المقال و المقام في اللغة والحوار… (الحلقة: 10) / عبدالصاحب ابراهیم اميري

إن سعة صدر الکاتب المسرحي ، المحملة بالحوار الدرامي ، والتي تقودنا الی نهایة أحداث المسرحیة والقصة ، یجب أن تکون کبیرة ، ویکون الکاتب حادقاً وعارفاً ، متی یجب أن یفرغ حمولة حواره المکتوب وأثقالهِ ویحتفظ باللامکتوب، أو یمهد في اللامکتوب، والحوار اللامكتوب والذي لا یدوّن وقد تکون أکثر أهمیة من الحوار المکتوب ، فهو الحوار ( اللامکتوب) الذي یبعث الحرارة في المکتوب : وهو الذي یکسر أبواب ( الخجل ، الحیرة ، التساؤلات القلق ، الصراحة ، الصدق ، الکذب ،وهو الذي یمهد للمكتوب ) . وهنا لابد من مثالٍ یقرب لنا هذه الرؤیا ، الا وهي ، حکمة :” لکل مقال مقال” .
فهذه الحکمة لم تأتي إعتباطاً ، وهي من أشهر وأفضل ما قاله أسلاف العرب ، فهذه الحکمة المکونة من ثلاثة کلمات ( لکل مقال مقام ) ، أختصرت عشرات الکلمات لإیصال معناها ، المطلوب والمفید، فالکثیر من الناس ، یعرف معنی هذا المثل ،( لکل مقال مقام ) ویحفظه عن ظهر قلب ، ولکن لا یقوم بتطبیقه ، فیخلط حوارهِ بین زملائه ، وبین حدیث الموجه لأحد والدیهِ . فیتلفظ بکلماتٍ قد تؤدي بهِ الی التهلکة .

من حق القارئ الکریم،إن یعرف من أین جائت هذه الحکمة ، فإنها للشاعر الکبیر(بشار بن برد). وذلک إنه کانت له جاریة ، تسمی رباب ، أعدت له طعاماً شهیاً ، فأراد أن یشکرها أو یثني علیها ، بشکلٍ شعرِ ، فقال :
– رباب ربة البیت
تصب الخلَ في الزیت
لها عشر دجاجات
ودیک حسن الصوت
عندما سمع جلساء ( بشاربن برد )، هذا قال له أحدهم: “أمثلک أیها الشاعر الفحل ، یقول هذا الشعر ، إنه لا یلیق بک” ،
فقال بشار : “هذا عند ربابة خیر شعر” نفهم من هذه المقدمة ، إننا لا یمکننا بأي وجهٍ من الوجوه ، أن نقول ما عندنا ، من دون تحدید هویة الشخص الذي نتحدث معهُ ، وأفکاره والزمن الذي هو فیه ، فنقسم الحوار الموجود في خزائننا الی مراحل و نتعلم کیف نستعمل الکلام في موضعهِ ، وهذا من أسس الکتابة الصحیحة .
إن الكاتب الجيد هو الذي يعرف كيف يجعل طلاسم نصه بين يدي القارئ ايضا كي يسهل قراءة النص وفك طلاسمه ويجعله سهلا للهضم.
وتعد كتابة النص المسرحي الجيد من أصعب الكتابات الأدبية ،واذا ما وضع الكاتب أقدامه على أرض صلبة وتمكن من حرفته ما علی المخرج الا أن یبین ملامحها والممثل أن یؤديها والا فشلت مساعي الکاتب . فکل إنسان مهما کانت منزلته الإجتماعیة والعلمیة ، لا یستطیع أن یقول ما یشتهي ، الإ في الوقت المناسب والمکان المناسب والشخص المناسب .نفهم من هذا . الحوار لا یکون عبطاً في العمل المسرحي ، ومدروساً ألف دراسةً ودراسة . وإذا ما أراد الکاتب أن یکتب شیئاً (والوقت والمکان والشخص) یمنعه علیه أن یضع ما یرید قولهُ خلف الحوار المکتوب، ونأتي لنأخذ القرآن مثلاً عن الإمام الصادق (ع) قال: “نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة”. مامعنى ذلك؟ فکان الجواب: أنَّ القرآن الکریم قد يُخاطب النبي(ص) ببعض الخطابات ويكون المعنيُّ من ذلك الخطاب هو الناس. ومثال ذلك قوله تعالى مخاطباً النبي (ص): بسم الله الرحمن الرحیم ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ الآیة (26 )
وقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ الآیة (27 ) وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ*وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ..﴾ الآیة (28)
فمثل هذا الآيات وإن كان المخاطب فيها هو النبي (ص) إلا أنَّ المعنيَّ من هذه الخطابات هو عموم الناس. وهذا الأسلوب من الكلام متعارف عند أهل المحاورة، فكثيراً ما يخاطب أحدٌ صاحبه ويكون المقصود من الخطاب هو مَن يسمع ذلك الخطاب، فقد يعلم الملقي للخطاب أنَّ المتلقيَ لخطابه مستغنٍ عن مفاده ولكنه يُخاطبه به لينتفع به مَن يصل إليه ذلك الخطاب. فقد يكون ذلك أوقع في نفس مَن وصل إليه الخطاب مما لو كان هو المُخاطَب ابتداءً خصوصاً إذا كان المُخاطَب يحظى بموقعٍ متميز في نفوس المعنيين بالخطاب كما هو النبي (ص) في نفوس المسلمين، فهم يرون له مقاماً سامياً عند الله تعالى.
فإذا خوطب وهو النبي الأحظى عند الله من سائر الأنبياء بمثل قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ فإنَّ وقع ذلك على قلوب المؤمنين يكون بليغاً وسيدفعهم هذا الخطاب إلى التشدُّد في الحرص على عدم الوقوع في الشرك لأنَّه إذا كان وقوعه من النبي (ص) موجباً لحبط عمله فوقوعه منهم أولى بحبط أعمالهم التي مهما تعاظمت فهي لن تضاهي معشار الصالحات من أعم النبي الكريم (ص).
فقوله تعالى لنبيِّه (ص): ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ لا يعني إمكانية صدور الشرك من الرسول (ص) فذلك مستحيل وقوعاً نظراً لعصمته فهو ليس معنيَّاً بهذا الخطاب وإنما الغرض من توجيه الخطاب إليه هو التعبير عن خطورة هذا الذنب والتأكيد على لزوم حذر المؤمنين من الوقوع فيه. یبدو مما جاء ، إن هذا الإسلوب ، والأسلوب الأقرب والأحسن لقول لکل ما عندنا ، دون أن نسيء أو نقلل من کرامتهِ ، وإذا ما أردنا أن ننظر للحالة ، من زاویة أخری ،
یقال إنَّ قائل إياك أعني واسمعي يا جارة هو (سهل بن مالك الفزاري)
خرج يوماً قاصداً (النعمان بن المنذر) ملك الحيرة – عاصمة دولة المناذرة تحت نفوذ الأكاسرة – فمر بأحد أحياء طيء وسأل عن رأس القوم، فأُخبر بأنه حارثة بن لأم. فلما توجه إلى بيته لم يجده ، ولكن أخته التي كانت موجودة رحبت به قائلة: “انزل في الرحب والسعة”. فنزل حيث أكرمته ولاطفته، ثم خرجت من خبائها فرأى جمالا فتن أهل الدهر، وأصابت سهامها قلبه. فجلس يفكر كيف يعبر، وكيف يخبرها بما أحس أو يحدثها عما لمس. فجلس في الفناء الذي به الخباء، ثم صب في أذنيها هذه الأبيات:
– يا أخت أهل البدو والحضارة مـاذا تريـن فـي فتـى فــزارة أصبـح يهـوى حـرة معطـارة إياك أعني واسمعي يا جارة فلما أستقرت كلماته في ذهنها، عرفت أنه عناها. فقالت بصوت مسموع : – ما هذا بقول ذي عقل أريب، ولا رأي مصيب، ولا أنف نجيب، فأقم ما أقمت مكرما، ثم ارتحل متى شئت مُسلّما”. فاستحيا الفتى وقال: ما أردت مُنكرا. واسوأتاه! قالت – صدقت .
وقد ظهر الحياء من تسرعها.ثم أرتحل سهل إلى النعمان فأكرمه، فلما رجع نزل على أخيها يطلب يدها. فتم ما أرادا، ثم تزوجا و عاد إلى قومه. وهذا أسلوب نافع ومؤثر في التألیف المسرحي وبناء الحوار بعیداً عن المباشرة وهو حوارٌ غیر مکتوب . لو أستعرضنا الحوار داخل الأسرة نجد أنَّ رب البیت ، وهو أکبر شخصیة في البیت ، لا تستطیع الخلط بین الحوار المکتوب واللامکتوب عندما یتحدث مع أولاده ( فلکل مقال مقام ) . کذلک رب العمل ، وهو المسؤول عن إدارة العمال ، کذلک یحتاط في إنتخاب کلامهِ من المکتوب واللا مکتوب ( فلکل مقال مقام ) .
الملاحظ علی أعمال بعض الکتاب الشباب حیث إنهم غالباً لا یفهمون الحوار اللامکتوب فهما جیداً ویفهمون النص کما هو دون أن یحاولوا أن یدرسوا ویبحثوا ما وراء هذه الکلمات لذا یأتي الأخراج سطحیاً والشخصیة غیر مدروسة وقلقة ، والکاتب المسرحي الشاب شأنه شأن المخرج الشاب فهو الآخر یقع في الخطأ ، فهو من خلال اللاشعور یکتب حواره الذي یجب أن لا یکتب ، فیختلط الحوار المکتوب بالحوار اللامکتوب فتظهر عشرات الأمراض في النص المسرحي للکاتب الشاب ، ومن تلک الأمراض الشعاریة والمباشرة ، فهو عندما کسر حاجز المکتوب واللامکتوب ظهرت الکلمات والجمل دون أن تمر بالمصفی ( المنخل ) فهو کسر هنا کل الحواجز ( الخجل – التمثیل – المماطلة .. الخ ) فظهرت الکلمات علی حقیقتها دون تهذیب .
قد نجد أمامنا فرداً متحمساً یصرخ في وجوهنا ویقول : ألم یعلمنا الرسل قول الحقیقة ؟ لماذا نماطل أو نمثل أو نخجل … ؟ لماذا لا نقول الحقیقة کما هي ؟
أنا معک في کل ما تقول ، وقول الحقیقة یحتاج لبعض المقدمات وهذه المقدمات هي التي أطلقنا علیها أسم ( الخجل ، التمثیل ، المماطلة ….الخ ) لو تدبرت القرآن الکریم وأمعنت النظر في آیاته الشریفة ودرست السیر التاریخي لتحریم الخمرة التي کان العرب قد أعتادوا علیها في الجاهلیة .
إنها لم تحرم دفعة واحدة ، فلو حرمت دفعة واحدة في حینها فلربما أضطربت أحوال العرب في ذلک الوقت أضطراباً شدیداً وهم الذین أعتادوا شربها کما یشربون الماء لذا جاءت في المرحلة الأولی
وفي قوله تعالی : بسم الله الرحمن الرحیم(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (30)
ومن ثم حرمت تدریجیاً في قوله تعالی (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31)
لسؤال الذي یطرح نفسه الآن هو :
کیف نتعامل مع الحوار کي لا نقع في عشرات الأمراض التي تشکو منها أکثر مسرحیات الشباب والتي تموت مع موت کاتبها للإجابة علی هذا السؤال نقول :
بعد أن تجتمع کل عوامل النص الجید یأتي الدور للحوار الذي نحن بصدده الآن ، وهو في الحقیقة العامل الوحید الظاهر من أرکان المسرحیة … ضع نفسک مکان الشخصیة وأدرس کل الکلمات والجمل التي ترید من الممكن أن تعبر عنها الشخصية وفق المواقف المختلفة

عبد الصاحب ابراهيم أميري

 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت