الصورة الفنية بين المكان والفضاء المسرحي/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
ان الأشكال الافتراضية للصورة الفنية في المسرح (مكان ام فضاء) وضمن علاقاتها الفنية في المسرح فانها تتغير تبعا لضرورة الحاجة الفنية والجمالية المسرحية، فكلما تغيرت الأشكال وتركيباتها الصورية تغيرت علاقاتها ضمن حدود الفضاء المسرحي، ففي حركتها يمتلك الفضاء صورته التي تؤسسها البنية الهندسية للكتلة([1])، والتي تعتمد في بنائها الإنشائي على الحركة، مختزلة في ذلك كل عناصرها التشكيلية في وحدة المساحة كي تخلق قوانين هيمنة الفضاء حين تقوم بالتنوع التشكيلي الذي يقضي على رتابة الأشكال وجمودها، لذلك “فالفضاء هو احتواء للعناصر البصرية التي تؤسس المكان”([2]) فهو لا يكتفي بكونه تشكيلاً هندسياً ، وانما يمتلك دلالاته الفلسفية التي تنمو وتتحرك برموز وعلامات تعطي للمكان بنائه الحركي “ان المكان وسط مثالي يتصف بطابع خارجية اجزائه وفيه يتحدد موضع او محل ادراكاتنا”([3]) بمعنى اننا نقوم بتشغيل الدلالة الصورية في العرض المسرحي ومن ثم انتاج المعنى الدلالي لها، ونشره ابداعياً في فضاء المكان لان التشكيل الصوري هو فضاء الصورة بوصفها المنادي الأول للعمل الإبداعي وتحريك او تصعيد هذا المنادي ليرقى الى فضاء الصورة.
لذلك تمتلك الصورة الفنية للمكان المسرحي اتصالها، لتتفاعل مع عناصر مخزوناتها العلاماتية وشفراتها الاتصالية، فانها تقوم ببناء معماريتها فهي تبني أشكالها التي تمتلك خاصيتها التركيبية من خلال تباين أبعادها المكانية([4])، ومن ثم تحيل علاماتها الى مكان فني وهو “المعطى والناتج النهائي لما تتمخض عنه رؤية الفنان”([5])، والى مكان هندسي وهو معطى الإدراك البصري، اي تأطير الاشياء والموجودات عامة في سياقات متتابعة، وهو انتظام للأشياء في مرتكزات أساسية ألا وهي الأبعاد.
ومن أهم مبادئ تشكيل الفضاء المسرحي هو التضاد الذي يعمل على خلق استمرارية الصورة التي ترسم ملامح المكان الدرامي، ومن أهم طرق استخداماته الشائعة هو التضاد عن طريق تشكيل واعادة التشكيل بما يسمى بالتنويع، فالفضاء الذي يحمل تلك الحركة المزدوجة من البنية الهندسية التي تكونها الكتلة من جانب، والفضاء الذي يؤسسه الممثل من جانب آخر، هو تصوير مكاني بعلاقاته الفضائية التي تتحرك ضمن هذا النسيج التشكيلي بكونه ارتقاءاً صورياً ينسجم مع إيقاع الرؤية الجمالية لأن “إنشائية المكان ليست محاكاة للأشكال الموجودة في الطبيعة، وانما نقلها من حالة وجود مختلط تعسفي الى حالة وجود منتظم عقلي”([6]).
كما ان تصوير المكان المسرحي يتعدى – بوصفنا متلقين – حدود الرؤية للمكان بعناصره الفيزيائية والهندسية الى المشاركة الحسية بمعنى ان المتلقي يعيش في تجربة الرؤية الفنية في حالة من التخيل الذهني الذي يفسر من خلاله الأحداث الدرامية التي تخص آلية تصوير وفهم المكان الفني، وهذا ما يؤكد ان ” الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صوراً بصرية فحسب، بل تثير صوراً لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته”([7]) أي بمعنى ان الصورة الفنية في عين المتلقي المسرحي تكون ذات تحليل مباشر بواسطة الإحساسات الذهنية التي من شانها ان تترجم ما تراه في خشبة المسرح، فهي تتعدى ان تكون وسيلة بصرية، بل انها تجمع قواها التخيلية وتجمع كل إدراكاتها التي تقترب من الصورة الطبيعية وبالتالي تنتج صورة حسية مماثلة ومتقاربة في صورة المكان للحدث الدرامي، وهذا ما يحدده براعة وقدرة الخيال الفني المتمثل في الرؤية الإخراجية او المبدع السينوغرافي الذي يرسم الصورة الفنية للمكان المسرحي، من خلال توظيف الأبعاد الحسية لما لا وجود له الا بالوعي، وكذلك إضفاء صفة واقعية لما هو تخيلي تصويري حيث تتقارب مع الواقع بشكل افتراضي من خلال تمثيل الواقع الطبيعي بصورة افتراضية تخيلية.
وكذلك يرى الباحث ان التصوير والتخيل الافتراضي هو ايحاء لا نهائي يتجاوز الصور المرئية وان كانت معروضة كواقع عياني بوصفه- التصوير الفني – صورة فنية تمتاز بانها حصيلة اختيار وانتقاء للمادة المحسوسة التي تستمد وجودها الجمالي والفني من الطبيعة والحياة الإنسانية بغية تحقيق الإثارة والانفعال الجمالي.
لذلك بان وصف المكان او تخيله او تصويره لا يقتصر على إسقاط الصفات عليه او على بعض متعلقاته بشكل مباشر، بل من خلال الأفعال غير المباشرة كالأصوات البشرية والمؤثرات الصوتية والموسيقية، فأصوات الرعد التي نسمعها افتراضيا على خشبة المسرح تحيلنا الى ذلك المكان البعيد الذي يتدلى منه المطر، وكذلك صوت الدبابة العسكرية او صوت المدافع يجعلنا نتخيل ونتصور مكان الحرب افتراضياً على خشبة المسرح، وكذلك الحال في الأماكن الرومانسية فربما تكون اللغة الديكورية في الحدث المسرحي تنحصر في حدود ثابتة المعنى والفهم، لذلك غالبا ما يستعين بعض المخرجين في خطابات صوتية بعيدة عن اللغة المباشرة (الحوار الكلامي) فيذهبون في اختيار موسيقى بوصفها أشكال افتراضية لغوية تتعدى حيثيات الواقع المراد او الكائن في الواقع لانها تحمل دلالات قد لا يصرح بها لكن تستشف وتدرك من خلال السياق العام للحدث الدرامي، فالحب مثلا قد لا يصرح به ولكن يمكن إدراكه من خلال أشكال موسيقية معينة، وكذلك الألم والفرح فانها تترجم من ما هو محسوس الى ما هو معقول ومدرك افتراضياً متخيلاً، وهنا تكمن براعة المبدع الجمالي في تغير هذه الأشكال الافتراضية للأمكنة الدرامية المتخيلة في العرض المسرحي.
الإحـــالات:
(1) ينظر: محمد عبد الرحمن الجبوري، اكتشاف الرؤى في النص المسرحي وتحولاتها في العرض المسرحي، مجلة الأكاديمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة، ص 32-33.
(2) برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، ترجمة:جميل نصيف، (بغداد : دار الحرية للطباعة، مطبعة الجمهورية، 1973) ص 67.
(3) علي عبد المعطي محمد، تيارات فلسفية معاصرة، (الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية ، 1984) ص 280.
(4) ينظر: ياسين النصير، اشكالية المكان في النص الادبي،(بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1986)ص 409.
(5) طاهر عبد مسلم،عبقرية الصورة والمكان، التعبير –التأويل –النقد، ط1،( بيروت: دار الشروق للنشر والتوزيع ، 1984)، ص 28.
(6) زكريا ابراهيم، مشكلة الفن(القاهرة: دار الطباعة الحديثة، مكتبة مصر ،ب ت)، ص 4.
(7) حسن يوسف، جماليات المكان،مصدر سابق ،ص16