الخطاب الذهني وكسر الإيهام في موسيقى مسرح برخت/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
كيف تعامل برخت مع عنصر الموسيقى في ضوء
التغريب …. وكسر الإيهام… ومتطلبات الدور
تميزت القطع الموسيقية التي رافقت العروض البرختية بوضوحها التصويري للأحداث، حتى ان (برخت) عمد على إدخال الفرقة الموسيقية في جو العرض ومكشوفاً للمتفرجين وخلال الأغاني والعزف الموسيقي التصويري للأحداث تتغير الإنارة وهذا ما أراد منه (برخت) ان يكون تصوير الموسيقى في العرض يمتاز بطريقة جديدة تسهم في خلق جو مناسب للأحداث المسرحية من خلال الخطاب الذهني للموسيقى الذي يفترض دلالات موسيقية تعالج القضايا الفكرية وتثير التساؤلات وتحرك الذهن عند المتلقي وبهذا فقد لعبت دورا فاعلا في تصوير الاداء المسرحي حيث أصبحت الموسيقى مخبرا للأحداث القادمة أي انها بدأت تصور ما سيحدث من خلال تسلسل أفكارها المنطقية التي ترافق الممثلين, وكذلك أخذت دوراً تحريضياً يساعد في قلب الأحداث من خلال انقلاب أفكارها الإيقاعية والنغمية المفاجئة([1])
ثم عمد (برخت) أن يدخل الموسيقى بالتفاعل الجمالي للمسرح حتى تسهم في افتراضات وتصورات تدعم المبدأ البرختي، كما هو الحال عندما ترافق الموسيقى حوارا هادئا او مشهدا رومانسيا، فان التصوير الموسيقي عليه ان يخلق افتراضا جماليا لا ان يكون مكمل لطبيعة الدور المسرحي, وان يأخذ دوراً يخدم به مفهومه البرختي (التغريب) من خلال البحث عن الأشكال الموسيقية التي تنسجم مع موضوع العرض ويفسر اتجاهاته، وتساعد على خلق افتراضات تعمل على مساندة بعض الأدوار المسرحية فتساعد “ممثل دور ما ان يكسر تدفق بناء هذا الدور اذا لم تكن الشخصية تقليدية وخاصة مع الشخصيات الحاملة للأفكار” ([2]) وهذا ما يتطلبه مسرح (برخت) فهو كسر المألوف والخروج عن المعتاد والواقع والتأكيد على تحريك الذهن والعقل عند المتلقي لإثارته العقلية من خلال حالات الافتراض التي تأتي بها الموسيقى كونها تخاطب الذهن والإحساس، فالدور المسرحي لدى الممثل يجب ان لا يكون قد وصل للاندماج التام بل عليه ان يكون واعيا في أداء الدور المسرحي وان يفصل الممثل بينه وبين دوره.
وبهذا فقد وجـهَ (برخت) الموسيقى في حدود عمل تخدم إيضاح ودعم الفكرة المرتبطة بالهدف دون الولوج بتفاصيل اخرى كأن تثير مشاعر المتلقي او تسعى الى إشراك المتفرج في الأحداث او تصاحب الهدف المسرحي، ففي وجود الموسيقى يرى (برخت) أن لا تصاحب، بل تفترض توضيح الهدف المسرحي، كما إن عليها أن لا تقنع بالإعراب عن مــزاج يظــهر نتــيجة أحداث معــينة على المسرح بل جعلها تُخرج المتفرج من سبات اندماجه الى إيقاظ عقله وتدفعه إلى إدراك الأحداث بوعيه وتجعله يعيش خارج الأحداث يفكر فيها ويدرسها لا أن يعيش كجزء من الأحداث المطروحة، حيث استطاع برخت ان يجعل من الموسيقى عنصرا من عناصر العرض المسرحي الذي يسهم في إسناد ودعم الأفعال المسرحية من خلال خلق التناقض بين أفعال الشخصيات المسرحية حينما تأتي الموسيقى بعكس اتجاه المشهد أي عندما يكون المشهد حزينا قد تكون الموسيقى من نوع المارش او انها تفترض افتراضات تبتعد عن تصور الواقع وبالتالي هنا يتحقق المفهوم المسرحي (البرختي) وهو كسر الإيهام والاندماج والإتيان بحالة مغايرة لما يتوقعه المتفرج بين المشهد وموسيقاه، وكذلك فان الموسيقى عند برخت تكون ” ذات نظرة فلسفية فهي تتجنب التأثير التخديري.
وعلى ما ورد، فإن (برخت) تعامل مع عنصر الموسيقى في المسرح بشكل أضفى إلى خلق تكنيك فني خاص، تحرك على قصد غاية فلسفية مثمرة تكون داعمة لفكـرة التغريب لديه، ففي مسرحية الأم شجاعة لــ(برخت) تتقاطع الأغنيات مع الحوار بصورة دائمة فتعمق دلالة الموقف في أحيان، وقد تعارضه معارضة جذرية ساخرة في أحيان أُخرى, وبذلك تعامل (برخت)مع تقنيات المسرح بشكل شامل، مستحدثاً طرقاً جديدة معها (غير مألوفة) منها (الموسيقى، الشعر، الأغنية والرقص)، بشكلٍ جديد تخدم فكرة أو تقود الموقف إلى تحقيق هدف المسرح (البرختي)، وفي سياق ذلك فإن الممثل في مسرح (برخت) وجد نفسه ملزماً بتعلم مهارات تتكيف ومتطلبات الدور، ومنها الرقص والغناء والعزف الذي يخرج بها عن التوظيف التقليدي المألوف فتشتغل لديه أنشطة الارتجالات في سياق شَكَلَ التعارض أو التقاطع أو التضاد وعدم الانسجام مع الموقف أو الحدث بهدف التأكيد عليها من عزلها بشكل غير مألوف أو غير منسجم حيث يثير ذلك السخرية أو التسـاؤل فيستوقف المتلقي للمدارسة والتأمل، بالتسبيب أو التعليل، أما فيما يخص الممثل، فإن تلك الحركة التكنيكية للموسيقى في تعارضها وعدم انسجامها وتضادها مع الموقف أو الحدث تحقق له صدمة أو صحوة تستوقف انجرافه فتعمل كرقيب ينظم أداءه في سياق عدم اندماجه مع الشخصية/الدور/الحدث. وبهذا تصور الموسيقى الحدث البرختي تصويرا وظيفياً من خلال دورها الذي كان يكشف ويصور طبيعة وسلوك الشخصيات، لذلك فان ” برخت تعامل مع عنصر الموسيقى بشكل أضفى الى خلق تكنيك فني خاص تحرك على قصد غاية فلسفية مثمرة تكون داعمة لفكرة التغريب لديه” ([3]) .
الإحــالات:
[1]))ينظر: برتولد بريخت،نظرية المسرح الملحمي،ترجمة :جميل نصيف (بغداد : دار الحرية للطباعة، ب ت) ص255
[2])) رضا غالب ، الممثل والدور المسرحي(القاهرة: اصدارات أكاديمية الفنون،2006)ص198
[3])) قيس عودة قاسم، التأليف الموسيقي واشتغالاته في العرض المسرحي،(الشارقة:الهيئة العربية للمسرح،2017)ص84
قيس الكناني