صغیر جرادل طلاء ، صنادیق مملوءة بمسامیر قلاووظ ، صوامیل …. ألخ
توجد صنادیق أخری ، وزهریات بجوار السریر یوجد باب في أعلی الیمین ، الی یمین النافذة توجد کومة تحتوي علی : حوض مطبخ سلم خشبي ،دلو للفحم ، آلة لقطع الحشائش ، عربة إستیضاع صادیق، بوفیة ، تحت هذه الکومة سریر حدیدي وأمامها موقد غازي ، فوقه تمثال للإله بوذا . توجد مدفأة في أسفل الیمین ، حولها ،حقیبتان للملابس ، وسجادة مطویة ، ووابور لحام ، ومقعد خشبي ملقی علی جانبه ، وصنادیق ، وبعض التحف ومشجب خشبي للملابس وبعض ألواح خشبیة، ومدفأة کهربائیة صغیرة ، وآلة کهربائیة قدیمة جداً لتحمیر الخبز ، وأسفل هذا کومة من الجرائد القدیمة تحت سریر آستون الموجود الی جوار الحائط الأیسر توجد مکنسة کهربائیة لا نراها إلا عند أستعمالها . دولو معلق في السقف ولنأخذ علی سبیل المثال هذا الحوار الذي جری بین ( آستون و میک )
میک: ما یزال هذا الرشح موجوداً
آستون: نعم ( فترة صمت ) إنه یأتي من السقف
میک: من السقف …. هیه؟
آستون: نعم ( فترة صمت ) لابد أن أکسوها بالقار
میک: هل تکسوها بالقار …؟
آستون: نعم
میک: ماهيَّ ..؟
آستون: الشقوق ( فترة صمت )
میک: ستکسو الشقوق الموجودة في السقفِ بالقار ..؟
آستون: نعم ( فترة صمت )
میک: هل تعتقد إنَّ هذا یکون کافیاً ..؟
آستون: یکون کافیاً في الوقت الحالي
میک: آه ( فترة صمت )
ویسیر الحوار بینهما علی هذا المنوال ، و هو یعکس (في رأیه ) طبیعة العلاقة بین آستون وأخیه ، وهما لا یستطیعان الإتصال ببعضهما البعض ، ولا یفهم کلٌ منهما الآخر ، فهناک فجوة بین الأخوین ، ویحاول کلٌ منهما إصلاحها بصعوبة ، فستخدم المؤلف کلمة ( الشقوق ) والتي ترمز الی الفجوة التي بینهما. وخلاصة القول إنَّ بنتر أستطاع بغرفته الضیقة وحواره المبتور ، وصمته القاتل ، أن یجعل منه حواراً لا مکتوباً ، فالصمت هنا حوارٌ ناطق ، علماً إن لا أثر له علی الورق ، فالصمت هو حوار (هارولد بنتر ) وختام القول إنَّ أعمال هذا الکاتب العبثیة لا زالت حیَّة طریة . حتی یومنا هذا
عبد الصاحب ابراهيم أميري