هل للنقد خطاب ؟؟…. فلتسألوا النقاد/ بقلم: د. محمود سعيد

إن للنقد وظائف عديدة منها: “الحكم أو النقد أي الاهتداء إلى مبررات تؤيد حكم القيمة غير أن للنقد وظائف أخرى فهو يحاول أن يفسر أو يوضح العمل الفني”([1]).
إذن تتحدد بعض من وظائف النقد في ضرورة الحكم والتفسير، وهو – أي الناقد – يهدف من وراء ذلك إلى ضرورة الاقتراب بالعمل المسرحي، من الجمهور ليتفهموا هذا العمل وأبعاده.
” خاصة إن الخطاب شيء بين الأشياء، وهو ككل الأشياء موضوع صراع من أجل الحصول على السلطة …” ([2]). هو إذن ليس انعكاساً للصراع أو من أجله، بل هو مدار يشكل نصاً يستثمر الرغبة ليمثل مدار الرغبة والسلطة، لذلك فكما يعتقد فوكو فإن الخطاب لم يكن موضوع سلطة بل المدار الحاسم لها. والسلطة هنا تعتمد على مدى هيمنته على نظام التواصل داخلياً وخارجياً ثانياً؛ ولذلك فإن الخطاب هو استراتيجية التلفظ، أو نظام مركب من الأنظمة التوجيهية والتركيبية والدلالية والوظيفية النفعية التي تتوازى وتتقاطع جزئياً أو كلياً فيما بينها؛ فالإنسان يتقابل وجهاً لوجه مع خطابه كونه كائناً خارجياً مستقلاً لايخضع لقواعد وجوده الموضوعية، ولما كان للخطاب سلطة اجتماعية”([3]). وسياسية ونفسية، يشعر بها أفراد المجتمع في مجتمعاتهم كلها من خلال الواقع المعاش؛ فإن الخطاب سنجده مختزلاً في النصوص الأدبية على أنواعها وأشكالها المتعددة، التي تحرص أن تستقي خطاباتها من المجتمع ومؤسساته التي تتولى مهمة إعداد شروط إنتاجه وتداوله، لتقوم هذه النصوص بعد ذلك بمهمة توظيف هذه الخطابات في مجتمع جديد تمثله سياقات النص وعلاماته ورموزه، خاصة خطاب النقد.
“ويعتبر الخطاب هنا بمثابة حدث، أي أن شيئاً ما يحدث عندما يتكلم أحدنا، وتفرض هذه النظرية، نظرية الخطاب كحدث، نفسها بمجرد ما تأخذ بعين الاعتبار العبور من لسانيات الكلام أو الرموز، إلى لسانيات الخطاب أو الإرسالية”([4]).
“وعلى ذلك فإن الخطاب هنا هو حالة من حالات التحول المستمرة يكون (الفعل) أي فعل الخطاب هو الحلقة التي يدور في مركزها الخطاب كله، فهذا الفعل يمثل القوة التي تحرك الذوات والأحداث بوصفه يملك طاقة مهيمنة أو مسيطرة على الخطاب؛ وعليه فهوى الذات يمكن أن يكون حصيلة فعل ما داخل النص، ليس هذا فحسب بل إن الهوى ذاته، الذي يبدو باعتباره خطاباً من درجة ثانية مودعاً في الخطاب، يمكن أن يكون في الوقت ذاته فعلاً..” ([5]). فهذا الهوى (الفعلي) يرتبط ارتباطاً مباشراً بالذات الفاعلة التي تسعى بطريقة واعية أو غير واعية عن طريقه إلى الهيمنة أو السيطرة على فعل الخطاب عامة.
والبحث عن الدروب الملتوية التي تسلكها معاني الأشياء والممارسات ودلالاتها، خصوصاً أن الذات لاتختفي لتُحل الخطاب وحده محلها، “بل لتُحل الممارسة الاجتماعية المركبة محلها ومن ضمنها الممارسة الخطابية، ومن ضمنها أيضاً الفرد الحديث كونه فاعلاً ونتاجاً لمجمل تلك الممارسات”([6]). فكل خطاب مرتبط بدرجة ما وعلى هذا النحو بالعالم الواقعي الذي يقع تحت سلطته خطاب النص بذواته وأحداثه وسيرورته.
خاصة أن الخطاب يدرك زمنياً وفي لحظة آنية، في حين أن النظام أو النسق اللغوي افتراضي وخارج الزمن. ولذلك فإن الخطاب بما يحمله من فكر يهيمن على النص، وعلى الذوات المشتغلة في سياقاته، لتسقط بدورها تلك الهيمنة قصدياً أو لاقصدياً على المتلقي، وهو محاولة للاشتغال على الخطاب المهيمن والمندفع من هوى ذاتي أو مجتمعي بوصفه مؤسساً لفكر ما، إنها أفعال خطابية هووية تنتقل من حالة إلى أخرى ضمن سياق خطابي معين في محاولة لتجسيد التوترات باعتبارها توجيها وهو شرط أساسي ليكون الاستهواء قادراً على تجسيد ذلك التركيب الذي وقع فيه هذا الفعل الخطابي أو ذاك، في ظل فرضية هامة هي … “إن كل مبدع، مهما كان المنعرج الذي تسلكه النظرية الأدبية، يفترض فيه أن يتحدث عن أشياء وظواهر، “إن غرض النقد ليس “العالم” وإنما إنشاء Discourse ما، إنشاء شخص آخر: النقد إنشاء عن إنشاء؛ إنه لغة ثانية، أو لغة عن اللغة Meta Language (كما يمكن للمناطقة أن يقولوا)، تعمل في لغة أولى (أو اللغة – الموضوع)، ويتبع هذا أن على اللغة النقدية أن تتعامل مع نوعين من الصلات: صلة اللغة النقدية بلغة المؤلف المدروس، وصلة هذه اللغة – الموضوع بالعالم، إن الاحتكاك مابين هاتين اللغتين هو ما يحدد النقد”([7]).
النقد الأدبي، كما يعرفه رينيه ويليك Rene Wellek، “إنشاء عن الأدب” وهو بهذا يشمل: الوصف والتحليل، والتفسير، إضافة إلى التقويم، لأعمال أدبية محددة، ومناقشة مبادئ الأدب ونظريته وعلم جماله. ومعنى هذا أن صلة النقد بالأدب صلة أقل ما يقال فيها إنها وثيقة، بل هي محددة وعضوية:
محددة لأن طبيعة النقد الأدبي تتحدد بموضوعه الماثل فيه صراحة أو ضمناً، بالفعل أو بالقوة.
النقد هل هو كذب واعي؟
على نفس الوتيرة من الكذب الواعي ربما يسير الناقد الواعي الذكي كي يصل إلى المتلقي ولاينفصل عن المبدع، فالنقد يحتاج لكذب منظم، ومراوغة محسوبة، وبهلوانية تناسب كل عصر، وتلك أحد محددات خطاب النقد في كل عصر، أو على الأقل أحد النقاط الهامة فيه، حيث مرونة ووعي الناقد المسرحي ، اذانبعض المجلات الأدبية الأكاديمية في شتى دول العالم باتت تعني عناية فائقة بمفهوم النقد الأدبي ودور الناقد في إيضاح شروط اللعبة الثقافية ودفعها إلى النمو الداخلي، لذلك غالباً ما كان يطرح سؤال حيوي، هل يمكن الناقد أن يصل إلى حالة من الرضى عن إنتاجه؟، وبعد جدلية مستفيضة ينتهي القول بأن هذا الرضى لايتم إلا بحرية الموقف النقدي الذي يبلغه الناقد، ونجد محاولة جادة من بعض النقاد لإقناعنا بأن سيرة الناقد، أو الظرف الذي يوصله إلى حمل هذه الصفة، هو العنصر الأساس في المحاسبة الذاتية والوصول إلى حالة الرضى.
ولكن هل يكفي كي نطلب الرضى من الناقد، وهذا ربما أغلى ما نطلب؟ إنه سؤال يدفعنا إلى ذكر ملاحظة حول الكتابة النقدية هي أن سلامة الموقف النقدي لابد لها أن تقترن بمنهجية مستمرة، بحيث لا قرار لها إلا لتكشف طاقة جديدة أو بعداً آخر، يكون هو مجالاً لتساؤلات مستحدثة، من هنا يستحيل في الختام أن نطلب من الناقد مثل ذلك الرضى.
ثم أليس الناقد هو المنعطف الذي ننتقل عبره من الموروث التقليدي إلى الإضافة الحضارية؟ أليس هو الموشور الذهني الذي تنعكس عليه الرؤى المتجانسة أو المتعاكسة في الإنتاج الأدبي؟ لذا يبدو من الصعب الاعتماد فقط على عنصري الحرية الفكرية والمخزون الثقافي لاكتمال العمل وبالتالي لاستنفاد مهمة الناقد. إذ لابد من دافع تحريضي تلقائي يسعى بغية كشف متواصل عن معالم الحركة الأدبية من خلال الأثر المنقود.
ولايتردد الكاتب دون سرد بعض الحوادث التي تكون عابرة في سيرة الناقد إنما تؤدي في صورة مباشرة، أو غير مباشرة، إلى بلورة هويته النقدية ليخلص إلى أن بعض العوامل الاجتماعية التي يمكن للناقد ردها أو حتى الوقوف حيالها، تسهم في تركيز اهتمامه النقدي، وبالتالي إعطاء دور التوجيه الفكري والجمالي في إنتاجه، الحجم الذي يستحق.
في هذا الكلام كثير من الخطورة، لأن فيه من الترف الفكري ما يسمح للناقد أن يلقي بعضاً من مسؤوليته على عاتق ما لايستطاع رده أو حتى مواجهته، ولكن إن كان للعنصر الثالث من عناصر تكوين الناقد، أي عنصر البحث التحريضي الخلاق، إن كان له من دور أساسي، فلا مفر عندئذ من تخطي العوامل المكبلة للناقد، من اجتماعية وغير اجتماعية، وهي عوامل قديمة متجددة.
فالناقد يبقى المرآة التي نحاول عبرها المطابقة بين ماهو كائن وما سوف يكون، بين واقع ومرتجى، بين جمالية بالفعل وجمالية بالقوة، وظاهرة الاهتمام المتزايد بنقاد الصحافة الأدبية مردها إلى أن الفنون الأدبية بدأت تتخذ حجماً جماهيرياً، فتتحول بالتالي صحافة الإعلام الأدبي إلى صحافة النقد الأدبي، ويتعذر من بعد تجاهل دور الناقد في تكامل الفعل الحضاري قديماً وحديثاً، هو دور مهم للناقد لابد من استنطاقه بشتى الطرق.
 
الإحــالات:
([1]): جيروم ستولينر: النقد الفني، ترجمة: فؤاد زكريا، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2013، ص237.
([2]) : فوكو: نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2007، ص66.
([3]): عائشة الدرمكي: سلطة الخطاب والإنتاجات الرمزية، مجلة الراوي، النادي الأدبي الثقافي بجدة، السعودية، العدد 30، ديسمبر 2015، ص9.
([4]): بول ريكور: من النص إلى الفعل، ترجمة: محمد برادة، حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 2001، ص79، 80.
([5]): جريماس وجاك فونتيني: سيميائيات الأهواء، ترجمة: سعيد بنكرار، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2010، ص101.
([6]): عبدالسلام حيمر: في سوسيولوجيا الخطاب، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2008، ص223.
([7]): عبد رب النبي أصطيف: بين النقد والأدب، مجلة علامات، الجزء الثالث، السعودية، 1992، ص162.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت