عناصر التأليف الموسيقي في العرض المسرحي (الجزء الثاني: اللحن (Melody))/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني

يكون اللحن الجزء الثاني من حيث الأهمية والاشتغال والوظيفة الدرامية في تأليف موسيقى العرض المسرحي او في الموسيقى التصويرية بصورة عامة, وهو احد العناصر الأساسية المكونة للموسيقى التي انبثقت ونشأت من الطبيعة البشرية الأولى، اذ كان الإنسان الأول يعتمد على هذا العنصر في تقليده لأصوات مختلفة من الكائنات في الطبيعة رغبةً منه في دعم أفعاله الحياتية وصراعاته اليومية لذلك عرف الإنسان  الأول المقامات والإيقاعات وقد ظلا حتى الآن يمثلان أهم عناصر الموسيقى، والإنسان يتأثر بالموسيقى عن طريق الحواس بشكل مباشر فيشعر بعنصر الإيقاع الذي ينبع أصلا من حركاته التي يمارسها أثناء أفعاله اليومية ويستمع بالخط اللحني (النغم) الذي يتحول إلى معان وتعبيرات يفهمها بحسب نوعية العمل الموسيقي، وبهذا فأن الصوت الموسيقي انبثق من الطبيعة إلا أن الإنسان طور هذا الصوت ووظفه في أُمورهِ الحياتية ليعالج به الأزمات والعقبات التي تصادفه في مجمل حياته وأن يكون سنداً ودعماً له في الصد من هذه الأزمات والعقبات لذلك كأن الصوت المنغم يعد من  أهم العناصر المتميزة المرتبطة بمضمون الفن الموسيقي .
ولهذا الصوت عناصر أساسية في الموسيقى هي:

  • الدرجة الصوتية (pitch) : أو ما تسمى في بعض الأحيان بالطبقة الصوتية وتشير إلى الارتفاع النسبي أو الانخفاض النسبي لصوتٍ ما من حيث الحدة والغلظ مما يؤدي إلى التميز بينهما وهذا الإحساس بالدرجة الصوتية هو دالة التردد الذي نسمعه، وبالتالي إن توافقها مع العرض المسرحي حين مرافقتها أداء الممثلين يتطلب انسجاماً وتوافقاً مع الحوار لتكون أداة داعمة بطريقة رصينه وعلمية من خلال تحديد المؤلف الموسيقي الطبقة الصوتية لكل ممثل الذي ترافقه الموسيقى .
  • الطابع أو ما يسمى بالجرس (timbre): يضيف الجرس خصوصية النغمة أو يبرز نوعيتها أو لونها لذلك فأن لكل صوت لوناً معيناً سواء كأن موسيقياً أو بشرياً، فمثلاً نغمة البيانو تختلف عن نغمة الكمان، لذلك فأن جرس الصوت هو الذي يميز بين الآلات الموسيقية المختلفة وأن كانت متحدة النغمة وعدد ذبذباتها واحدة، كما في حالة التميز بين الألوان الصوتية لكل من العود، التشيللو والصوت البشري، وذلك لاختلاف الموجة الصوتية لكل منهما واختلاف طبيعة ونوع الآلة والصوت الصادر منهـا، وهنا يظهر دور المؤلف الجيد الذي يختار أفضل الطرق لاختيار اللون الصوتي المناسب لكل آلة من الآلات المختلفة، للتعبير عن المعاني والأفكار والصراعات التي يقصدها في مخيلتهِ، ومدى ملائمتها وانسجامها وما توفره من دعم حقيقي للصراع الدرامي حين مرفقتها العرض المسرحي .
  • استمرارية الصوت أو ديمومته (duration): وهذه الاستمرارية تشير إلى المدى الزمني الذي يمكن أن تسمع نغمة معينة من خلاله .
  • شدة الصوت (loudness) تشير شدة الصوت إلى قوة النغمة الظاهرة والواضحة التي ندركها ونتحسسها من خلال قوتها وشدتها أو نعومتها وهدوئها وثم صعود الصوت (attack) وهبوطه (decay) أو الارتفاع والانخفاض ويقصد به الصعود مدى السرعة بالصوت إلى مستوى من الشدة أو الخفوت به إلى مستوى يصبح به الصوت غير مسموع وبهذا تنصهر هذه العناصر في جوهرٍ واحد هو (اللحن).

وفي ضوء الصوت الموسيقي في العرض المسرحي فأن الأمر يختلف عما في الموسيقى المطلقة، لذلك فإن المؤلف الموسيقي يحدد الألحان التي يختارها لتمثل رؤيته الفنية والفلسفية المناسبة في دعم أداء الممثلين وصراعاتهم وتعزيز فكرة العرض حيث عمد (فاجنر) إلى أن يرمز لـكل شخصية بلحن دال أو عدد من الألحان الدالة, وكانت هذه الألحان تكرر وتتداخل في حوار وصراع درامي عظيم، فاللحن الدال يدل على الشخصية ويفسر انفعالاتها، ليعبر عن حالة من تدل علية وكأن تطويره لألحانه الدالة وسيلة يستخدمها كمؤشر نفسي لتطور شخصية البطل الذي يدل عليه اللحن, لذلك فأن المؤلف الموسيقي يدرس الشخصيات ويستلهم فكرة العرض من خلال رؤية المخرج المسرحي ليتسنى له أن يدرك مديات وأبعاد الشخصيات وهدف وفكرة الصراع لأن صياغة الألحان في العرض المسرحي ينبغي أن تكون بمثابة قراءة لجو العرض وأن ترسم الخطوط أمام الشخصيات وتطورها وأن يكون اللحن مرتبطاً بالشعور، إذا كأن الإيقاع  متصلا في أذهاننا بالحركة الطبيعية، فتصور اللحن عادة يصاحبه في الذهن فكرة تتصل بالشعور، وبما ان اللحن هو عبارة عن ترتيب وتتابع بضع نغمات وجمل موسيقية قادرة على أنتاج وتكوين فكرة لحنية يمكن تشخيصها من خلال أدائها غناءً أو عزفاً، فأن لكل لحن مداه الصوتي الذي يحدد بأعلى وأخفض نغمة في مساره الأفقي (ميلودي) هو الذي يحصر جميع النغمات المستعملة في اللحن، وأن للصوت أهمية في صياغة الفكرة الدرامية لموضوع العرض المسرحي وهذا ما حدده آبيا في قوله : (أن ألأصوات الموسيقية تصبح مصدراً للفكرة الدرامية  إذ أنها تستطيع أن تترجم أفكار ومواضيع عندما تكون مع صورة العرض المسرحي أو عندما تكون مسايرة للأحداث والصراعات الدرامية أو عند مرافقتها أداء الممثلين على خشبة المسرح، وبالتالي تعكس طبيعة تلك الفكرة وتزيد من جمالياتها وتماسكها).
أن صياغة وابتكار الألحان التي ترافق العرض المسرحي لدى المؤلف الموسيقي تتطلب خبرة ودراية في الجانبين المسرحي والموسيقي لأن مهمة التأليف الموسيقي يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار التعامل مع روح العصر، وتحمل مسؤولية الارتفاع بالعمل المسرحي أو الهبوط به من خلال ابتكار الموسيقى الملائمة للحدث وهذه المهمة لا يمكن بلوغها إلا عن طريق الخبرة الممكنة والمتواصلة أو المقدرة على التمييز بين الألحان الضعيفة والقوية التي تصاحب العرض، لذا فأن المؤلف الموسيقي عند صياغة الألحان يسعى إلى هدف جمالي يدعم به الفعل المسرحي ويعزز من دور الصراع الدرامي ومن خلاله يستطيع أن يقدم فكرة اللحن بصورة جمالية مشوقة عندما تتجانس مع عناصر العرض الأخرى التي تسعى إلى تقديم العرض بصورة جمالية لذلك فأن دور الموسيقى يقتصر على التعبير من خلال المضمون المحدد لألفاظ  الدراما التي تصاحبها وهنا اللحن يتقيد بالمضمون الذي يعبر عنه النص المسرحي اذ يصبح اللحن في خدمة فكرة النص ورؤية المخرج، فعندما يتجانس اللحن الموسيقي مع الصراع الدرامي وضمن إيقاع منظم عندها ندرك ذلك الصراع ونفهم صورة وفكرة العرض بسهولة، لذلك على المؤلف الموسيقي تدبير الحلول لانسجام العرض المسرحي مع صورة اللحن بحيث يجعل المتلقي يشعر بأن الألحان الموسيقية تمثل اتجاهات الفعل المسرحي وصراعات الشخصيات وهما عنصران من عناصر الصراع الدرامي، وبالتالي يزيد اللحن الموسيقي بالعرض المسرحي من الحركة الانفعالية المبررة للشخصيات المسرحية وصراعاتها، وبهذا فأن التفاعل بين اللحن الموسيقي والصراع الدرامي هو مجال المؤلف الموسيقي الذي يقوم بتأليف الألحان المناسبة للعرض بصورة منسجمة وداعمة ومتكاملة مع العرض المسرحي وفي كيفية الاختيار للمقامات والتنقلات والزخارف اللحنية التي تشكل مجمل الصورة المسرحية، لذلك فأن لمؤلف الموسيقي يقدم لنا العديد من مظاهر الاحتكاك المقامي، والتي تبرز بدورها الإثارة والتشويق، ولعل ذلك ما يماثل الاحتكاك والصراع بين الشخصيات في العمل المسرحي بهذا فأن حرية المؤلف الموسيقي تلعب دوراً كبيراً في إبراز معنى الصراع وتحديد معالمه، لأنه يستعين بأدواته الفنية ومهاراته لينتج منها ولادة فكرة جديدة تناسب العمل الذي طرحت لأجله هذه الفكرة اللحنية الجديدة.
وهذا ما حدده (هيجل) عندما رأى أن الموسيقى التي ترتبط بنص أو موضوع فأنها تعلو على موسيقى الآلات، لأن إضافة اللغة بوصفها تعبيراً عن العقل إلى الحركة الشكلية أو الصورية التي يضيفها الإيقاع  على اللحن، تصبح الموسيقى حافلة بالمعنى بعد أن كانت خيالية، وتغدو محددة المعالم بعد أن كانت غامضة فتصبح عقلية بعد أن كانت انفعالية خالصة، وبهذا أصبح اللحن الموسيقي ينقل المعنى ويحدد المعالم للعمل الفني، واللحن يعكس الصراع بين حرية خيال المؤلف الموسيقي وإطلاق العنان لهُ، لذلك فأن اللحن الموسيقي يجعل غايتهُ تتطابق مع مضمون الموسيقى المرافقة للعرض، من حيث إن دورها يقتصر على التعليق والتعبير من خلال فحوى الدراما التي ترافقها.
لذلك فإن المؤلف الموسيقي الذي يبتكر وينظم اللحن يجعله قائماً ضمن فكرة لحنية معينة تدعم الصراع الدرامي وتعزز الفعل  المسرحي لذلك يقول بتهوفن أنني احمل أفكاري معي قبل تدوينها، حيث تحتفظ ذاكرتي بالفكرة اللحنية وكذلك يرى (هيجل) و(شوبنهاور) إن اللحن وحده مصدر الإبداع، لذلك فالمؤلف الموسيقي في العمل المسرحي له مكانه تسهم في عملية الإبداع الفني من خلال الانسجام والتوافق في المؤلفات الموسيقية ودعمها لأشكال الصراع الدرامي وأنواعه في العرض المسرحي .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت