الشكل أو القالب الموسيقي (الجزء الثالث)/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
هو ثالث عناصر التأليف الموسيقي في العرض المسرحي :
أننا محاطون بالأشكال والصور وبتصاميم متنوعة ومختلفة ومتفرعة، ولكل شكل من هذه الأشكال له ميزاته وخاصيته منها الصلبة ومنها السائلة ومنها الغازية …الخ، إلا أن الفن يختلف في صياغة وابتكار الأشكال فهو ينطلق من تغيرات عديدة حسب جماليته وذوقه الذي يطمح أليه، وبواسطة أدواته الفنية التي يستعين بها في تصوير تلك الأشكال، وغالباً ما تكون هذه الأشكال مستمدة من الطبيعة إلا أن الفنان يخلق لها معنى ليتسنى للمتلقي أن يفهمها ويتلقاها من خلال مادتها وبهذا يكون الشكل مادة إبداعية لذلك الفنان .
فالشكل هو صورة الشيء وهيئتهُ الخارجية دون المضمون، وهو النظام الذي يبعث الحياة في تكوين العمل الفني فـالشكل هو الذي يصبغ العمل بمعناه وبعلة وجوده وبحياته، ولكن هذا الشكل ليس مرئياً بالضرورة.
يعمل الشكل على تنظيم العلاقات بين الأجزاء اللحنية في العمل الفني ويساعد في ربطها وتماسكها، لذلك سعت الموسيقى بوجه عام ومنذ البدء، إثارة مشاعر جماعية، وأن تكون محرضاً على العمل والسرور في أعياد الخمر أو الحرب، وكانت الموسيقى وسيلة إذهال أو إثارة للحواس واستخدمت لجعل الكائنات البشرية في حالة مختلفة، لذلك ظهرت هذه الألوان والأشكال والصيغ المتعددة لدعم نوع العمل الذي ترتبط به، وبهذا أصبحت مسألة اللون أو الشكل في الموسيقى من المسائل الضرورية والهامة لكـــل عــــمل فنـــي، وغالباً ما تتحكم ظروف العصر والأفكار والتقاليد والأعراف الاجتماعية والسياسية والدينية والبيئية بالقالب الموسيقي لأن كل قالب موسيقي له وسيلة أدائه الخاص التي ترتبط أيضاً بتقاليد العصر المميز له، وبمدى التطور الموسيقي العلمي السائد فيه، ومدى تطور صناعة الآلات الموسيقية ونوعياتها لذلك ظهر للقالب أو الشكل الموسيقي أجزاء تتحدد أسماؤها ووظائفها كالآتي:
1/العرض: وهو الطرح الأول لكل مقطوعة موسيقية .
2/ الواصل: وهو عبارة عن الرابطة الموسيقية الصغيرة التي تربط بين اجزاء العمل الموسيقي المختلفة والرئيسية.
3/ الإعادة: وهي عملية لعرض تكراري يساعد على تناسق الشكل الموسيقي وانتهائه.
4/ المقدمة: وهي بناء موسيقي يسبق جزءاً ما من الأجزاء .
5/ الخاتمة: وهي عبارة عن بناء موسيقي يأتي بعد انتهاء القالب الموسيقي الأساسي.
ومن خلال ما تقدم يرى الباحث أن للموسيقى أدوات وأساليب وأشكال للإبداع متأثرة ببعض ومتداخلة ببعض، لذلك فأن كل ما تفرزه الموسيقى من نتاج يبقى في تكوينه العام مجرد (شكل) وهو بمعنى القالب أو الصيغة اللحنية للمؤلف الموسيقي، وأن هذا الشكل هو نتيجة لفكرة ما، وهذه الفكرة هي التي تقودنا إلى مضمون الموسيقى، رغم أن المضمون في الموسيقى يخضع لمعطيات الإيحاء والانطباع وهذه العملية هي نتاج البحث في الصورة الموسيقية لذلك فأن عملية البحث عن شكل الموسيقى تتطلب تحليل للترتيب الذي يسير علية المؤلف الموسيقي في صياغتهِ لموضوعاتهِ اللحنية الرئيسية، وفي تنقلاتهِ بينها وبين ما ينسجهُ حولها من استطرادات، بحيث يكفل لعملهِ الفني تنوعاً حياً، ويضمن لهُ في نفس الوقت وحدة شاملة، فالشكل الموسيقي يظهر بصور متعددة من خلال القوالب والمقامات الموسيقية وطرق استخدامها وزمانها ومكانها.
فعند الإنسان الأول كانت الموسيقى تظهر بأشكال تبتعد عن وضيفتها الفنية، إذ استخدمها بصور تخدم أغراض السحر وتبتعد عن وظيفتها في الترويح أو التثقيف ولهذا فأن دور الموسيقى في هذه الفترة اقتصر في دعم أعمال الشعوذة والسحر، ومبتعدة عن دورها الفعلي في التثقيف والترويح والإبداع، إلا أنه في مرور الزمن بدأ يفهمها ويوظفها بشكل يدعم به أعماله وحاجاته اليومية، إذ كانت هي الملاذ الآمن له من الخوف والذعر والتوتر وبهذا أخذت الموسيقى شكلاً داعماً لظروف حياته وما يتلقاه من خوف وتوتر.
لذلك فأن لكل عمل موسيقي شكله ولونه وطابعه الذي يتميز به عن الأعمال الأخرى وغالباً ما تكون هذه الأشكال الموسيقية حسية لا ندركها إلا عند سماعنا لتلك الموسيقى، لأنه تستخدم ألوان حسية أخرى نراها بآذاننا في التلوينات الأوركسترالية أو الضلال التعبيرية أو من خلال المقامات والأنتقالات بينها وتتكامل هذه الألوان والأشكال بالتوافق والتعارض والتنافر على حد سواء من خلال صياغة الفكرة اللحنية للمؤلف الموسيقي وبالتالي يخلق هذا التعارض والتنافر صراعاً موسيقياً يرسم شكل التأليف الموسيقى بوضوح.
ويُستنتج من ذلك أن تتعدد الأشكال الموسيقية بتعدد الأفكار لدى المؤلفين الموسيقيين، لذلك فأن الباحث سيركز على معرفة الأشكال والقوالب الموسيقية التي ترافق العرض المسرحي والشكل الموسيقي لا يقصد به الطريقة التقليدية لكتابة السيمفونيات والكونشرتات والسوناتات وغير ذلك من الاشكال الموسيقية، بل يقصد به طريقة كتابة المؤلف مبتدئين من أصغر خلية موسيقية متكونة من تتابع عدد محدود جداً من التونات وإلى طريقة التحام هذه الخلايا بعضها ببعض لتكون بعد ذلك الجسم الموسيقي كوحدة فنية ذات كيان واضح المعالم.
لذا فإن التأليف الموسيقي في بعض أدوارهُ يلتقي في سياقات معينة مع فنون المسرح، فمثلاً الشكل أو القالب يمنح الموسيقى صورة واضحة تعبر عن نفسها ويسهم في ترتيب وتنظيم صورة القطعة الموسيقية، مما يعطي صفة الموسيقى وشكلها ومضمونها ويحقق التناغم والانسجام بعناصر الموسيقى والتي تسهم في بناء وتشييد العمل الفني، أما في المسرح فأن شكل المسرحية يختلف من حيث صيغته وعناصره فهو يشتمل على اللغة التي تكتب بها المسرحية أولاً، وبناء الأحداث وتركيبها ثانياً، وتكوين الشخصيات وعلاقاتها ثالثاً، ويأتي بعد هذا تجسيد تلك العناصر على خشبة المسرح في العرض المسرحي الذي يتخذ أسلوباً معيناً يتفق مع مضمونها ومع طبيعة تركيبها رؤية المخرج لها ومن خلال هذه المعطيات تتحدد أشكال المسرحية، وكذلك تساهم التشكيلات الحركية والفنية والسينوغرافيا في رسم معالم الشكل المسرحي من خلال التنظيم والترتيب والتناغم بين عناصرها أي أن الفضاء المسرحي هو الجزء الوحيد من خشبة المسرح القابل لإعادة التنظيم والترتيب وتستطيع الحركة تحقيق التناغم بين جميع عناصره ومن ثم يمنح هذا الفضاء شكلاً جديداً يعكس من خلاله صورة العرض، أما الشكل أو القالب الذي تقدمه الموسيقى بوصفها موسيقى خالصة يختلف تماماً عما تقدمه الموسيقى التي ترافق العرض المسرحي، ففي الأولى لا تعبر الموسيقى عن الأشكال أو الصور لأنها تعبر عن الإرادة ذاتها، لذلك يقول (شوبنهاور:أن الموسيقى ليست كالفنون الأخرى نسخة من المثل ولكنها نسخة من الإرادة ذاتها) أما الأمر الثاني الذي يتعلق بالمسرح فأنه يتطلب إلى صياغة جديدة ودراسة ودراية لمفهوم الشكل الموسيقي الذي يرافق العرض وبالتالي فأن الألحان التي تصمم أو تبتكر لغرض العرض المسرحي تأخذ بنظر الاعتبار الشكل المسرحي النابع من فكرة العرض وأن تكون داعمة لشكل الصراع الدرامي وإلا فأنها باتت غير ملائمة وغير منسجمة مع صورة وشكل العرض.
ولنأخذ (قصيدة الذكرى الثالثة عشرة لموت لينين) لـ(هانس ايسلر)، فالطريقة الجديدة والأصيلة التي عُبّر بها هنا عن المأتم، لتفسّر من جديد، أهمية العناصر المحسوسة والمحددة اجتماعياً في الموسيقى إذ رسم شكلا اجتماعياً للموسيقى ليتناسب مع صورة وشكل الصراع الدرامي، ولا ريب في أن (ايسلر) كأن يستند إلى نص أساسي، هو نص(بريشت) الذي يطرح كل أثر تقليدي مما يحرك العواطف، ومع ذلك فأن مهمة المؤلف الموسيقى كانت صعبة، إذ كيف يُبكى لينين؟ فالجواب على هذا السؤال بشكل موسيقي لا يتطلب نبوغاً وحسب، بل يتطلب أيضاً درجة عليا من الوعي، كما يتطلب تجربة فنية واسعة جداً، في مجال الموسيقى والمسرح فعلى المؤلف الموسيقي، قبل كل شيء أن يرى بوضوح، العثرات التي يجب أن يتجنبها ليرسم بعد ذلك شكل الموسيقى الذي يتلاءم مع شكل الصراع الدرامي، وأن لا يكون هذا الشكل هو قراءة لموضوع أو فكرة أُخرى، فمأتم لينين يجب ألا يكون له أي قدر مشترك مع التأثر الديني، كون المأتم يأخذ شكل الحزن، وألاّ يستولي الترتيل الديني ولا التوشيحة المستمدة من فن الباروك، بل أن يجد الشكل الصحيح الذي ينبغي أن يكون داعماً لشكل الصراع الدرامي في هذا المشهد لأنه يشكل حلاً لقضية ويساهم في دعمها.
لذلك يدخل القالب الموسيقي كعنصر مهم في زيادة التعبير الموسيقي الداعم للصراع الدرامي في العرض المسرحي الذي يحقق بدوره التناغم والانسجام بين شكل العرض وموسيقاه.
لذلك أصبح التأليف الموسيقي ذا موقع هام بين فنون المسرح، حيث أخذت الألحان التصويرية (أي المؤلفات الموسيقية التي ترافق العرض المسرحي) تلعب دوراً ضرورياً في تشكيل وتحقيق العوامل المؤثرة في نتاج وشكل العرض المسرحي، ومن ثم فأن الشكل الموسيقي يتحدد وفق شكل وحاجة فكرة العرض المسرحي من خلال الرؤية الفنية والفلسفية لمفهوم العرض ومتطلباته.
وهذا ما يحدده المؤلف الموسيقي الذي يرسم ملامح عمله الموسيقي عبر رؤيته وخياله في ابتكار الشكل الموسيقي الذي يناسب شكل العرض، وهكذا تكون علاقة الشكل الموسيقي مرتبطة بعلاقة التابع بالمتبوع، أي أن يكون الشكل الموسيقي تابعاً للشكل المسرحي والقصد هنا هو ليس الشكل الخارجي فقط بل في شكل الأفكار التي يحملها العرض ليحقق بذلك التجاذب والتصادم والصراع، لذلك فأن إدخال الموسيقى إلى الدراما قد أحدث انقلاباً في الأشكال التقليدية، وبهذا فأن القالب الموسيقي يسعى إلى إبراز شكل العرض بشكل منظم وجمالي وأن يعالج الفكرة اللحنية التي ينسجها المؤلف الموسيقي عبر الرؤية الجمالية والفكرية لأن القالب الموسيقي هو الشكل والإطار الذي يضم التنظيم العلمي والجمالي للأفكار اللحنية ومعالجتها, أي الشكل الذي يشتمل المضمون، ويبدو أن هناك مجالين يعمل بهما هذا العنصر، أحدهما الجانب العلمي وهو المعرفة الحقيقية بكيفية أنشاء ذلك القالب وهذا الأمر يتطلب دراية ومعرفة بعلوم الموسيقى واستخدامها وتحليلها، والجانب الجمالي الذي يُمثل جانباً تأملياً فلسفياً يُفسر الشكل الموسيقي على أنهُ لغة تعبيرية تنسجم وتدعم الفعل المسرحي، وعليه فأن المؤلف الموسيقي يأخذ بنظر الاعتبار التعامل مع العناصر الموسيقية وأن يصهرها في قالب موسيقي قادر على إبراز وتفعيل الشكل المسرحي لأن هذه العناصر تنتظم من خلال التخطيط للشكل في العمل الموسيقي، أي أنها تنضم وتتجمع وتمتزج في داخل القالب الموسيقي الذي يقوم المؤلف بصياغته حتى يصبح العمل هادفاً ومتكاملا وممتعاًً، ليصل إلى الإبداع الشكلي من خلال وسائل التعبير، وهو بالضبط القادر على أن يشكل أحياناً صفة الأثر الجمالي والإبداعي في العمل الفني.
المصادر الأجزاء الثلاث :
1/إرنست فيشر، ضرورة الفن،مقال منشور في الانترنت(الشكل والمحتوى في الموسيقى).
2/ ارون كوبلاند، كيف تتذوق الموسيقى .
3/ اسعد محمد علي، بين الأدب والموسيقى .
4/ افثير زيس، فن الموسيقى،ترجمة :حسين جمعة، مجلة الفنون، وزارة الثقافة.
5/ ثروت عكاشة،الزمن ونسيج النغم،ج14.
6/ جيلان احمد عبد القادر،الإيقاع عنصر تعبيري في موسيقى عصر الباروك، مجلة: عالم الفكر.
7/ سامي عبد الحميد،أضواء على الحياة المسرحية في العراق.
8/ سيد شحاتة,علم جمال الموسيقى.
9/ طارق حسون فريد، مع الموسيقى العالمية.
10/ علي عبد الله ،الموسيقى التعبيرية .
11/ فكتور بابينكو، تحليل القوالب الموسيقية .
12/ فؤاد زكريا ،مع الموسيقى ذكريات ودراسات.
13/ فوزي الشامي ،قضية المقارنة الموسيقية.
14/ فيسيفولد مايرخولد، في الفن المسرحي،ترجمة: شريف شاكر،ج2 .
15/ ميسم هرمز،عنصر الإيقاع واللحن في الموسيقى والغناء،مجلة الأكاديمي،العدد(55).