صعود ال ( ثريا ) / عزيز خيون

ما هذا الصوت؟ الهمس العجول يتصاعد والسؤال الملح، يالهذا الصوت ! لمن ومن يكون ؟ صوت يخترق مساحات الروح ، يأتلف وحركة الدم، وبدوائره المهاجمة ينّده حجيرات الخيال، دوائره تلك التي تحّلق بالسامع الى عوالم أثيرية ومناخات هي تمائم السحر وأفاق الدهشة !
ما هذا الصوت ؟ يهدر بكل هذه العافية العجيبة، بالطاقة الجاذبة، وكأنه أت من أقدم سلالات العصور محمل بأسرار القداسة وأشعاعات التجلي، صوت لا يعانده سد ولا يكبح جماحه حد، ترجيعاته ومفعلاته تعيد ترتيب سلالم المزاج ويدوزن مفاتيح التلقي جهة منعرجات من المتعة، يجبرك أن تبقى حيث أنت .
( أهو صوت أنتيجونا )  أم ( أندروماك ) ؟ هو صوت ( أديلا ) أم ( نورا ) أم هو صوت ( ألكترا ) ؟ ما سر وهوية هذا الصوت الذي يقول لك  : الجمال بين يديك وحواليك يطوقك بالبشر وألوان البهجة … اجلس وتمتع .
أهو صوت ( جان دارك ) ؟ صوت ( يرما ) أم هذا الهادر هو صوت ( ماريانا ) حاملة راية الرفض والتمرد .. راية الثورة ؟ ما ها الصوت المنّور بكل هذه البلاغة من القول والتعبير ؟ هو ذا يحاصر ويجّمع مكونات الفضاء الصعب للمسرح الوطني في بغداد !
من تلك المرأة التي تنبت في العمق، تتطاول مع الجدار الأخير للمسرح، تتحدى المألوف والمتعارف؟ من تلك القامة التي تضيء وذاك التكوين الجسدي الأخاذ الذي يشاكس الفراغ، من هذه التي تقارع خصومها وكأنها واحدة من ألهة الاولمب، من تلك القديسة التي تتوّج فضاء المسرح بكل هذا البهاء …؟
انها ثريا جبران في واحدة من تجاربها الادائية وهي تحيي مسار تلك الشخصية الدرامية في مسرحية ( ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ ) لمجموعة الممثلين العرب ،كتابة الشاعر العربي من فلسطين وليد سيف وأخراج العربي من المملكة العربية المغربية الطيب الصديقي .
أخبارالمسرح | مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008
الصمت سيد اللحظة والثريا تصول وتجول في معركتها الادائية بذاك الحضور الطاغي الذي جعل صالة المشاهدين تهتدي الى واحة أخرى من التلقي الممتع ، وكأن العرض يبتدأ الأن ، يبندأ مع سحر هذه الثريا وفي هذا المشهد لهذه الممثلة العملاقة التي نتعرف عليها كفنانة مسرحية عربية من المغرب ، من الطراز المميز وللمرة الاولى في بغدادنا العزيزة وفي مهرجانها الاول عام 1985 .
بالتصفيق وآيات الأعجاب حين ختام العرض وقوفا يحتفي بها الجمهور …
صباح اليوم التالي وفي فندق الرشيد كنت على موعد مع عدد من الأخوة  المسرحيين العرب  المشاركين في المهرجان ، خطوات بأتجاه أستعلامات الفندق واذا بطائر اللحظة يضع الثريا أمامي برفقة الصحفي من الكويت الصديق عبد الستار ناجي ، صبحتها بالخير مسرعة تجري العبارات تعارفا وتهنئة بما أبدعته من عطاء جمالي، المفاجأة أن الممثلة التي أبهرتني في مقترحها المسرحي ليلة البارحة بذاك الوهج الصوتي والشموخ الجسدي لم تكن هي التي تقف الأن أمامي بل وكأنني أرى ممثلة أخرى ، أنسانة تسحب الكلمات سحبا يخالطها شيء من الارتباك يشبه الخجل، لا، لا هو ليس الصوت الذي يجلدل ويقلق هدوء صالة الجمهور الحاضر !!! صوت بالكاد يسمع، امرأة من هدوء تقطّر انسانية وطيبة تجيب على زهو أعجابي أن ترسم أبتسامة التواضع تجلل وجهها البريء، كثيرا تترد في التعبير وكأنها أرتكبت خطأ شنيعا في تجربة مساء الامس وليس أنجازا لافتا، أدرك جيدا أنني الأن أقف أمام ثريا الانسانة وليس ثريا الممثلة الفنانة، نعم جيدا أدرك هذا وأدرك أنني الأن في حضرة البساطة التي تكتنز العمق والمعنى .
لقاء لم يسبقه ترتيب لمجريات هدفه لذلك كثّفت ما رغبت ومعتذرا أنصرفت، لكن الغريب في الامر أنها ودعتني بطريقة أحتفالية وكأنها تعرفني منذ سنين وليس لحظات، وأستحوذ علي شعور يهمس لي أن لقائي هذا لم يكن هو اللقاء الاول، ولم يكن بعمر الدقائق مع هذه الثريا، لا أبدا وكأنه يأتي استكمالا للقاءات مع هذه الممثلة الرائعة، هكذا ذهب الخيال بمشاعري ساعتها، طبعا لست أنا من صمم هذا التصور انما الحضور الاليف لهذه الثريا وما نثرته في المكان من عقيق الكلمات وفيروز المشاعر الكانت كافية لآن تطرد عني أي أحساس بالغربة أنما بعذوبة اسلوبها ورقة صوتها ونجمة أبتسامتها الدائمة أطاحت بكل تلك الحواجز التي من الممكن أن تجعل من ذلك اللقاء رسميا وجافا .
توصلت الى هذه القناعة لاحقا أن هذه الانسانة لصيقة بمنبتها الاول  منذ صغرها وجدت نفسها  بين الناس ، هي أبنة ناس ونشأت في كنف الناس لذلك ليس غريبا أن تغتني بكل هذا الكم من المشاعر الانسانية ، البيئة التي سقت طفولتها وبعد ذلك يستدعيها المسرح بوقت جد مبكر ، صبية هاوية ترتقي منصة القول والفعل ، ارتباطها بالفنانين والعاملين وجمهور المسرح هو الذي جعل من روحها مغرسا طيبا لهذه الصفات ، تشعرك أنها قريبة منك وأنت منها قريب ، لاحقا تتطور الهواية الى أرتباط  لا فكاك منه بهذا الفن العظيم ، رفقة رجال مسرح كبار في مسرح الناس مع الطيب الصديقي ، وفي مسرح اليوم الذي أسسته وترأسه رفقة شريكها في الحياة والمسرح الفنان والمخرج عبد الواحد عوزري .
تجارب وتجارب ، عروض على هذه المنصة المحلية وتلك العربية ، وشروق علاقة من نوع خاص مع سيد الفنون – المسرح –جوائز وتكريمات محلية وعربية وعالمية ، أمرأة نبتت على خشبة المسرح فمنحها المسرح ما تود وترضى ، حتى أنها تحتفل بأية تجربة مسرحية سواء أكانت لها أم من ابداع غيرها ، لا أنسى مطلقا تلك اللحظات التي أرتقت الثريا فيها مكان العرض في قاعة من قاعات مبنى وزارة االثقافة في السنوات الاخيرة من ثمانينيات القرن الماضي في مهرجان بغداد للمسرح العربي بعد أنتهاء العرض المونودرامي ( الناس والحجارة ) نص الكاتب العربي من المغرب عبد الكريم برشيد ، تمثيلي واخراج الراحل هاني هاني ، أنتاج وتقديم الفرقة القومية للتمثيل في دائرة السينما والمسرح ، تقدمت مني مع الكاتب عبد الكريم برشيد وصحبة مجموعة من فناني الوفد المغربي المشارك في المهرجان المذكور ، أحتضنتني بمحبة ورشت وجهي بعطر الكلمات أعجابا وسعادة بما قدمت واجتهدت في تلك التجربة المسرحية المونودرامية الصعبة … وهي ذات الثريا لحظة جرت تنوي اللحاق بنا أنا والفنان الجزائري سيد أحمد أقومي ونحن نستعد لمغادرة مدينة مكناس المغربية بعد أن أختتم المهرجان المسرحي أيامه ، تقول للموظفين المحيطين بها : دعوني أودع أصدفائي ، صحيح أنا وزيرة الثقافة ولكن هؤلاء أصدقائي ، ودعتنا بتلك الطيبة ولم تبرح المكان الا بعد أن تحركنا مغادرين والسيدة وزيرة الثقافة المغربية ثريا جبران في مكانها تؤشر لنا بيديها تلويحة الوداع ، نعم هي هي الثريا ذاتها لم تغيرها الظروف والازمان ولا حتى بريق المناصب ، بقيت تلك الروح الانيقة الوفية لاصدقائها لفن المسرح وشريعته المقدسة ، لذلك لا أستغراب عندما ترحب بها المنصات المسرحية في هذا الوطن وذياك الاحتفال .

صباح تونسي أنفاسه الربيع يختال مرحا على نغمات حبات المطر التي تمازح المباني ، تداعب الاشجار ، وتغازل وجوه الناس المقبلة في شارع الحبيب بورقيبه ، كعادتي اليومية أتناول وجبتي الصباحية في أستراحة فندق أفريقيا حيث اقامة الوفود المشاركة في دورة عام 2019 المهرجان الدولي لايام قرطاج المسرحية وأذا بالثريا تضيء بحضورها المكان ، فرحتي بها لا توصف لقاء بعد سنوات طويلة ، سلام وأسئلة عنها ، عن أخوتنا المسرحيين في المغرب ، وتسألني عن العراق والمسرح ، الناس والفنانين ، يقودنا الحديث في دائرة المسرح ويجّسرنا بالاحتفال المسائي لختام أيام قرطاج المسرحية في مبنى الصرح الثقافي الجديد ، شاخص عمراني مهم من معالم تونس ، وجوه الجمهور تهدي الناظر البهجة ، فعاليات ، ألوان ، أشكال وجمال ، هو المسرح طبيعته هكذا عبر العصور ، أن له القدرة في أستقطاب الناس وجمعهم ، سينوغرافيا الصرح الثقافي الجديد والاحتفال تمنح النفس سرورا من نوع خاص ، الأن هو يدعونا أن نلج صالة المسرح الكبير ، حفل الختام يبدأ ، قائد الحفل يرحب بضيوف المهرجان ، كلمات سريعة ثم يعلن بشكل أحتفالي تتويج الفنانة المسرحية العربية من المغرب ثريا جبران ، تنطلق الموسيقى تحية وأحتفاءا ، ايقاع التصفيق ينتظم بشكل تدريجي ، الثريا تخطو وترتقي المنصة ببهاء  ، مع كل خطوة من خطواتها ينبت الورد ، نبرة تصفيق الجمهور تعلو ، الثريا تواجه الصالة ، التصفيق يعلو أكثر ، الثريا تركع على منصة المسرح بشكل قدسي احتراما وشكرا على ما قدمته لها هذه المنصة من مكانة ورفعة ، المنصة يشرق من جميع حدودها الورد ، تصفيق الجمهور يسخن شيئا فشيئا والورد يشرق أكثر ن في لحظة التتويج ينهض جميع من في صالة المسرح الكبير ، التصفيق يشتد ن أصوات الاعجاب والموسيقى تتحاور لتشكل حالة من الهارموني تليق بتتويج قامة مسرحية منحت المسرح الذي اختارت ، آمنت وتحركت وضحت اجتهدت وأبدعت كل ما تملك من طاقة وجهد وموقف وحقيقة ، كيف لا وهي ثريا جبران واحدة من ملكات المسرح العربي المتوجات بالصدق  والنضال  ، هذه الثريا الدائمة التوهج ، صديقتنا الغالية الطيبة المتواضعة الكبيرة البسيطة السخية العميقة ، التصفيق والموسيقى ونداءات وزغاريد الاعجاب تنثر التهاني على الملكة المتوجة ، ليس فقط في هذا الصرح الثقافي التونسي البهيج بل وكأنني أرى أن جميع المسارح الأن في المملكة المغربية ومسارح الوطن العربي تلك التي وطأتها روح الثريا كلها تنتظم الليلة الى هذا الاحتفال البهي وتشارك بتتويج الثريا …
الثريا تحيي الجمهور لكن الورد بدأ يجذبها الى الخلف حيث وسط المسرح ، الورد الأن يحتفل بكثافته وعطره الفواح في جميع مناطق المسرح ، صارت أغصانه تشهق وتتسارع طولا تزحف شوقا حيث الثريا الى أن أحتضنتها وتوجتّها بتاج الوفاء ضمن تكوين جمالي مبهرخلقته اللحظة  ، هنا تختفي كل الاضواء ما عدا ضوء الثريا ، يشتد التصفيق ثانية ، الموسيقى تنطلق بتصعيد جديد ، هي ذي الثريا مرأى ساحر التأثير يمنحنا الدفء ، معنى الرفقة والايمان بالمسرح منصة للعدل للحقيقة والجمال ، ذي روح الثريا تطوف لصقنا ، حوالينا ، تسقينا عناد المطاولة والثقة بهذا الوسيط الجمالي الخالد … المسرح وضرورة ادامته والعمل به وفي كل الظروف من أجل صلاح جوهرة الوجود ، بنيان الله .. السيد الانسان وبناء الاوطان .
قوة خفية تفاجأ الحضور تصعد بالثريا عن المنصة ، ترتفع بها نصبا من الورد ، هنا تنفلت الموسيقى بكل عنفوان طاقتها وبكامل مفعلات تعجيلها ، تهب صيحات الحضور  ، تطل علينا الثريا من عل ، نجمة أبتسامتها تضيء ، وبذراعيها تلوّح لجمهورها الذي أحبها وأحترم فنها ، ذي ثريا جبران تمنحنا طاقة العزيمة والعناد ، الاصرار والتحدي … تمنحنا الامل .
 
** عزيز خيون / مؤسس ورئيس محترف بغداد المسرحي
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت