حريم النار…لوركا وشاذلي يطوفان في صعيد مصر/ د. عايدة علام

اعتمد المؤلف (شاذلي فرح) ذو الأصول الصعيدية، من أسوان جنوب مصر، على رائعة الكاتب الأسباني العالمي “فيديريكو جارثيا لوركا” (1898-1936) “بيت برناردا ألبا” ، ابن الجنوب الأسباني والمعروف حتى الآن باسمه العربي (الأندلس)، والذي تمتزج فيه ثقافات الأسبان القديمة بثقافة العرب الإسلامية والتي سادت أكثر من ثمانية قرون من الزمان شبه جزيرة أيبريا – أسبانيا والبرتغال – و بوجه خاص الجنوب الأسباني .
وتعد مسرحية “بيت برناردا ألبا” واحدة من ثلاث مسرحيات تسمى الثلاثية الريفية الأندلسية، و الأثنتان الأخريتان هما “عرس الدم” 1933، و”يرما” 1934، وكتب “لوركا” هذا العمل عام 1936 قبل اغتياله بأسابيع قليلة .
أتت هذه المأساة ، التي تعد قمة المشوارالدرامي للوركا، والتي كان لابد لها أن تكون أول المجموعة التي تمثل مرحلة النضج عند الكاتب، والأولى في إطار فني درامي أكثر عمقا وعالمية، لتصبح آخر أعمال “لوركا” بفعل ذلك القدر – اغتياله – الذي فرض عليه بكل وحشية في 19 أغسطس 1936، بعد اندلاع الحرب الأهلية الأسبانية في 17 يوليو من نفس العام .
عانى “لوركا” الكثير – مثله مثل غالبية المفكرين والفنانين – من فترة حكم الديكتاتور فرانكو المستبد الطاغية الذي فرض على المجتمع الأسباني قيودا صارمة و امتلئت السجون والمعتقلات و كممت الأفواه و صودرت الحريات، و لم تكن هذه الفترة هينة على شاعر مثل لوركا الذي ارتبط بتراب غرناطة -عروس الأندلس- بعبقها العربي و حمرائها الخالدة وأصبح نباتا من صنع هذه الأرض يتحرق شوقا إلى التحريرمن قيودها العقلية وإطارها الصارم في لهفته للحب و الخصوبة والانطلاق، كما تتمثل في أعماله الدرامية الكبرى مثل “يرما” و”عرس الدم”و”بيت برناردا ألبا”.
يجري الحدث الذي ينطوي عليه “بيت برناردا آلبا” في مكان مغلق محكم جدرانه غليظة ونوافذه عالية مغلقة و تتدلى من أعلاها ستائر سميكة، الجو حار ، و فصل الصيف في غرناطة شديد الحرارة يذكرنا بمناخ أسوان في جنوب صعيد مصر، و لم يكن اختيار لوركا لفصل الصيف اختيارا عشوائيا ولكن متعمدا ، حيث تتلظى أجساد شخصيات “بيت برناردا ألبا” و كلهن شخصيات نسائية، بحرارة الجو المحيط بهن وحرارة عواطفهن المكبوتة المتعطشة للحرية .

غرناطة الأندلسية وأسوان الصعيدية
وجد المؤلف شاذلي فرح في نص “بيت برناردا ألبا” للشاعر الأندلسي “لوركا” نبتة خصبة لإعادة زراعتها في تربة صعيدية مصرية تتمتع بملامح متشابهة بل تكاد تكون متطابقة، فمنح الشخصيات أسماء منحوتة من البيئة وجعلهن ينطقن اللهجة التي تتميز بخصوصية لا يعرفها سوى أهلها، كما حرص على الحفاظ على الخط الدرامي الرئيسي الذي أرساه لوركا وأكد عليه وهو الصراع بين قوتين أساسيتين، القوة الأولى يحكمها مبدأ السلطة الباطشة الطاغية الذي يتجسد في شخصية برناردا/ فتحية شلقم ، والقوة الثانية و يحكمها مبدأ الحرية الذي يمثله بناتها .. عند لوركا شخصية برناردا تجسد مبدأ السلطة المطلقة ردا ، في الظاهر ، على وجهة نظر طبقية للعالم الذي تتبلورفيه أخلاقيات اجتماعية قائمة على قواعد سالبة و قيود وضغوط ، ومقيدا بالذي يقوله الآخرون، و بالحاجة التالية للدفاع عن النفس بالانعزال عن تلك الرقابة الاجتماعية و المفضية إلى الجنون . تقوم برناردا ألبا بفرض نظام في العالم المغلق لبيتها يتماهى مع نظام المجتمع ، النظام الأوحد في إمكانيته إذ يعتبر هو الحقيقة ذاتها ، وضده لا يمكن قبول أي نوع من الاحتجاج أو التمرد .
صاغ (شاذلي فرح) شخصية الأم في عرض “حريم النار” برؤية مختلفة عما رآها لوركا “فتحية شلقم” (الأم) تبدو قوية من الظاهر إلا أنها في حقيقة الأمر هشة من الداخل فهى تظهر غير ما تبطن، هي ضحية تقاليد وعادات اجتماعية بالية متخلفة توارثتها الأجيال عبر تاريخ طويل ولا فكاك منها، و بمجرد أن بلغت سن البلوغ أجبرها والدها على الزواج من رجل يكبرها بحوالي أربعين عاما ، لمجرد أنه ثري ، و في ليلة زفافها سيقت إليه كبهيمة تم ذبحها بسكين بارد، وصارت أم لطفلة وترملت وهى لم تزل بعد في عمر الزهور، و تم اغتيال أنوثتها للمرة الثانية و صودر حقها كإنسانة لها كرامة عندما قرر أبوها أن يزوجها للمرة الثانية من رجل يفوق أضعاف عمرها، فالقانون السائد و المهيمن في المجتمعات الخاضعة للسلطة الذكورية أن تنتقل ملكية المرأة من الأب إلى الزوج وعندما يموت الزوج تنتقل الملكية إلى الأب مرة أخرى إلى أن يتقدم لها رجل أخر يمتلكها من جديد ، يموت الأب و بعده بقليل يموت الزوج بعد أن يترك أربع بنات يشكلن إرثا و عبئا ثقيلا على كاهل الأم خاصة أنهن لا يملكن مالا و لا يتمتعن بقدرما من الجمال فضلا على أن أعمارهن قاربت من خط العنوسة .

(شاذلي فرح)

 
السجان والسجين والضحية
يبدأ المشهد بإظلام – شبه تام- يكتنف فضاء المسرح، باستثناء بؤر ضوئية خافتة بالكاد تحدد طبيعة المكان ، نحن أمام صحن في قلب منزل بإحدى قرى الصعيد، أكثر ما يميزه و يجذب الانتباه تلك سيقان النخيل الضخمة السامقة على الجانبين تنتهي كل واحدة منها من أعلى بعمامة كبيرة بيضاء كأنها تاج عامود، و بدوا في مجملهم كحراس أمن للمحافظة على العادات والتقاليد القديمة البالية، فمازال الفكر الذكوري يهيمن على البيت الجدران الجانبية والجدار الخلفي في عمق المشهد تم تنفيذهم من خامة تشبه سعف النخيل ، توجد نافذتان واحدة منهما في خلفية المنظر والثانية على يسار المتلقي، يتدلى عليهما من أعلى ستائر منسوجة يدويا . يتوسط المشهد أريكة خشبية من طراز بدائي ، وتتناثر في جنبات فضاء المنظر بعض الملحقات المكملة لإضفاء مذاق خاص من البيئة .
بمجرد ظهور الخادمة في فضاء المسرح وسيل من المعلومات ينساب من فمها عن سيدتها “فتحية شلقم” و فظاظة طبعها و بخلها الشديد، و إحساسها الطبقي تجاه الخدم باعتبارهم من طينة أخرى، تتحرك بسرعة ذهابا وإيابا في فضاء المسرح محاولة إعادة ترتيب و تنظيف أثاث المنزل قبل عودة سيدتها و بناتها الخمس من المقابر بعد دفن زوجها، أصوات نسائية متداخلة مع نحيب وخطوات أرجل و دقات قوية على الأرض، في تلك اللحظة تدخل من يمين المشهد الأم فتحية شلقم ومن خلفها بناتها و مع كل خطوة تخطوها الأم تدق بقوة بعكازها على الأرض وهى تعلن الحداد سبع سنوات – وهنا لا نستطيع  أن نغفل عن ذهننا دلالة رقم سبعة في الميثولوجية المصرية، أما في النص الأصلي كان الرقم ثمانية – متصلة تغلق فيها النوافذ والأبواب، وارتداء السواد، كان وقع تلك الأحكام الصارمة – غير المتوقعة – كقذيفة من لهب في وجوههن. الإبنة الكبرى غير الشقيقة تعتبر أكثرهن حظا لما تمتلكه من ثروة تركها لها أبوها وكانت سببا لتقدم أحمد علي لخطبتها، وهو اسم الرجل الوحيد الذي تردد في أرجاء المنزل و فرض وجوده بالرغم من عدم ظهوره ماديا، و جعل كل واحدة منهن تحلق في عالم الأحلام غير المشروعة ويعشن في عالم متخيل، بأن ترتمي في أحضان هذا الرجل ولو للحظة، كلهن متعطشات للحظة حب، كلهن يحملن حقدا دفينا في صدورهن تجاه شقيقتهن، فهى الوحيدة التي ستعتق من هذا السجن بزواجها و خروجها من المنزل، أما بالنسبة لهن فلم تعد لديهن أدنى فرصة للفرار من هذا السجن الإجباري سوى اللجوء إلى الخيال المشوه المرضي .

محمد مكي

تناول المخرج المتميز (محمد مكي) لنص (شاذلي فرح) و نسج خيوطه الدرامية في إطار واقعي مغلف بغلالة رمزية منحته بعدا جماليا، فلجأ إلى تجسيد القهر الذي عانت منه الأم طوال سنين عمرها مما أدى إلى تشويه وجدانها وفكرها، وصارت تمارس هذا القهر على بناتها بزعم حمايتهن، في مشهد أدته بجدارة الفنانة القديرة عايدة فهمي وهى تسترجع مأساتها في ليلتي زواجها السابقتين، وقد اتفق المخرج مكي مع رؤية المؤلف شاذلي في صياغته لشخصية الأم فهى تبدو قوية وصلبة من الظاهر إلا أنها في حقيقة الأمر هشة مخوخة من الداخل، فكانت الإضاءة – من تصميم إبراهيم الفرن- غير موفقة في بعض المشاهد و لم تواكب الحدث الدرامي و تطور الشخصية، ففي مشهد الافتتاح ظهرت كل المجسمات مضاءة من الداخل، سيقان النخيل و زير المياه، فبدا المشهد و كأنه حفل عيد ميلاد، في حين لو تأخرت تلك اللحظة الضوئية و تلازمت مع مشهد الأم و استراجعها للحظة انكسارها كانت ستصبح أكثرتعبيرا لتلك المفارقة الدرامية للشخصية التي تتأرجح بين الضعف والقوة في آن واحد.
عبرت اللوحات الحركية الأدائية التي قام بتصميمها ببراعة الكريوجراف (محمد ميزو)، في التعبير عن الإحساس بالحرمان العاطفي و التطلع إلى الحرية لدى كافة الشخصيات في مشاهد مختلفة، فعلى سبيل المثال، في اللوحة التعبيرية التي جمعت بين الأم “فتحية شلقم” في حالة تماهي شديد مع بناتها الثلاث وتعطشهن للحب والحرية،”رسمية” الإبنة الكبرى المخطوبة لأحمد علي (أميرة كامل) ، و”روح محبات” الإبنة الكبرى من الزوج الثاني وهي تحمل حقدا شديدا تجاه رسمية لإحساسها بأنها هي الأحق بأحمد علي، علاوة على أنها تكتم حبها وعشقها له لدرجة الجنون ، أما الثالثة فهى “قوت القلوب”  (نسرين يوسف) أكثرهن جمالا وأنوثة وهى رمز للحرية والتمرد المطلق، يرفعن أيديهن إلى أعلى وتتشبث كل واحدة منهن بطرف جلباب أحمد علي فأصبحت على هيئة مظلة فوق رؤوسهن و بدأن في الدوران كحركة الرحايا لدرجة الذوبان ، لوحة بالغة الدلالة فهن مطحونات مسلوبات الإرادة خاضعات لتقاليد وعادات اجتماعية صارمة مقيدة لحقهن الطبيعي في الحياة والحرية .

و مع هذا الإغلاق المحكم على هذه الهيئة لم يعد يسمح إلا بوجود مخرجين، في حالة عدم قبول القانون المفروض من قبل الأم المتسلطة، إما الجنون وتمثله شخصية الجدة (ماريا خوسيفا) في نص برناردا ألبا للوركا التي ليست سوى الشكل المتطرف و الأعلى للهروب، وهى الشخصية التي لم يعد لها وجود في نص حريم النار لشاذلي فرح، وإما الإنتحار للإبنة الصغرى (أديلا) عند لوركا والذي يعد هو الأخر شكلا متطرفا للتمرد، والذي استبدله شاذلي بقتل “قوت القلوب” بشكل مأساوي برصاصة طائشة من الأم، وصارت النهاية مفتوحة لتأويل الجمهور، هل عن قصد أم بدون قصد، لأن “قوت القلوب” من وجهة نظر الأم “فتحية شلقم” مخطئة، وإن لم تعترف بذلك، كلهن يعرفن الحقيقة ولكن لمن يعلنونها. من ذا الذي سيحاول التمرد من جديد في منزل أصبح على وشك الإنهيارفي بحر جديد من الأحزان .
وكما سبق ولغى المؤلف (شاذلي فرح) شخصية الجدة برغم أهمية وجودها الدرامي، قام أيضا بإلغاء شخصية الخادمة الثانية التي كانت تقوم بالأعمال المنزلية الشاقة في النص الأسباني ولم يمنحها لوركا اسما لأنها رمزا لشريحة اجتماعية عريضة مهمشة مغلوبة على أمرها ويمارس عليها القهر باستمرار، واكتفى  بشخصية واحدة فقط وهى “وردانة “، و نظيرتها في النص الأسباني “لابونثيا” وهى قريبة من عمر برناردا وتحمل كل أسرار المنزل و من فيه أيضا، والتي كانت تمارس كل القهر الذي يقع عليها من سيدتها برناردا فتنفسه و تسقطه على  رأس الخادمة .
نجح المخرج (محمد مكي) في اختيار عناصر العمل المختلفة بعناية ومهارة فائقة وبوجه خاص عنصرالتمثيل ، فأجاد توزيع الأدوار على الممثلات فتألقت الفنانة القديرة (عايدة فهمي) في تجسيد شخصية الأم “فتحية شلقم” ، أدتها أداء واعيا بأبعادها النفسية المركبة ، أمامها الفنانة القديرة (منال زكي) في دور الخادمة “وردانة” ، والتي جسدت ببراعة بمفردها إحساس تلك الشريحة الدنيا المضطهدة والمهضوم حقها ، أما البنات فكل واحدة منهن أدت دورها بفهم واقتدار، فالإبنة الكبرى “رسمية” المخطوبة لأحمد علي، أدتها (أميرة كامل) بوعي بأبعاد الشخصية فجاء أدائها هادئا واثقا لأنها الوحيدة التي ستعتق من هذا السجن ، أما الفنانة (عبير لطفي) والتي قامت بتشخيص “روح محبات” الإبنة الكبرى من الزوج الثاني فانصهرت مع الشخصية لدرجة كبيرة فجاء أدائها ملتهبا ساخنا انعكس على نبرات صوتها فبدا كألسنة من اللهب ، أما الإبنة الوسطى “رئيسة” (نشوى إسماعيل) ، بدت كفراشة منطلقة في الفضاء تنشد الحرية والحب بأسمى معانيه تحمل بين ضلوعها عاطفة أمومة تسكبها بين الحين والأخر على شقيقتها الصغرى ، أما الإبنة ما قبل الصغرى “قوت القلوب” (نسرين يوسف) ، الزهرة البرية العاشقة لأحمد علي وأكثرهن شبابا وجمالا وأنوثة، المتمردة على القيود و السجن المفروض عليهن ، وهى الوحيدة من بين أخواتها التي تجرأت و حولت حلمها و شوقها للحب إلى فعل ، أدت دورها بوعي وفهم عميق للشخصية فتألقت ، أما الإبنة الصغرى “طير البر” (أمينة النجار) البالغة من العمر خمسة عشر سنة فهى مازالت طفلة تتمتع ببراءة الأطفال ،وفي حدود أبعاد الشخصية الدرامية أدت دورها بفهم و سلاسة و مرونة .

أجاد (د.محمد سعد) صياغته التشكيلية لديكور المنظر فأضفى على الفضاء المسرحي أجواء البيئة الصعيدية بتفاصيلها الدقيقة مما خدم الدراما جماليا . اجتهدت مصممة الأزياء (شيماء محمود) بلمساتها الرقيقة بمنح الشخصيات الملامح التي تميز كل شخصية مع حرصها على الاحتفاظ بخطوط الزي الصعيدي سواء في مشاهد الحداد وغلبة اللون الأسود عليها أو بعض المشاهد التي تخللها اللون باستحياء بما يحمله من دلالات واضحة ، إلا أنها أخفقت في اختيارها للون الأبيض لزي “قوت القلوب” في المشهد الأخير، لأنه لم يعد يحمل معنى النقاء والطهر والعفة، بعد أن اعترفت على الملأ بشكل استفزازي أنها تعشق خطيب أختها و وهبته نفسها . أما العنصر الثالث في تكوين الصورة السينوجرافية وهى الإضاءة والتي قام بتصميمها بحرفية عالية (إبراهيم الفرن) مراعيا للحظات التأزم الدرامي التي تمر بها الشخصيات إلى أن تصل في نهاية الأمر إلى انهيار تام بإسقاط مؤثر ضوئي كألسنة من النيران تلتهم كل ما هو موجود في الفضاء المسرحي .  كماجاءت موسيقى وألحان (محمد حسني) مواكبة للعناصر الجمالية الأخرى ، ونابعة من البيئة الصعيدية و مؤكدة على الخط الدرامي .
في ظل قيادة واعية و إدارة حكيمة لمدير فرقة مسرح الطليعة المخرج شادي سرور، فمنذ توليه هذا المنصب وهو حريص على انتقاء العروض المسرحية بعناية فائقة لتقديمها في فضاء مسرح الطليعة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت