الأثر النفسي لجماليات الموسيقى/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
الموسيقى هي ابنة الملامح الصامتة ووليدة العواطف الكاشفة عن نفسية الإنسان الواعي لحقيقة ما، وما أطرف الالتقاء أن يكون في شيئين يكاد يكون الواحد منهما ولو في القياس الشكلي نقيضا للآخر، كما في الثورة والموسيقى التي غيرت من المفاهيم الموسيقية كثيراً، لذا فان القيمة الجمالية وتأثيرها النفسي يكمن في المتغيرات في القوالب الرتبة وكيفية التخلص من هذه الثوابت وعليه لا بد من تطورات جديدة تسهم في انتعاش الموسيقى وديمومتها وهذه التطورات هي ناتجة عن بعض الإجابات التي تتساءل أنفسنها عنها فلا ” قيمة للتجديدات الموسيقية للفكر الموسيقي الا اذا كانت إجابة على أسئلة وضعها تطور هذا الفكر نفسه”([1]) لذا فهي تحتاج الى ثورات تقلب الموازين وتحرر العقول النيرة التي ترتقي الموسيقى بهم من خلال منجزاتهم الذهنية والعقلية والتخيلية وكذلك البعد التصويري في موسيقاهم، فالموسيقى ثورة قلبت الذهنية الموسيقية عند العالم، فهي لغة النفوس والألحان نسيمات لطيفة تهز أوتار العواطف، هي أنامل رقيقة تطرق باب المشاعر، وتنبه الذاكرة فتنشر ما طوته الليالي من حوادث أثرت فيها بماض بعيد .
فهي بعض أصوات محزنة تملأ أضلعك وتمثل لك الشقاء كالأشباح كما هي تأليف أنغام مفرحة ترقص بين أضلعك على رنة وتر محمولة بتموجات الأثير، كما انها ليست لغة العواطف فحسب بل لغة الفكر والفهم أيضا، فهي تسمو بسمو الإنسان وترقى برقيه، فالقوم الذين تحررت نفسيتهم وارتقت فإن موسيقاهم تعبر عن عواطف تسمو عن الشهوات والتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية .
لذلك فالإنسان لا يعرف ما يقوله العصفور فوق أطراف الأغصان ولا يفهم أيضا ما يقوله النسيم لزهور الحقل، ولكنه يشعر وكأن إحساسه يفقه ويتفهم جميع هذه الأصوات، فيهتز تارة لعوامل الطرب ويتنهد طورا بفواعل الأسى والكآبة.. كأن في الموسيقى ما يساعد على تغيير الإنسان من وضعية إلى أخرى .
فهذا بيتهوفن في سيمفونيته الثالثة التي أجاب بها على مطامع نابليون بتيار من الأنغام تحول إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة للحرية الثائرة على الظلم والاستبداد، وتعد الموسيقى لسان جميع أمم الأرض ولغتها الموحدة التي يفهمها ويعشقها الجميع دون تشكيك او تمييز، فلا يمكننا أن نقسم الموسيقى إلى قسمين : شرقي وغربي، وإنما يمكننا أن نميز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبر عن العواطف والحالات التي تعبر عنها الموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها .
ولمعرفة مكانة الموسيقى والغناء وأثراهما على شخصية الفرد, لا بد لنا من الرجوع إلى الوراء قليلا لكي نعرف دور الموسيقى والغناء في حياة الإنسان, فلو ألقينا نظرة سريعة على أهمية هذا الفن في العصور الماضية واستقر أنا اتجاهاته ومعاييره وشموليته وسيكولوجيته, لوجدنا أن الموسيقى بصفة عامة فن جماعي لا ينعزل عن سائر نواحي حياة الجماعات البشرية, فهي ظاهرة من ظواهر النشاط الإنساني مارسها الإنسان في جميع أدوار حياته, وهنا نتساءل عن السر في ممارسـة الإنسان للموسيقى في شتـى مراحل تطوره, إذ لا يمكن أن تطرد تلك الظاهرة إلا إذا كانت الموسيقى تشبع في نفسه حاجة أساسية يستشعرها في كل أدوار حياته, وتلك هي الحقيقة التي انتهى إليها الباحثون عندما قرروا أن الموسيقى والغناء إنما هما امتدادا لرغبة الإنسان الطبيعية للتعبير عن ذاته فهما يعبران عن عواطف ومشاعر قد لا تستطيع كلمات وألفاظ اللغة التعبير عنها.
وقد اكتشفت الحضارات القديمة في مصر واليونان والصين والهند منذ أقدم العصور سحر الموسيقى والغناء بوجه عام وتأثيرهما البالغ على النفس والجسم واستخدموها في طقوسهم الدينية كأداة للسمو بالنفس إلى درجة الشفافية, وقد جعل أفلاطون للدولة حق الإشراف على الموسيقى لما لها من تأثير نفسي في تكوين الشخصية المتزنة المتناسقة وكذا في تنمية ملكة الخلق والابتكار, وكذلك نجد جان جاك روسو الذي يعتبر من أوائل الذين اهتموا بالبحث في أنواع الموسيقى المناسبة لتربية الطفل, فقد نادى بضرورة التعبير الذاتي بالأصوات الموسيقية وباستخدام أنواع معينة من الغناء الشعبي لما فيه من أصالة, ثم أن فروبل نادى بضرورة جعل الموسيقى والفنون التشكيلية محور تكوين الطفل من المرحلة الأولى في حياته التعليمية, وهدفه من ذلك أن يهيئ لكل طفل فرصة النمو الوجداني المتكامل, لذا نرى أن الموسيقى على مر العصور وحتى يومنا أخذت مكانها كأداة للتربية ووسيلة هامة لتقويم النفس، وبدأت معظم دول العالم المتقدمة تهتم بالتربية الموسيقية الموجهة للأطفال، وقد وضعت من خلال مفكريها ومبدعيها دراسات وأساليب تعليمية مختلفة لهذا المسار الثقافي الهام تتلاءم مع بيئتها مستفيدة من التجارب التي أوجدها علماء ومربون في التعليم والتربية الموسيقية إيمانا منها لما للتربية الموسيقية من أهمية في بناء شخصية الإنسان من مرحلة الطفولة وحتى التعليم الجامعي والتخصصي .
الإحـــالات:
[1])) عقيل مهدي يوسف، السؤال الجمالي،(بغداد: سلسلة عشتارالثقافية،207)ص203