هرمينوطيقيا The gam الشيطان يلاعب القدر / بقلم: د. طالب هاشم بدن .
مصطلح هرمينوطيقيا يعني علم التأويل الذي جاء ملتصقاً بالتجربة اللغوية بوصفها علامة دالة على وجود الانسان وديمومته ضمن الوجود . وقد عبر عنها مؤلفها البروفيسور الكندي ( جنززيمرمان ) بالتأويل بمختلف معانيها ومجالاتها ومن ضمنها تأويل المسرحية – موضوعة البحث النقدي – . إذ إن ثقافة الكاتب ولغته في استخدام مثل هكذا نوع من النصوص يبعث على البحث في علم الهرمينوطيقيا والفعل التأويلي الذي تضمنته خفايا كلمات النص المكتوب من خلال ضم أشياء محددة تحمل في بواطنها كلمات متنوعة صاغها الكاتب على وفق قراءة حالات مختلفة الحدوث . تشير مضامين نص ( The game) للكاتب العراقي البصري النشأة ( هشام شبر) إلى ان نصه المسرحي حمل من الافكار السوداوية النزر الكبير والتي تعد من الاعمال الناضجة ، إتخذت من فكرة الموت ملاذاً لها واختزلت الامكنة عبر فضاءات متعددة بحبوحتها مغتسل وضعه الكاتب في بناء درامي دارت حوله غالبية حوادث العمل الدرامي ، وقد اختار هذا المكان ليعبر عن بداية النهاية وانطلقت فكرة بلوغ الشيطان نهاية مسيرته مع حياة الانسان ليفترق عنه ويكون شاهداً على أفعاله شيطان رجيم اراد الايقاع به طيلة حياته متخلياً عن ذنوب وحوادث ارتكبها كان المحرك الاساس في وسوسته له عنها ، وهنا تبلغ فكرة المسرحية بالنضوج عند وقوع حوار دياليكتكي بين الشيطان والجثة هيمن على حوادث ولدت من رحم معاناة رجل التحف بكفن بعد أن فقد نعمة البصر ولم يتبق لديه سوى البصيرة . إذ اخذ كاتبنا من دكة غسل الموتى منطلقاً لأظهار رؤيته الدرامية وصناعة جو جاء متساوقاً مع بناء حركة حبكة الصراع بعد أن صيّر الحديث مع الضحية وآلامها مع دكة الموتى قائلاً
يا أيتها الدكة التي اغتسلت بي وإغتسلت بها هنا لا ضجيج ولا قيل ولا قال
يحيلنا الحوار الى ان الرؤية التأويلية قد تجلت في كلام لا فائدة منه وقد حالت بينه وبين ذلك الكلام دكة موت منعت عنه ضجيج العالم ولغطه في كلام لا طائل له فصار الصمت قابع في كل مكان فيما عدا تناغم الارواح وتبادل كلام غير مسموع عند البشر الاحياء فصل عنها عالم سفلي في ثنايا المكان الموحش ، لكن سرعان ما نجد أن شخصية الرجل الميت يحن الى ضجيج الخارج المتمثل بعالم الاحياء الذي طالما أثقل كاهله بمشاكل لا حصر لها ، وغير قادر على البوح بها ، فوجد المعادل الذي يفتقده في بحبوحته خالقاً حواراً طوباوياً يسترجع من خلاله ظلامات الزمن ومعاناة حروب لا ناقة لنا بها ولا جمل ، وكأن كاتبنا يريد الذهاب بنا إلى أحداث جرت واستهلكت من سنين عمرنا الكثير ولا زالت رحاها تأكل ما تبقى من سنين خاوية في رؤى هرمينوطيقيةلا تبوح للعلن ما تضمره من كلام مدركة خوفها وهلعها من آلة القتل الشعواء التي تطال رقاب فقراء القلم واكب حوادثها وترهلت من هول وقعها على الناس . وفي لغة الاحتجاج التي يمارسها (شبر ) من أجل إيصال هدفه الذي دار حوله نص المسرحية ( The game) نرى تداخل حوادثها وتظهر حركة حبكة الصراع بين شخصيات النص المسرحي وضعها الكاتب عبر سلسلة من الحوادث حتى يتجرد الموتى من أسماؤهم بوساطة الموت الذي يعد نهاية كل شيء وهو النهاية الحتمية للانسان ، غير إن كاتبنا بدأ من حيث الموت ولم ينته صراع شخصياته ، فما ان ندرك بداية النص المسرحي وتمظهراته في تداعي الشخصيات وتهاويها امام عجلة الموت حتى تنبري شخصية الرجل من على دكة مغتسل الموتى عبر مفاراقات وصراعات مع الشيطان كتعبير عن دوامة الموت المستمر التي صارت الخيار الذي لا بديل عنه ، فما بين الموت والحياة دكة مغتسل ،التي تعد حلقة تراتبية ربطت بين الماضي والحاضر ومستقبل مجهول لا تتوضح معالمه وعجلة الموت تسير بلا توقف عبر بوابات القتل والفتك والتعنيف اللامتناه ؛ جسدها النص المكتوب بلغة دياليكتيكة واضحة أراد من خلالها القول : السيادة لمن ؟ الموت القابع في كل مكان .. أم الحياة التي هي في حد ذاتها موت مؤجل ؟؟ إذن هنالك موت في كل ميادين الموت الفعلي وغير المتوقع حدوثه . ولا سبيل إلى العودة ، بل حتى في العودة ممات ، يحاصرنا الموت ويطبق على نفوسنا وتقتلنا آهات وعاهات مستديمة ، الحياة ممات وسجن الاجساد ممات لم تتوان في حصد الارواح ، وضياع الانسان دليل على ان الموت هو المأوى ..
ان تعبير الكاتب بلغته المنطوقة ونزوله إلى القبور حاول من خلاله تجسيد معاناة اهل الارض وما عليها من مآسي ترجمها عبر إيماءات وإيحاءات سايكولوجيةبقصد تنازع الاجساد فيما بينها تاركة أي أمل للحياة . وان دخول شخصية ( الشيخ ) على خط الازمة في أزدواجية مركبة تمثل أبعاداً فلسفية دراماتيكية أراد من خلالها كاتبنا إضفاء البعد الفلسفي الدياليكتكي ليمازج بين النفس وتقلباتها ، على أن هناك من تلون عبر تلك التقلبات وصار مع الزمن على هيئة شيخ شيطان ، إذ يحاول ان يوهم من حوله العودة إلى الحياة وتتداخل حركات وضعها الكاتب عبر كوريغرافية الشخصية لتشكل مجالاً ابداعياً في تداخل الحركة مع الشخصيات وتنوع شكل الاداء لتساهم فيتأثير تغريب النص عبر حركات إيمائية تجسد وتوضح ان السحر قيّده وعبث بقواه ، بوصف أن الاول يخاطبه قائلاً
أنت الصيد الذي أنتظرناه ..
الثاني : اهدأوا ودعوا الشيخ يستوعب الصدمة .
ان المتفحص لنوع الصراع الدائر مع الحوار المنطوق يرى أن تشكيل الصدمة تدرج في رسم حركة الصراع وصاغ خيوطه العنكبوتية بعد ان تمكن من فريسته وقيد أطرافها بدءاً في زجها بمكان لا مخرج منه وانتهاءاً بفرض قبضته عليها وحصرها بزاوية تلاعب بها قدرها الذي قادها إلى هذا المعترك فنجد الصراع ينمو بشكل هرمي حتى تدرك شخصيات النص المسرحي ان الامور بدأت تستتب واخذت توقع بالشيخ في محاولة لبيان هلاك الحكمة والعقل التي تبدو من خلال الصراع الدائر ان مخططات الشيطان توجت بالنصر . إذ خلقت ديناميكية النص تواصلية على وفق تماهي في علاقات بلغت ذروتها في وضع الشيخ على دكة المغتسل ، من جهة بدأت باقي الشخصيات بالتهامس والتآمر على انهاء الصراع ، في حركات كروباتيكية ينتهي الصراع بكلمة
حين تعبرون الخطوط الحمراء تندمون
وكأن الكاتب يخبرنا بأن مصير الانسان متعلق بخط لا يتجاوزه حتى لا يتكلف خسارة حياته . وقد تعلق مصيره حتى بعد الموت بهذا الخط الذي وضع على نفسه دون ان يعي ماذا وكيف التخلص من عبودية هذا الخط . كي تبقى العروش بعاجيتها وتيجانها شاخصة وخطوطها حارسة لها ؛ مسندة على أكتاف الفقراء المعدمين عبر سلسلة من الدماء ، وهذا ما أراد ( شبر ) الغوص في ثنايا هرمينوطيقيته من خلال كتابة نصه الذي يمكن تصنيفه تراجيكوميديسوداوي على وفق معطياته ومخرجاته الادبية الممزوج بالامكنة وتحولات الشخصية وطفراتها الفنتازية بطرائق تماهت ما بين الواقع والمتخيل . وتبقى الارواح المسلوبة المتحولة ما بين شخصيات النص المسرحي يتلاعب بها الشيخ الشيطان ولم يعد أحد راغب بالعودة الى الحياة . بيد أن عنصر الادهاش في النص المذكور يكمن في مقايضة الارواح مع الشيطان الذي قاد اللعنات على الناس بأفعالهم وتنصل عنها بعد أن أوقع بهم لتكون بها خاتمة النص المسرحي .