نمو الشخصية في النص المسرحي (الحلقة: 19) / عبد الصاحب إبراهيم أميري

تمهيـــــــــد:
تعد الشخصیة في النص المسرحي، من أبرز رکائز المسرحیة، ولولا الشخصیة لفقدت المسرحیة رکیزتها الأساسیة وانهار البناء الفني، وأقرب مثال لذلک البیت والمواد الأولیة التی تساهم في البناء، فلولا هذه المواد ( الطابوق- الإسمنت – الحدید …. الخ) لما وجد البیت وکلما کانت المواد المستعملة في البناء أصیلة وأتقنت صناعتها کان البیت محکما ومتیناً ولکي یکون بناء الشخصیة ونموها متیناً یقبله المتفرج والممثل وتجد لها مکاناً في العمل المسرحي وقلب المشاهد یجب أن تکون منطقیة ونقصد بالمنطقیة أن یکون لها متشابهاً في حیاتنا الیومیة (ینطبق هذا الحدیث علی المدرسة الواقعیة بالکتابة، تصرفاتها مقبوله مع هیکلها وطبیعتها هي وعقلها وتکوینها الجسمي والروحي والإجتماعي.
فالشخصیة هي بالحقیقة مزیح من العقل والعاطفة والروح والجسد والثقافة، أثر علیها المحیط کما أثرت علیها العوامل الإقلیمیة والسیاسیة والإقتصادیة والدینیة حتی أکتملت وأطلقنا علیها تسمیة الشخصیة وأصبح لها تصرفاً خاصاً بها في العمل المسرحي وطریقة خاصة في الکلام والمشي والضحک والتعامل والتصرف والأخلاق والعادات، وقد نسمع أحیاناً إن الشخص الفلاني یشبه في تصرفاته فلاناً من الناس الا إننا لو تعمقنا في الشخصیتین لوجدنا عشرات الصفات والعادات التي لا یتشابهان فیها ویصعب علینا أن نجد شخصیتین متشابهتین تماماً بجمیع الخصائص والعادات والأخلاق والعمل والثقافة والمستوی المعاشي والشعور والإحساس بالمسؤولیة والعاطفة والخبث والبراءة و… و… الخ.
 

کل هذه العوامل وعوامل اخری تؤدي الی بناء الشخصیة وکل شخصیة تعتبر مستقلة عن الشخصیات الأخری وإن کل هذه العوامل هي التي تحدد طریقة وکیفیة نمو الشخصیة ومن ثم طریقة تعاملها مع الأحداث … فالکاتب المسرحي وقبل أن یبدأ عمله المسرحي یجب علیه أن یعرف کل صغیرة وکبیرة عن شخصیاته التي یرید بث الروح فیها یوجه الیها عشرات الأسئلة ویسجل ردود فعل هذه الأسئلة علی الشخصیة ومدی تقبلها أو رفضها إبتداءً من الشکل الظاهري لها ( الطول – العمر – لون العینین- الشعر- لون البشرة – المزاج – السمنة – النحافة – و… و….الخ ) والمستوی العلمي والثقافي ( جامعي – استاذ – طالب مدرسة – مثقف – أمي – فراش – یحب المطالعة – لا یطالع – یحب النزهة – یحب الإختلاط – منزوي – متأخر – قروي – متدیّن – ملحد – متعصب … الخ ) وحتی الشکل الروحي للشخصیة ( عاطفي – عصبي – کثیر الضحک – سریع الغضب – صعب التعامل – سهل التعامل – یتأثر بسرعة – سریع البکاء – لا یتحمل الصدمة … الخ ) وإذا تمکلنا من الحصول علی کافة المعلومات المحیطة بالشخصیة، أستطعنا إیجاد الحجم الحقیقي الکامل روحاً وجسداً وفکراً للشخصیة ومن ثم عرفنا مدی تأثیرها بالاحداث المحیطة بها، نستطیع أن نسجل مقدار ردود الفعل فیما لو عرف مثلا أن زوجته وأبناءه ماتوا معاً في حادث إصطدام سیارة.
لو لم نکن نعرف عن الشخصیة المعلومات السابقة لما تمکنا من تسجیل ردود الفعل هذه إطلاقاً بعد ذلک علینا أن نفهم مقدار ارتباط هذه الشخصیة بسائر الشخصیات، قد یمکننا الحصول علی شخصیة مدروسة ومنطقیة من کل الجوانب الا إنها قد لا تنفعک في عملک الذي فکرت فیه الان، إذن علیک أن تفکر قبل کل شيء في موقع الشخصیة من العمل وإذا وجدت هذه الموقع ستجد إن شخصیاتک یتحرکون في دائرة واحدة ویلتقون متی تشاء.
وهنا تجدر الإشارة، إلى أن النمو لا يشترط فيه الزمن، قد يكون النمو بفعل حدث الإنسان بطبیعته یتأثر بالمحیط ویتغیر وفق الظروف وزمن الأحداث لذا قد تراه یتغیر من حالة الی أخری وهذا التغیر لم یحدث فجأةً بل حدث علی عدة مراحل حتی وصل الی ما وصل الیه الساعة من التغیر وعاش صراع الشخصیة في المسرحیة اذا کانت حیة وواقعیة تمر بنفس ( المراحل التحول ) لذا علينا ان ندرس ونراقب مراقبة تامة هذا التحول والتغير الذي يطرأ على الشخصية ويؤدي الى تغيرها كما ندرس معقولیة هذا التغير علیها كي لا نقع فيما نخشاه.
قرأت قبل أيام عملاً مسرحيا لكاتب شاب صور فيه سجانا مسؤولا عن تعذيب المعتقلين السياسيين، کان قد قضى عمرا هذا العمل ورأى العشرات من المعتقلين یموتون تحت سياط التعذيب الوحشي الذي يمارسه بحقهم يتحول هذا المتوحش فجأة من شخص قاسي القلب ميت الضمير الى انسان وديع وطیب، وذلک على أثر سماعه أنشودة عاطفية حزينة ينشدها أحد المعتقلين يتحول ذلك التحول المفاجيء والسريع ویذهب لقتل رئيسه المسؤول عن السجن ويقتل أخيراً .
لو أردنا أن نبحث عن معقولية هذا الفعل (التغير) علينا معرفة قضايا كثيرة عن ذلك السجان
لماذا اختار هذه المهنة؟
لابد إنه مر بمراحل عديدة من الاختيار حتى وصل الى ماوصل اليه.
ما هو وضعه العائلي؟
ما هو وضعه العاطفي والنفسي؟
هل شاهد في حياته عملية قتل ؟
هل كان والده قاسيا معه في صغره ؟
عندما نتصفح النص لا نجد اية اجابة عن تلك الأسئلة بل لا نجد شيئا عن هذا السجان ،حتى اننا لا نستطيع معرفة شكله الظاهري، فكيف يتسنى لنا معرفة وضعه الروحي والفكري؟ واذا كنا لا نعرف عنه أي شيء، فكيف نستطيع معرفة مدى صحة ذلك التغير المفاجئ الذي حصل له؟ ومدى منطقية هذا التغير؟ الا إنه وبطبيعة المنطق العام المتعارف عليه ان هذه الشخصية (السجان) لم يكن سجانا مالم يكن قد مر بمراحل عديدة حتى اصبح سجانا مسؤولا عن تعذيب المعتقلين السياسيين ولا شك إنه سمع بكاء وآهات وصراخ العشرات أو المئات من المعتقلين نساءاً و رجالا دون ان يتأثر فمات قلبه وانعدمت العاطفة لديه، إذن نخرج بنتيجة منطقیة و هي ان هذا السجان الذي تخلى عن إنسانيته لمدة طويلة لا يمكن ان تغيره أنشودة عاطفية حزينة بتلك السرعة، فلو كان الامر كذلك لطلب من السجناء أن ينشدوا تلك الانشوده جميعا وفي يوم واحد ولتحطمت أبواب السجون وانتهى كل شيء، فالامر ليس بهذه السهولة التي صورها لنا الكاتب .
نفهم مما تقدم أن الشخصية في الظرف الطبيعي لا يمكن أن تتحول بين لحظة وأخرى والتغير قد يتم مرحليا الا اذا تدخلت العوامل الغير طبيعية كحصول حادثة للشخصية تؤدي بها الى فقدان الذاكرة أو حتى فقدان العقل فتتصرف تصرفات مغايرة ، وهذا لا يسمى تغيرا طبيعيا، والتغير الطبيعي لابد ان يمر بمراحل تختلف باختلاف الشخصية وعامل التغير والموضوع والمحيط والشخصية (روحا،بدنا، فكرا) ولابد ان يكون لها زمن قد يستمر سنوات أو أشهر أو أيام وقد تستمر لمدة عدة ساعات فقط، ولابد أن يكون هناك صراع داخلي عند الشخصية يظهر أو لا يظهر.
أعتقد أن الامر بحاجة الى توضيح بسيط ، فالسارق مثلا لم تلده أمه كي يكون سارقا، الا ان المحيط وعامل التغير والعوامل الاخرى المحيطة بالشخصیة خلقت من هذا الانسان الطيب الذي ولد على هذه الارض من أجل أن يكون انسانا صالحا ،خلقت منه سارقا ، ونتيجة للظروف المحيطة بالمجتمع وبالشخصية تغير، والتغير لم يحدث فجأة بل حصل على عدة مراحل، ابتداء من قيامه بأخذ حاجة بسيطة من بيت اقاربه في صغره دون أن يفهم معنى هذا الفعل وعدم ردعه من قبل أهله لقيامه بذلك الفعل الشائن بل نلاحظ ( أحيانا) العكس تماما لذا أن العائلة تشجيع هذا الطفل على ما ارتكبه (بشكل أو بآخر ) ومن ثم يأخذ بعد ذلك سلعا أكبر و أكبر وهلم جرا…. الى أن يعتاد على تلك الحالة للتمتع ملتصقة به فيتخذها مهنة له بمرور الايام ويحترف السرقة.
كل ذلك حصل خلال زمن طويل ، هناك حالات تغير تحتاج الى زمن أقصر، فالشخص الغاضب لايمكن أن يضحك في لحظة غضبه الا بعد مرور فترة من الوقت، أما الذي يضحك في لحظة غضبه فهو بالطبع في حالة شاذه وغير طبیعیة.
خلاصة القول ان التغير لا يحدث فجأة بل ينبغي أن يمر عبر زمن، وهذا الزمن قد يكون قصيرا أو طويلا متناسبا مع الشخصية والحدث.
قلنا أن الشخصية في أعمال كتاب اللامعقول تكون خالية من الروح والعاطفة، تتصرف تصرفات خالية من المنطق وكأنها كائنات غير حية ، لذا فان مسألة التغير ونمو الشخصية لا تجد لها قاعدة ثابتة في أعمال هؤلاء الكتاب ، فالجثه الميته في مسرحية ( أميديه) تنمو وتكبر دون تسلسل منطقي فهي لا تحتاج الى زمن.
 

عبد الصاحب إبراهيم أميري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت