مسرح سينـَتِك ( Synetic Theater  ) / إحسان الخالدي

نتابع الحديث عن تجارب في المسرح الأمريكي المعاصر، وخصوصا عروض المسرح التجريبي والطليعي في العاصمة الأمريكية واشنطن. وكنت قد عرضت في مقال سابق ايجازا عن الأداء التمثيلي والتدريبات في ( مسرح سينـَتِك) وهو من المسارح التجريبية خارج شارع 7. وأوضحت أن مسرح سينـَتِك يعتمد “الجسد” وسيلة للتعبير الفني والجمالي، لكن بقية العناصر الفنية لا تقل أهمية وتأثيرا في عروض هذا المسرح. وقبل التعريف بنهج المخرج (باتا تسكورشفيلي Paata Tsikurishvili) في استخدام تقنيات الضوء واللون والسنوغرافيا، أود أن أبدأ بهذه المقدمة التاريخية.
كان المسرح قد استخدم تقنيات بسيطة منذ عصر اليونان. ومنذ أكثر من ألفي سنة، حذر الشاعر الروماني هوراس الكتّابَ من استخدام “ديوس إكس ماشينا” (إله من آلة) لمعالجة حبكة القصة والصراع الدرامي. وأشار هوراس إلى ممارسة المسرح اليوناني القديم (ما لا يقل عن 500 سنة قبل عصره)، باستخدام رافعة لإسقاط ممثل يلعب دور الإله على خشبة المسرح. وتشير دراسات بأنه قد لا يُعرف بالضبط التاريخ الذي اخترعت فيه الأضواء الكاشفة وجهاز التحكم بشدة الضوء، لكن دراسات أخرى تذكر أنه في 1638، قدم نيكولا ساباتيني* Nicola Sabbatini (الآله في المسرح)، وهو كتاب تعاليم تقنيات مسرحية. وقد تضمن الكتاب تصاميم أوضاع متغيرة مثل الطيران والتحليق، آلات محاكاة العاصفة واللهب وغيرها من مفردات تقنية، ولكن استخدام الصور المتحركة على الشاشة في العروض المسرحية أقدم بكثير من كتاب ساباتيني. إذ توجد وثائق تشير إلى أن دمية الظل المتكونة من 11 قطعة كانت تستخدم للترفيه عن الإمبراطور الصيني (وو) منذ أكثر من 2000 سنة. ونشرت لأول مرة في 1685، كيفية عرض الصور المتحركة باستخدام الشرائح الميكانيكية ما يُعرف اليوم بـ”فانوس السحر” أو مساقط ضوء “ستيروبتيكون”. ولا تزال مجموعة (دروتنينغولمز سلوتستيتر) السويدية، التي افتتحت في عام 1766، تستخدم الآلات الأصلية التي تعود إلى القرن الثامن عشر والتي تعمل بالطاقة البشرية للتحكم في الإضاءة والتي يمكن أن تؤثر على مجموعة من التغييرات – مثل الأجنحة والطيران وغيرها – في غضون ثوان معدودة.
وبالعودة إلى عروض مسرح سينـَتِك، فقد تطورت المفردات البصرية عند المخرج (باتا) مع كل عرض مسرحي حتى في حال إعادة عروض مسرحية سابقة فأنه يجتهد بتقديمها بنسخة مغايرة عن العرض الأول تقريبا. كما ذكرت سابقا، بأن باتا يعتمد في معظم عروضه على مسرحيات شكسبير أو روايات عالمية، ويمتلك مخيلة خصبة وتصورات فريدة من نوعها في تقديم الكلاسيكيات الغربية. في بعض العروض؛ يدمج (باتا) الميكانيكا التقليدية مع سحر التكنولوجيا الحديثة في القرن الحادي والعشرين، وتتوسع شهيته باستخدام التكنولوجيا في عرض مسرحية “ترويض الشرسة” لشكسبير، إذ يستخدم ألواح هندسية مختلفة فتظهر مساقط ضوء مزخرفة أثناء السرد الحركي، صور من الغزل والنميمة، صور كاثارينا “الشرسة” وهي تهدد الطيور ووجها يتلوى بجنون، إنها حالات نفسية مركبة مع أداء حركي أخاذ. أما اللون عند المخرج (باتا) فإنه مهارة فنية تتألق بفاعلية مع الأداء؛ إنه رسام، يخطط ويصمم تكويناته الحركية وصوره المسرحية خلال أشهر من التدريب والاكتشاف. لقد قدم (باتا) في “ترويض الشرسة”، واحدة من العروض النادرة فيما يمكن تسميته بالكوميديا الدافئة.
في مسرحية الدكتور جيكيل وهايد (2012)،- وقد أدى الشخصية الرئيسية في العرض الممثل المقتدر جسديا وحسيا أليكس ميلز Alex Mills (كنت قد تدربت بين يديه على تمرينات تقنيات الأداء الجسدي)-، يواجه الجمهور عرضا مدهشا، بأسلوب فريد من نوعه لمعالجة حكاية قديمة جديدة وصراع أزلي بين الخير والشر. إنه نمط مختلف من المسرح الجسدي؛ يمزج السينما مع وسائط تقنية متعددة، ويمتاز بأداء تمثيلي من دون كلمات، وبمشاعر عميقة تحرك الممثلين مع الرقص والموسيقى التي تكون صاخبة في بعض المشاهد للتعبير عن صخب الحياة ونشازها. وقال أحد النقاد عن العرض:” إنه واحدا من العروض الأكثر إثارة للقلق والجدل في المسرح الذي رأيته في سنوات”. لقد عمل تسكوريشفيلي وفريقه من المصممين والممثلين، وخاصة أليكس ميلز الذي لعب دور الدكتور جيكل- على نقل الجمهور إلى مجال دنيوي آخر يسكنه ناس ومخلوقات مثلنا تماما، لكنها مرعبة جدا. حينها تتساءل، هل هذا ما نحن عليه فعلا؟! هل أصبحنا هكذا؟! وعلى الرغم من التنافر الواضح في الصورة المسرحية لكن العرض لايخرج عن مسار أنه بالضد من هذا التنافر، كذلك بالضد من كل ما يقلل أو يضعف مما قد يكون استثنائي وهائل في حياتنا اليومية. إن ما يضخه العرض من أفكار وتصورات فريدة من نوعها إنما هي هاجس العصر الحالي. في الواقع، حان الوقت للتعريف بالتكنولوجيا وأثارها على الإنسان!
استخدم المخرج (باتا) في عرض الدكتور جيكيل وهايد وسائط متعددة لتقديم صورة مسرحية عن عالم يعيش أزمة وجودية، فالبيئة مصممة من أنابيب صناعية وأخرى من الصلب (الستيل) بالإضافة إلى لوحات متعددة وشاشات مسطحة، فالسينوغرافيا توحي بأجواء غامضة ومدهشة، ويشعر الجمهور معها بأنه منوم مغناطيسيا وهو يقاد إلى عالم آخر. كل ذلك والعرض لم يبدأ بعد، حينها يتبادل الجمهور الحديث بطريقة ودية وغير رسمية، ويتساءلون عن العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه فجأة! لقد خلقت السينوغرافيا عالمين مختلفين ومتناقضين كليا. في بداية العرض يتعرف الجمهور على الدكتور جيكيل وهو يدخل بألة الأضواء المستقبلية. إن الاختيار في جعل الدكتور جيكيل بريئا، وليس رجلا بإرادة حرة، أمر بالغ الأهمية، فقد غيّر المخرج الثيمة الأساسية لقصة ستيفنسون. فبدلا من رجل يجب أن يختار الصواب على الخطأ، أو الزواج على المتعة “Hedonism” – كما نحن في طبيعتنا البشرية- هنا لدينا رجل لا يعرف شيئا عن المتعة!
أخيرا إذا استسلمنا، أو أن نستسلم في أي وقت قادم، فإن واجبنا الأخلاقي اتجاه الأحاسيس الفائقة التي تقدمها التكنولوجيا بدلا من تلك الحاجة البشرية للاختيار بين ما هو الصحيح وما هو الخطأ! على أمل أن تحل بطريقة ما أجهزتنا السحرية وكل ما لدينا من مواد كيميائية علاجية، وعوالمنا الافتراضية المتنوعة بشكل لا نهائيّ!
وبفضل استخدام التقنية المثير والمدهش؛ يمكن للجمهور رؤية ما كان يفكر فيه (عطيل) تماما. فقد استخدم المخرج (باتا) الفيديو والصور المتحركة عبر شاشات تتحرك بطريقة متلاحقة وعرض صور على أسطح غير نظامية، كل ذلك ينطوي على مفاهيم متقدمة، ويقدم بطريقة حيّة وبشرية على نحو لافت. لن تسمع طنين المراوح المستخدمة مع كشافات الضوء، ولم تشيّد كواليس بستائر تستخدم للتغيير السريع، ليس هناك ذرات غبار مضيئة تصنع من حزم اشعاعات مرئية. في بعض الأحيان، يبدو أن الصور تأتي من عقل عطيل مباشرة. لكن في الواقع، الصور تأتي من أجهزة عرض (بيكو Pico) – بحجم 3 بوصة تعمل بالبطارية، إنها صغيرة جدا، ومخفية في الأزياء، وعندما لاتستخدم لا تكاد تظهر! لقد وفّر هذا الجهاز الصغير الحجم بقياس MPro150، ثمان شمعات من الإنارة في المتر المربع الواحد على شاشة بيضاء عادية بارتفاع قدمين فقط. ويبدو أنه كان ساطعا بما يكفي في تلك البيئة المظلمة تماما. مع الاشارة إلى أن هذا الجهاز قد أدى الغرض من استخدامه على نحو مثالي وخصوصا في مشهد المنديل، إذ يشاهد عطيل أفكاره وتخيلاته عن علاقة أميليا بكاسيو، على واجهة المنديل “الشاشه” وهي بين يدي ياغو. يعيش الجمهور في هذا المشهد لحظات ساحرة ومبهرة؛ ويرى مشاهد سينمائية عالية الجودة تجمع أميليا وكاسيو بأوضاع مختلفة على مساحة مربعة لاتتجاوز 30 سنتمتر مربع من قطعة قماش أبيض. أدعوك إلى أن تتخيل المشهد! فمهما حاولت وصف المشهد بدقة سوف تخونني الكلمات حتما!
قد يظن البعض أن تشغيل الشاشات والصور المتحركة يواجه صعوبة ما لكن ليست هناك أي مشكلة في ذلك، إذ أنها تعمل فقط حينما يقلّب أو يحوّل الممثل معصم يده التي ربط فيها جهاز العرض (بيكو). يبدو أن مطاردة مرئية من هذا القبيل تهدف للحفاظ على تقديم صور بشرية أيضا. لعل عرض (عطيل) كان مثال على عصر الإسقاط الضوئي “بيكو” على خشبة المسرح.
لا شك أن عرض الصور المتحركة في الدراما المسرحية قد تقدم خلال القرن الماضي. لكن المخرج (باتا) استخدم كشافات ضوئية عالية الجودة في عرض أوبرا (زورق فاوست) في متروبوليتان في نيويورك عام 2008؛ وقد تخلل العرض رسومات كمبيوترية (غرافيك) ترتكز على مدخلات من كاميرات استشعار مباشرة لتوفير صور تتفاعل مع الأداء البشري على المسرح. حيث تظهر الشخصية على المسرح وكأنها قطب جندول، والمياه تموج – مع أنه في الحقيقة ليس هناك ماء-، هناك أثر أمواج أو سفينة، إن كل ما يعرض إنما هي رسومات الكمبيوتر (غرافيك). ليس أخيرا، يمكن أن نشاهد أنظمة إضاءة متقدمة مع شاشات متحركة فوق خشبة المسرح، ويمكن تشويه الصور أيضا باستخدام زاويا عرض متفاوتة فوق سطح شاشة بيضاء.
في الختام، مهما حاولت الحديث عن عروض مسرح سينـَتِك فإنه سيظل قاصرا عن حدث العرض ذاته، أما الكتابة عن تلك العروض لن تفي حجم الخيال ومتعة الأداء والإبداع ليس عند المخرج (باتا) فقط، وإنما أداء الممثل وبقية عناصر العرض من الكيروغرافيا والسنوغرافيا.

================================

* نيكولا ساباتيني ( 1574- 1654) مهندس إيطالي؛ عمل في بلاط دوقات أوبينو، وكانت تصميماته للمسرح رائدة ومبتكرة ومؤثرا للغاية، فقد ابتكر مجموعة من الآلات وأجهزة الإضاءة في ذلك الوقت. كان من أوائل مصممي الآلات التي خلقت تأثيرات بصرية وصوتية واقعية مثل البحر، العواصف، البرق والرعد، الغيوم الطائرة وغير ذلك. وقد كتب أحد أهم الكتب حول إنشاء واستخدام الأجهزة والآلات في المسرح (Pratica di fabricar scene e machine ne’teatri) نُشر في عام 1638. وقد طوّر ساباتيني العمارة الداخلية للمسارح مثل تخطيط بناء مقاعد الجمهور.
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت