طفوف بلا أرقام في مسرحية (تحريق) للكاتب علي العبادي/ بقلم الدكتور : طالب هاشم بدن .

بين الماضي والحاضر تختصر المعاناة وينحصر زمن وقوع الحوادث، وما بين الامس واليوم حدثت وتحدث مثل هكذا نزاعات .
يطل علينا الكاتب علي العبادي في مجموعته الجديدة ( مبغى ) التي تحمل عنواناً يكاد يمثل نقطة تحول كبيرة ما بين النصوص الجدلية التي تبحث في عوالم من التناقضات والمغايرة. ولو رجعنا إلى المعاجم نجد إن كلمة مبغى تعني – حسب قاموس المعاني –في اللغة العربية : بيت الدعارة، ماخور ، مكان يبحث فيه عن تحقيق رغبة أو مطلب .. وعلى وفق ما جاءت به تلك المجموعة التي من الممكن أن نطلق عليها بالجريئة نجد من الضرورة بمكان تسليط الاضواء على ما تناوله كاتبنا في مسرحية (تحريق) والتي تعني في المصطلح اللغوي ( إلهابه ، إحداث تأثير بالغ فيه ) حسب ما عبر عنها معجم المعاني.
يختار كاتبنا فضاء مسرحيته ضمن مصحة يحدث فيها صراع شخصياته، إذ منها إنبثقت فكرة ورؤى درامية الاحداث بشكل طوباوي مشبوب بمدركات سمع بصرية تتلاقف خيالاتها ما بين أروقة أمكنة خربة تحاول أن تجد لها ومضة أمل من تحت ركام وبقايا أمل تلاشى ما بين زمنين، إذ يمثل تداخل الازمان الخط الواضح والمكمل لعنصر الصراع الذي ربط أركان النص وظل محافظاً على ديمومته منذ الوهلة الاولى حتى خاتمة حركة الحبكة، تسير فكرة المسرحية على وفق بناء ممنهج وضع على مهل منذ بداية الحدث الاول ينتقل بنا عبر منعطفات بمهارة عالية نستطيع من خلالها إكتشاف مكامن شخوص لم ندرك ماهيتها وسبر أغوار النفس عبر متابعة تفاصيلها وما تؤول إليه احداث المسرحية، إذ يتركب الحوار على مجموعة من التساؤلات والمفاجآت التي لم تبتعد عن الجو العام الذي أوجده الكاتب في مصحة غير محسوبة الافعال، يضع الشخصيتين بشكل متقارب على الرغم من تقاطع الارادات الذي كشف بصورة مبكرة عنه ما دار من حوار مبني بلغة سهلة غير معقدة التراكيب واضحة في مضامينها لكنها تحمل ما تحمله من عمق في جوهرها وما تريد ان تعبر عنه في ما وراء الكلمة. إذن المؤلف يتناول المسكوت عنه بلغة بسيطة ويحاور عقولاً مدركة تلامس الكلمة المنطوقة، وعلى وفق ذلك تميزت فكرة وموضوعة النص بوقوفها على قضية غاية في الاهمية عبر تناولها (العطش ) الذي بقي شاخصاً مع واقعة الطف عبر آلاف السنين، وهي عتبة وقف عليها عدد غير قليل من النقاد ووظفها الكتاب والمفكرين في لغة محبوكة أخذت صدى مهماً في مجال الادب الحكائي والمقارن.
وضع كاتبنا الشخصية الاولى لتعاني العطش الذي ألمّ بها ومن ثم يتنقل ما بين الشخصية الاولى والثانية راسماً حلقة من تبادل الادوار الذي وظفه كاتبنا في آلية مدروسة يراد من خلالها تداخل الصورة الحبكية، حتى تجذرت من هاتين الشخصيتين شخصيات أخر تشظت بشكل دراماتيكي تميز في اللعب والقفزات على حبائل كأنها صنعت من حرير لا ترى بالعين المجردة وتعاود لبس الشخصية الاصلية في تراكيب متميزة، فتارة نجد الشخصية الاولى تعاني الظمأ وسرعان ما تتحول لتكون شخصية الشمر التي عرفت بقساوتها وحقدها على آل بيت الرسول وقطعها الماء عنهم، ومن ثم تتبدل وتنتقل تلك الشخصيات فيما بينها عبر حوارية رسمت بدقة متناهية وكأنها كتبت لتمثل على خشبة المسرح بعرض ينتمي إلى العبث واللامعقول.
يظهر من ثنايا النص تجليات الحوارات التي تميزت بالقطع وعدم ترابطها غير مفهومة المعالم وكأنها تحيلنا إلى عوالم من الكلمات المتقاطعة وكل شخصية تسير بعكس إتجاه الاخرى دون معرفة الغرض المتوخى وماذا تريد أن تقول لا يتناغم ومتطلبات الشخصية المقابلة، إذ إن كل شخصية تسبح في عوالم من التيه وتصوغ لها حوارات لا تمت بصلة لما يجري في معانيها، مفككة الاوصال بعيدة نوعاً ما عن الترابط الموضوعي، ثم تظهر لمحة من التفاهمات الطفيفة التي من الممكن التركيز على ما تريد البوح به تلك الشخصية أو مثيلتها، يتجلى ذلك في السعي للبحث عن الطعام والماء لتسد النقص الحاصل من ظمأ وجوع الذي لحق بها وأخذ من الافئدة مأخذاً حتى توارت واقعة الطف وحضور الشمر في مسرح الاحداث، وهي محاولة جادة من كاتبنا اقتبس فيها عظم الوقعة التي تميزت بها واقعة الطف، إذ استخدم أسلوب استدعاء التاريخ الاليم وما حدث في عاشوراء الحسين ووظف حوادثه آنياً عبر اقتباس وربط الماضي بالحاضر وما يجري اليوم من تجويع وقتل تحت سلطان الخوف وسياط الجلاد الخفي الظاهر أبد الدهر، منطلقاً من إن كل زمان عاشوراء وكل طغاة شمراً ويزيدا ولا زلنا تحت وطأة نفس الوجوه التي تحكم وتسرق بمسميات تعددت وجوهها وبقي الفقراء عنواناً يسجل عورة الازمان ؛ ليضعنا أما سؤال يطرحه الشمر ولا يقوى الشخص الثاني على الاجابة عليه بوصف ان الشمر يقول :
إذن هات لنا شربة ماء
الشخص الثاني : ( لا يجيب )
الشمر : ألا تسمع ما أقول ؟
الثاني : من أين أجلب لك ؟؟.
في تركيبة حوارية غير مكتملة الاطراف والمعاني وذات أهداف مرسومة بعناية يراد من خلالها توصيل فكرة ( ما أشبه اليوم بالامس ) والحقيقة الوحيدة تكمن في الزيف والخداع. فلا شيء سوى الزيف المبطن الذي نعيشه كل يوم لا يفارق مضاجعنا ، وكأن الضياع صيّرنا مسوخ وشياطين لا نقوى على التغيير نتخفى تحت ستار الجبن ، قلادة طوقت أعناقنا .
إن قراءة ما بين السطور تحيلنا إلى الظلم الذي استشرى في مجتمعاتنا واخذ يحصد في ارواح الابرياء دون رادع أو صوت حق مطالب بايقاف عجلة الدم ، يفتك ولا يرحم ، وهو القاضي على أحلامنا ومشاريعنا التي نسينا كيف ننجزها وصارت رهبة الجوع والظمأ لغة الصمت المطبق على أفواهنا حتى بتنا لا نعرف الفارق بين التمني والترجي . أضعنا كل شيء ولم يبق سوى الموت يطارد اذهاننا قبل الفتك باجسادنا المنخورة المتعبة حتى تحرقت بلهيب الحياة قبل الممات ، لغة لا يدركها الا العقلاء يطرزها كاتبنا بدهاء وفطنة ، لغة الدماء السائدة وشر الاسياد الذي لا زال يلاحق كل الاحياء ويعلو كل ظلامات الارض … لا زال يمارس شمراً أساليبه القذرة فينا ولا زلنا بلا ناصر ينصر ولا رادع يبعد عنا سقم الظمأ .. دماء على حساب الفقراء مدفوعة الثمن .. أكباش تقدم للجزار بغير مناسبة ومشاريع استعمارية خاوية كي تزدهر الارض بدمائنا ، لا ذنب لنا سوى اننا خلقنا ضعفاء أردنا شربة ما ( الحياة ) . أجسادنا الفانية تلعن مناجل حياة الغرباء ، إنه طف آخر يعبر عنه كاتبنا في رسم دور الشمر ينادي ( هيهات منا الذلة ) وسرعان ما أنتشرت على السن الطغاة وصارت مضموناً فارغ ونحن نرزح تحت وطأة الذل وطفوف متعددة لا حصر لها وما زلنا نحلم … قبور متلاصقة ومقابر تزاحمت بأجساد تراكمت فوق بعض .. لا رابح غير حفار القبور الذي يزدان سروراً في كثرة الموت ويظل يدفن ويدفن ليعتاش على جثث الموتى ، ليبقى الشمر ولا يعطش مع طفوف لا ارقام لها لتعددها.. لا يحلو الطف بغير شمراً ، لتكون نهاية مأساوية أنبثقت من رحم معاناة جسدها كاتبنا بنمط ساخر تهكمي يحاكي واقعاً نعيشه على مضض .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت