الفضاء الدرامي وتحولاته في الأبنية الدلالية/ حيدر جبر الاسدي

قراءة في نص “بعيدا عن السيطرة” للكاتب السعودي ( فهد ردة الحارثي )

 
ميز النقد المسرحي الحديث بشكل عام بين الفضاء الدرامي والمكان المسرحي على اساس ان (الأول هو نتاج مخيلة الكاتب المسرحي ويعد فضاءً مجرداً على القارئ أن يشيده عبر مخيلته ليحدد من خلاله إطار تفاعل الحدث والشخصيات وهو يحتاج إلى مكان مسرحي اياً كان شكله)[1] ومن هنا نجد تشكلات الفضاء الدرامي تختلف في مستواها من نص لآخر، فبعض النصوص تجدها تتحرك ضمن مساحة تخيلية واسعة تغور في أعماق سحيقة لتظهر لنا صورا وتكوينات دلالية، وتؤسس لها نسقا تفاعليا وجماليا، تنفتح من خلال ذلك بوابات تأويلية، وان كانت تندرج ضمن الافتراضات، إلا أنها بمحرد مراجعة متأنية تقترب من النسق المخبوء والمتواري خلف المعاني او الواجهات المتمظهرة التي ساقها المؤلف عبر إنشائياته اللغوية وسياقاته اللفظية، التي تحاول أن تهدم السرديات التقليدية، لتبني معماريات نصية ذات قصدية تتسق بمخيلة القارئ، وتمنح لنفسها ابنية من التكوينات الجمالية، فيما لو وضعت في قوالب تجعلها تستنطق الأبنية الدلالية الكامنة في مستودعات خزانتها الإنتاجية، اما البعض الآخر تجدها منكفأة على نفسها حينا وبالتالي تأخذ صفة الانغلاق في خطوطها المتوازية والمستقيمة، أو انها مكشوفة لا تعدو أن تكون سوى جملاً اوكلمات مركبة بلا فائدة، لذلك فإن القارئ يُمسك بمبثوثات النص منذ اللحظة الأولى للقراءة، وتحديدا في المدخل الذي يحدث حالة من التوحد والانجذاب، أو بالعكس حالة من النكوص والتردي او ربما الإهمال في بعض الاحيان، وعلى ضوء ما تقدم فان قراءة نص (بعيدا عن السيطرة) للكاتب السعودي ( فهد ردة الحارثي ) وهو ضمن مجموعة مسرحية شملت عدة نصوص تحت نفس العنوان، فإن النص يمسك بك حيث تجد أن ثمة نمطا بنائيا يغادر المتداول ويبحث في انساق تُربك فعل التلقي، وتوخز ذهنه ليبحث القارئ عن تأويلات للتأثيثات المشهدية التي صممت ضمن إطار الفصل الواحد.
أن اندماج الصورة المتخيلة التي تتشكل أثناء القراءة تحيلك إلى أن جمل النص كتبت بقصدية دقيقة، وبخيال يتقاسم فيه التكوين الصوري بين ( المؤلف/ المخرج) في آن واحد فيصبح المؤلف مخرجا والمخرج مؤلفا، حين تتجول في التصاميم المشهدية وهي عبارة عن مقاطع متلاحقة تكتشف فكرة النص ثم تشتبك مع الاشتغالات والتوليدات التي تفرزها عناصر النص، فإنك ستنبهر في الثيمة المركزية وبنياتها والتي تتمحور حول الاستاذ بوصفه كاتبا، شاعرا روائيا… الخ، متنوع الانتاج الفكري والادبي والفني، حيث تقوم المجموعة المؤلفة من ثلاثة ممثلين باستخراج الشخصيات الغائرة في عمق ذلك النتاج لتبدأ عملية محاكاة الواقع المجتمعي الذي يدور في خلد الاستاذ عبر هذه الشخصيات التي تشكل محمولات فكرية ودلالاتها ستتضح فيما بعد ومن بين هذه الشخصيات (ابو عبدة، ثابت حفار القبور، نبيل ، حجي محمود وغيرهم) وبعد الاستدعاء ترفض هذا الشخصيات العودة إلى ما كانت عليه في نتاجات الاستاذ مما تضطر المجموعة التي تتألف من ثلاثة أشخاص بتقمص دور هذه الشخصيات وينتهي النص على هذا النحو، اما المنهجية الكتابية التي تبناها (فهد الحارثي ) في هذا النص هو التحليل الرجعي للشخصيات بوصفها شخصيات مستعارة من أفكار طرحت في بطون الكتب لتتحدث عن ظواهر وحالات تأتي لاحقا، أو انها غير موجودة قبل لحظة الكتابة، وقد تكون هذا الشخصيات منفلتة لايستطيع المؤلف او غيره السيطرة عليها بأي شكل من الاشكال.
المتأمل في بنية العنوان الرئيسي للنص، سيجد في الوهلة الاولى للقراءة انعدام السيطرة على هذه الشخصيات كونها حاملة لأنماط فكرية تمثل شرائح مختلفة لكنك ما أن توغل في القراءة فإن الأمر يأخذك ابعد من ذلك، حيث يبدأ النص بتحريك الدهشة حينما تنظر إلى ست جمل ركحية، وهي جزء من السرديات الصورية التي تحاكي المخيلة، وتستنطق المعنى، إذ ( أن الية التعبير عن الحركة تعد أساسا مهما في المسرح وتجسيدا لعلاقات متميزة بين خشبة من جهة والصالة والجمهور من جهة اخرى، فالمسرح لا يمكن أن يتجسد إلا عبر حركة صورية مكانية او زمانية)[2] وبهذا استطاع المؤلف أن يجسد هذه الحركات كنتاج نصي بوصفها مقتطفات مستلة من حالات لها علاقة تأصيلية بالإسقاطات المعاصرة، الجملة الاولى (ممرات طويلة كل يمشي فيها دون توازن) الجملة الثانية (ثلاثة مسدسات لثلاثة اشخاص مسددة نحو الاخر، على شكل مثلث، ثم دائرة، ثم مثلث) الجملة الثالثة (دراجة تجوب المسرح) الجملة الرابعة (سلم يصعد عليه الممثل ثم يهبط) الجملة الخامسة (ممثل يحمل حقيبة يسير بصورة مسرحية يرفع بنطاله، يُصلح هندامه، يحمل حقيبة، يمشي) الجملة السادسة (صراع أجساد تقترب، وتبتعد). هذه الجمل الست هي ظواهر اجتماعية للواقع الذي يراه المؤلف من وجهة نظر الاستاذ الذي ربما يكون المؤلف نفسه، وقد جسدها في مؤلفاته، وهي بالتأكيد مستلة من اليومي المتداول الذي يعيشه الواقع العربي بكل تداعياته، ولذلك تجد ثمة تنوع في الجمل الحركية في دلالتها، فالأولى ربما تُعبر عن السير باتجاه مجهول بسبب عدم الوضوح، والثانية تعبر عن القتل وغياب القانون والثالثة قد تدل على التمرد والغوغاء، والرابعة قد تعبر عن الارتقاء،  وهكذا …حيث يحاول المؤلف تجسيد هذا الحالات، ثم ينتقل بسرديته الشاعرية والفلسفية ليؤثث المشاهد عبر اختياره نماذج من شخصيات الاستاذ (ام كريم تريد أن تترك المنزل، عرضت عليها  البارحة أن تبيع اثاثها في المزاد العلني)  ثم يصوغ نموذجا اخر(  ثلاثة صبية مروا من هنا)  ..حيث اوغل في التفاصيل اليومية بوصفها هموم وطن، بعد ذلك يحيلنا المؤلف إلى حالة اخرى وهي معالجة الطبقية في الثقافة وجدلية العلاقة بين الاكاديمي وغيره على مستوى الابداع حين ينقل لنا حوار بين استاذين اكاديميين ( لكنه صعلوك يادكتور، وهذا زمن العلم والشهادات، لازمن الصعلكة ) ثم يتناول شخصيات مختلفة من المجتمع  وهي شخصيات حالمة طيبة النفس تبحث عن خلاصها (كالحلاق وصاحب المطعم وصاحب الملابس وأخيراً ابو محمود صاحب المكتبة (مات ابو محمود وترك وصيته أن تكون المكتبة للأستاذ) وهي اشارة دلالية أن المكتبة هي من احقية المبدعين ولكن في ذات الوقت أن هذه المكتبة فيها من الكتب أن لم تحقق اهدافها فلا قيمة لها، تركها ابو محمود ولم تستطع أن تغير من واقعه شيء.
بعدها ينتقل المؤلف إلى شخصية اخرى ( ابو عبدة) الحلاق السوري ليعطي للنص صفة العمومية تلك الشخصية العنيفة المعروفة وهي تحلم بشارع ترابي نظيف كما يصفها المؤلف، ثم يحل ركاب نصه على المحطة الأخيرة عبر استدعاءه شخصية ثابت حفار القبور ليقرأ هذا العالم المهول وليصف بعض تفاصيله على لسان ثابت (استرجع كل شيء يعرفه، الاسماء، الوجوه، الحركة، وفعلها، تبدوا الاشياء كطقس خرافي، مزدحم جدا) تزدحم في هذا العالم كل المرئيات بوصفها شريط حياة مترامية الاطراف، تتضمن كما هائلا  من الذكريات بكل الوانها وفصولها ومتغيراتها، انها رحلة العمر يختمها المؤلف في عالم مخيف يحمل بين زواياه اسرارا تختزل سر الوجود، وكأن المؤلف طاف بنا كل تلك المحطات عبر محاكات لشخصيات الاستاذ ثم أنهى كل تلك الرحلة في هذا العالم بوصفه اللحظة البرزخية لكل ما مضى.
يمكن لنا من خلال ما سبق استعراضه أن نثّبت بعض المؤشرات النصية على وفق الاتي:
اولا/ استطاع المؤلف أن يؤسس معمارية النص بشكل مغاير عن غيره من النصوص، عبر إيجاد ثيمة فانتازية مثيرة للجدل وفيها اسقاطات معاصرة قرات الواقع العربي وما يحيط به من احداث على جميع المستويات.
ثانيا/تشكلت الصورة المسرحية من خلال مستويين: الاول كان عن طريق الركح في الجمل الاستهلالية او بعض المشاهد. والثاني من خلال السرديات اللغوية في السياقات والتركيبات اللفظية.
ثالثا/ انقسمت الشخصيات إلى نمطين: الأول بوصفها شواخص تحمل افكارا  دون أن تكون لها ابعاد، والثاني شخصيات حية مستلة من المجتمع معروفة الكينونة والأبعاد والاتجاهات.
رابعا/احدث النص حالة من التزاوج بين الشغل الادبي عبر لغته الرشيقة الشاعرية المتفلسفة وبين الاشتغالات الاخراجية عبر الملاحظات النصية، وقد أدى ذلك إلى انزياحات حركية انتجت دلالات مميزة، حيث شكلت (اللغة / الحركة) صورة بانورامية للأحداث.
خامسا/ استطاع النص أن يؤسس ابنية دلالية من خلال انتاجه للصورة القابلة للتأويل وقد استغرق في الفعل ليبني نظاما دلاليا واسعا.
سادسا/ اشتغل النص على ايماءات الممثل واعتمد على المجموعة فعضد من اتساع الفكرة وحاول أن يشتغل على الصراع الداخلي والبواعث النفسية ويفيد من سيرورة الحركة في النص،فالحركة هنا بوصفها( مجموعة من انساق بنائية كالنسق اللفظي، والنسق الحركي، والنسق التكوين، والتركيبي)[3].
 
الهوامش

  1. عواد علي: النقد المسرحي العربي يعاني من فوضى المصطلحات، مجلة العربي، العدد ١١٤٢٩ لسنة ٢٠١٩.
  2. منقول من مقال المسرح والتشكيل الحركي، الشطرنج للإعلام، ٢٠١٧.
  3. منقول عن مقال الحركة على خشبة المسرح، المسرح ابو الفنون.

حيدر جبر الاسدي

حيدر جبر الاسدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت