المسرح من التقليدي إلى التجريبي .. في ثبات/ وليد عوني
لكل فيلسوف رؤيته، وفي كل رؤية شيء من الحقيقة، غير أن رؤية ما قد تمتاز عن غيرها، لا فحسب بفضل عمق وخصوبة، وللشمولية ما تصوره، وإنما أيضا بفضل الأسلوب الذي به تصور لنا ما تريد أن تصوره، وهو أمر يتوقف على مدى دقة الرؤية وضبط أدوات الإبصار بحيث يمكن معاينة سائر تفاصيل المشهد الذي نراه، وهي تفاصيل تتداخل فيها الخطوط والألوان والإظلال.
إن هذا التوصيف ليصدق إلى حد كبير على رؤية أرنولد هاوزر Arnold Hauser، وهذا التوصيف بالذات ينطبق أيضا إلى رؤية المخرج أو المفكر المخرج لأدواته المسرحية وخطوط أبعاد إبداعه لتوظيفه الخاص به كفنان يقوم برؤية مسرحية منفردة مجردة من الذي قد سبقه.
وهنا تكمن مشكلتنا في عصرنا الحالي في المسرح المصري، حيث إننا لا نزال نعيش على حدود ما ورثناه في الخط الدرامي للعوامل الاجتماعية منذ نشأته، فقد ورثنا إرثا راسخا في وجداننا وتراثنا لغاية الآن وهي طريقة الإلقاء اللغوي إلى هيكلية الموضوع وإلى نقل الجمال الفني والأدبي في مجتمعنا كما كان عليه لينتقل إلى المسرح بالدراما الخاصة به والكوميديا الخاصة به.
على أننا لا ينبغي أن نخلط بالمغزى الاجتماعي الأدبي والسياسي للأثر الفني المصري من بداية القرن العشرين، وقيمته الجمالية للحفاظ على أصالته من جذورها. حيث أصبحت الكلمة الشعبية أداة أساسية لمتناول الحوار ومتناول كتابة السيناريو لجميع طبقات المجتمع لتصبح الصلة حميمية في المسرح، فأصبح الجمهور هو أهم من المسرح وأهم من النص. حتى باتت عادات الحركات الجسدية عندنا نابعة من زوايا وخبايا بيئة الشوارع والأزقة والبيوت والعائلة… وهكذا فعلت السينما المصرية وهكذا كتب أدباؤها. كان الشارع والشعب هما القصة تترجم إلى المسرح تنير عقول كبار الكتاب والأدباء والمخرجين ليعطي أداة خاصة للفن المسرحي العميق وعمق رؤيته الشعبية.
إذن، المسرح ولد من الشارع وأتينا به إلى المسرح بواسطة كتاب وأدباء كبار، ومن ثم اتجهنا إلى كبار الكتاب العالميين، وترجمت قصصهم المعروفة والمتحولة إلى لغة المسرح قبل ولادة الرواية من عند “شكسبير” إلى كتابة الرواية عند “برشت” وبدء عصر التحولات في القسم الثاني من القرن العشرين للدراما والكوميديا، وأخذ بعضهم في تغيير المكان والزمان وحتى في النص، واختفت تتابعية الفكرة، فالبداية أصبحت نهاية، والنهاية أصبحت بداية، ودخلنا إلى تغيير صميم القصة الدرامية وتحويلها إلى كوميدي والعكس، وحولنا السياسة إلى كوميديا بحتة.
وفي ثقافتنا قد مصرنا كل هذه التحولات فكاد الأدب الغربي أن يصبح من غير هوية، وكنا هنا في مصر نؤكد على هويتنا المسرحية رغم الدخول إلى التجريب دون التفكير به، وكل هذا قبل وصول حركة الرقص المسرحي الحديث في العالم في الثمانينيات، ثم في مصر بداية التسعينيات الذي طغى على الكلمة ونشأ مكانه الفكر ورؤية على شكل رموز حياتية لمسرح جديد أعجب به الكثيرون وانزعج منه الأكثر ما بين رقص وإبداع حركي يترجم الحالات المسرحية الجديدة والحياتية.
وتفجرت آفاق جديدة نحو حلقات متكاملة للعنصر البصري وهي “السينوغرافيا” وتغير معايير هيكلية إضافةً إلى النور، والظل، والألوان، وقد فرض الديكور سيطرته في بعض الأحيان وأصبح أهم من الموضوع نفسه فيذهب إلى تفسير لغة الإبهار بأنه أهم من الكلمة، وهكذا أتى المولود الجديد للفكر الجديد، والتيار الفكري يجمع انعكاس المجتمع لكل ما يحتوي من الأدب والفن السينمائي، والسياسة، والطبقية، والعنصرية، والدين والفنون التشكيلية وكل الفنون وحتى الهندسة والنحت ووضعنا كل هذا في هندسة تكنولوجية الفضاء والفراغ والأشكال المتحركة.
ذهبنا إلى مزج الأزمنة ومزج التاريخ وإعادة صيغة التقاليد العالمية والمحلية، وجعلنا من السير الذاتية لشخصيات مهمة عادة وعاشت على المسرح تتكلم أو ترقص، وجعلنا كل ما هو غائب حاضرا وأعدناه إلى الحياة بعصره الكامل ولن يعود إلى الموت.
هكذا تجدد المسرح إلى مرتبة أعلى، فلم يعد يخص الإرث الشعبي بل تحول إلى عدة مدارس تخص فقط مدرسة لكل واحد منا مدرسة، المخرج والمؤلف والمصمم، وابتعدنا عن قانون وقواعد المسرح التقليدي، لأن التطور في كل شيء مطلوب والمسرح المصري أيضا لا مهرب وجب عليه التطور ليضع مكانته على الخط العالمي، وحقا تطور بجدارة ولكن ببطء من خلال مخرجين واعدين تناولوا مسيرة ما يحبه الجمهور، وما يطلبه ويحس به الجمهور، من خلال كل المواضيع التي أثبتت من خلالهم ومن خلال المسرح القومي الذي أصبح منارة للمسرح العربي بقوة، وتربعت حرية الفكر والموضوعات الجريئة وفرد أجنحته على انتشار هذا الفكر والأدب في البلاد العربية، واستقطب الكثير من الممثلين والمخرجين والكتاب العرب إلى مصر، وبعدها تعددت المسارح من كل أركان القاهرة.. وهذا التطور المسرحي الدرامي قد تكاثر من الكتاب والمؤلفين والمخرجين رغم مرور البلاد في أزمات سياسية متكررة محلية وإقليمية وعالمية خاصة بعد حرب أكتوبر 1973.
ويدخل المهرجان التجريبي بقوة في عام 1988 على يد مؤسسه الفنان الوزير الأسبق فاروق حسني، وسطع من خلال هذا المهرجان مخرجون مميزون في مفهوم التجريب، ولكن بقلة حيث أتت محاولات كانت صعبة لمفهوم الانتقال السريع والمفاجئ في المسرح التقليدي إلى صدمة التجريب، مما أثار غضب البعض بتسميته “التخريبي”، رغم المجهود الفكري وطموح شباب ينادون بالتجريب والتواصل مع الخط العالمي ولإثبات الوجود أمام عروض أجنبية حاضرة بقوة من كل مجتمع ومن كل اختلاف المدارس واختلاف قراءة المسرح وجماليات وتحديات والتحرر في الآراء وتفسيرات رمزية اجتماعية بالغة الأهمية.. ورغم كل هذه السنين والأيام المثمرة ما قبل ثورة يناير وما بعدها لا يزال هناك عروض راسخة في التقليد الجماهيري محافظا على الهوية المسرحية المصرية.
وبعيدا عن الذين أتوا بجوائز المهرجان كان هناك فرق صغيرة مثمرة مختبأة على هامش المهرجان تتجه اتجاها صحيحا نحو التجريب، ولم يهتم بهم أحد ولم تسعَ الحركة الثقافية آنذاك بالتوجيه أو الاعتناء للذين وصلوا لإثبات وجودهم حتى بأعداد ضئيلة رافعين راية التجريب والتطور، فالاتجاه كان فقط للأيام العشرة للمهرجان التجريبي أيام الشعلة المضيئة للاستكشاف لكل ما يقدم، ونيل كل واحد نصيبه بالجوائز للمهرجان.
وهذا على الرغم من إصدارات كثيرة وترجمات العديد من الكتب القيمة التي تنير وتنادي بالتجريب لكبار المسرحيين العالميين والعرب من العديد من المحاضرات المكثفة لشرح الرؤية والفكرة والإخراج من مسرحيين عرب وأجانب، فإن كل هذا يُوقف عند انتهاء المهرجان في اليوم العاشر. أما بعد، ماذا يحصل بعد المهرجان؟
كل شيء يختفي ولا يعود هناك أي توجيه فعلي أو متابعة فعاليات أو وضع برنامج ملحق للتجريب على مدار السنة من انعكاس ثقافي واجتماعي أو ورش موضوعية التجريب في ما قدمته عروض المهرجان، فتنطفئ أنوار المسرح بما فيه وتتجه الأنظار من جديد إلى المسرح التقليدي والإرث الشعبي، والأهم هو العودة إلى تشبيع رغبة الجمهور، فيتوقف التطوير الجذري والنظرة إلى المستقبل والفكر المسرحي الحديث يتبخر وندخل في ثبات عميق ولا نستيقظ منه إلا قبل شهرين من المهرجان المقبل وحينها من جديد نطلق العنان فقط لندخل في المنافسة بين فريق وآخر للفوز.
هناك فجوة عميقة زمنية أو حلقة مفقودة تقع لربط مفهوم هذا التطور التقليدي والمسرحي التجريبي، ألا وهي “الثقافة الذاتية” والارتقاء إلى مستوى الشخصي لكل منا والنظر إلى نافذة الغرب مع الاحتفاظ بموروثنا العربي وتحويله إلى الحداثة والتحديث العالمي، مع دراسة الإرث الشرقي وكنوز أدبائنا والذهاب بهم إلى المعاصرة الذي لا مفر منه، والتأكد من أن كل شيء ينبع من الفكر ويرتبط برؤية إبداعية.
وأشدد على أن يكون لكل مخرج أو مصمم أن يكون له أدواته الخاصة وفكره المرتبط برؤيته الإبداعية ولو حتى للحظات عمله، وأن يتفهم موضوع دراسة السينوغرافيا، الرابط الوحيد لقراءة موضوعه والمترجم الوحيد لحالات الفضاء الذي يحلم به، ليعطي مسرحه لغة خاصة به أيضا ورمزا خاصا به، إن كان حوارا دراميا كوميديا أو مسرحا لغويا، أو مسرحا معاصرا وتقليديا أو رقصا مسرحيا حديثا أو مسرح العبث أو الجماهيري وغيرهم.
أما اليوم حين يطلب مني أن أكون عضوا في لجنة التحكيم ومشاهدة 179 عرضا مصورا منهم 69 عرضا مصريا، أشير إلى هذه النقطة بالذات التي أتكلم عنها، وهى الارتقاء إلى الجديد، إلى الإبداع، إلى التغيير، ولم أجد أي عرض في العروض المتسابقة تحت مسمى التجريب المصري الخاص بلغتنا الشرقية إنما هناك شبه الاتجاه إلى التجريب بل إن هناك سيطرة على أدوات مسرحية جديدة ولكنها ضئيلة.. وليس هناك اعتناء بالسينوغرافيا حيث تبقى الكلمة أو التمثيل هما الأبطال أو أنها نهاية الجملة المكررة هي الدعوة إلى التصفيق لإرضاء الجمهور حيث إن أكثرية العروض تليق بجدارة أن تدخل مسابقة مهرجان المسرح القومي، ممكن أن يكون هناك عروض عظيمة في منتهى البعد المسرحي المصري إن كان بمتناول هيكلية الموضوع والإخراج والتمثيل والسيطرة على الأجواء الكلاسيكية وتستأهل أن تأخذ أعلى درجات التقدير، ولكنه بعيد كل البعد عن معنى أو جو التجريب أو أن يدخل في منافسة المسابقة في المهرجان التجريبي وكأني لا أزال في بداية التسعينيات للمسرح المصري.
في مصر نحن أقوى في مجال المسرح التقليدي، ولا يسعنا إلا أن نطالب ببرنامج توعية شامل للاتجاه إلى المسرح الحديث أو الرؤية الحديثة النظرة الإبداعية لأننا في القرن الواحد والعشرين وكلمة التجريب لم تعد هي الكلمة التي ستغير مجالات الاتجاهات المسرحية، هناك ما قام به خالد جلال في صناعة الممثل في مصر الذي هو بدوره يقوم إلى تحديث نفسه وأن يصبح مخرجا أيضا وليس فقط ممثل أو أنه يتجه إلى السينما أو المسرح أو المسرح التجريبي، ولكن هناك دائما الأساسي والمدرسة. وبدل أن نكون في قوقعة الماضي وتقليد ما قد رأيناه ونعرفه وجب علينا الاتجاه إلى الثقافة العامة والخاصة وعلى كل مخرج أن يكون له سيطرة على شخصية المؤدي وتفكيره ليقدم ما هو عليه وليس ما يعرفه من قبل.
لقد شاهدت عدة عروض شبيهة جدا من بعضها البعض بالنسبة للإخراج والحركة المسرحية وطريقة الإلقاء ومن ثم قراءة المسرح وقراءة السيناريو هي هي، ولسوء الحظ ما يفقد قيمة مسرحنا هو الملل والتكرار والتشابه.
على الرغم من أن هناك عروضا حية حضرتها كانت في منتهى التجديد المسرحي والتمثيل بدرجات احترافية عالية ونطق لغوي جديد والاعتناء في المكان والزمان واختيار الموسيقى التصويرية. ولكن للأسف الذي يهبط من مستوى الإخراج المسرحي هو الفقر.. الفقر في الملابس والفقر في الديكور والفقر في الإضاءة والإكسسوارات، مما يؤدي ألى أن المخرج يصبح فقيرا أيضا من خلال أدواته الفقيرة في الإنتاج وحيث تصبح الرؤية فقيرة، وإننا هنا نحد من دراسة إبداعه.. فهذه مسئولية وزارة الثقافة أن ترى ولو حتى بالعين المجردة هذه المشكلة والمكللة بالروتينيات البيروقراطية القاتلة لكل فنان أراد أن يحلم برؤيته الفنية على أرض الواقع.
وأقول لكم بصراحة لولا إمكانيات دار الأوبرا المصرية في أعمالي الكبرى لما وصلت إلى تحقيق هدف تأسيس الرقص المسرحي الحديث في مصر، والارتقاء به إلى مسارح العالم. لا نقدر أن نذهب إلى الجمهور ونقدم له ما يريده أو ما يريد فهمه!! فهذا يؤدي إلى عدم التطور.. إنما يجب أن نجعل الجمهور يرتقي إلينا إلى المفهوم الجديد، وأن نجعله يحلم أو يسعى وأن يطرح علينا الجواب وأن يكتشف الرؤية والإبهار التي قد تكون مخبأة في داخله وتفجر أفكاره التي حركناها نحن المخرجون.
وهذا لا يحصل إلا إذا “أنت المبدع” لا تفكر إلا في البعد الثالث لقراءة المسرح الجديد.
عن:”مسرجنــا” / العدد 682 صدر بتاريخ 24سبتمبر2020