فوبوس وديموس لثنائية العرض المسرحي… لماذا ثنائية العرض المسرحي؟/ ميثم السعدي
لقد افترضت ان كل الفنون بما فيها الموسيقى والرقص والتشكيل هي كالمجموعة الشمسية، وافترضت ان الفنون المسرحية هي مثل كوكب المريخ، وان ابتكاري افترضت انه كما قمري المريخ فوبوس وديموس، فحين يأفل القمر فوبوس يظهر القمر ديموس. ومن هذا الافتراض انبعثت فكرة عرض مسرحيتين في آن واحد، وعلى خشبة مسرح واحدة، ولجمهور واحد ولكي أنقل كلّ هذا وأجعله صورة مطبقة على أرض الواقع كان لا بدّ من تقسيم خشبة المسرح إلى قسمين و كل قسم مستقلا عن القسم الآخر مع الحفاظ على جغرافية المسرح المعروفة [مقدمة يمين / وسط يمين / عمق يمين/ مقدمة وسط/ وسط وسط / عمق وسط / مقدمة يسار/ وسط يسار/ عمق يسار]، ويكون على القسم الأول من المسرح بجغرافيته الكاملة مسرحية بنصٍ وممثل وديكور وسينوغرافيا وإضاءة وأزياء ومخرج، وعلى القسم الثاني نصّ ثانٍ يختلف تماما عن نصّ القسم الأول في كل شيء بما في ذلك الديكور والإضاءة والازياء والإخراج وما إلى مثل هذه الأمور.
أما عن مبدأ التجديد والتغيير الذي تطرحه رؤيتي للمسرح المقسم إلى ركحين، فإني استلهمتها من (أثداء تريسياس)، مسرحية الأديب الفرنسي أبولينير والتي قال عنها إنها دراما سريالية تهدف إلى بعث روح جديدة من المرح والترف. وقد كان يتمنى لو أنها عُرضت على مسرح دائري به خشبة مسرح تتوسط المتفرجين وأخرى تحيط بهم في شكل دائري، ليتسنى له توزيع ومزج كل عناصر العرض- من أصوات وحركات وألوان وصرخات وموسيقى ورقصات وشعر وكورس وديكورات مركبة وممزوجة مزجاً سليما قد يتنافى مع الواقع المألوف، ولكنه يتفق ومتطلبات هذا النوع الجديد من المسرح الذي قدمه أبولينير. وكذلك فقد استلهمت فكرة المشروع من الظاهرة الفلكية للقمر المريخ حيث افترضت ان جميع الفنون تشبه المجموعة الشمسية وان المسرح يشبه المريخ وان ابتكاري يشبه الظاهرة الفلكية للمريخ فهو يحتوي على قمرين فوبوس و ديموس وحين يأفل القمر فوبوس يظهر القمر ديموس, وكذلك حين يكتمل المشهد في مسرح فوبوس يظهر المشهد في مسرح ديموس وهكذا يستمر العرض حتى الختام المشترك للمسرحيتين.
وإلى جانب الاهتمام بتفاصيل هذا المشروع الجديد، من خلال توظيفي لنصوص مسرحية من تأليفي، فإنه لم يفتني أن أرسل ابتكاري إلى مؤسسة حماية حقوق المؤلف في الولايات المتحدة، والتي حصلت منها على شهادة تسجيله، وأرسلت فيما بعدُ كلّ ما يخص هذا الابتكار إلى الأستاذ عمر فطموش محافظ بجاية الذي أبدى إعجابه به، وأرسل لي دعوة لأحضر وأشارك في فعاليات مهرجان بجاية الدولي للمسرح بالجزائر، وهناك حوّلتُ التجربة من نظرية على الورق إلى عمل فعلي ومجسد فوق خشبة المسرح، فكان النجاح حليف هذا الابتكار، وقد تبنى الدكتور سيد علي إسماعيل المشروع كله وجعله ضمن المنهج الدراسي لطلبته في قسم النقد بكلية الآداب (جامعة حلوان / جمهورية مصر العربية)، وأصبح أيضا معتمدا في امتحانات الجامعة السنوية، وقد ناقش الطلبة المشروع مع أستاذهم وتوصلوا إلى نتائج مهمة وأسئلة كان لابد من دراستها. وبالوقت نفسه كنتُ في بحث وتمحيص مع الدكتورة أسماء غريب الناقدة والباحثة الأكاديمية المقيمة في إيطاليا، حيث توصلنا إلى خطوة مهمة وهي تغيير عنوان الابتكار من (ثنائية العرض المونودرامي المزدوج) إلى (فوبوس وديموس لثنائية العرض المسرحي)
وكانت هذه أول خطوة نحو أفق أوسع لفوبوس وديموس، ذلك أنني وجدت هذا العنوان الجديد (ثنائية العرض المسرحي) يسمح و يعطي حرية ومرونة اكثر في اختيارالنصوص، لأنه سوف يسمح لمشروع فوبوس وديموس ألا يكتفي فقط بالعمل على نصوص المونودراما بل ستتعدد اختياراته ويجرّب العمل أيضا على نصوص أخرى تتنوع وتتعدد فيها الشخصيات، على أن يراعى مبدأ إيصال مفهوم وفكرة المسرحيتين إلى ذهن الجمهور.
أمّا فيما يتعلّق بأهداف ثنائية العرض المسرحي فهي عشرة، وقد حاولت جاهدا تحقيقها في النسختين التطبيقيتين السادسة 2014 بمسرحيتين الاولى “فلا انا بلقيس ولا فيكم نبي” بطولة الفنانة فتيحة وراد والثانية بعنوان “عواقب” بطولة الفنان ابو بكر شرفي وفي النسخة السابعة 2015 بمسرحيتين الاولى “سنة حلوة يا ذبيح” بطولة الممثلة راوية بوتيي والمسرحية الثانية بعنوان “هلوسة” بطولة الممثلة سيرين بركاني وذلك في مهرجان بجاية الدولي .
والاهداف هي:-
1) الارتقاء بفن المونودراما.
نعم، إذ لابد من الخروج بالمونودراما من هوّة التكرار والملل والإسفاف التي سقطت فيها بسبب اعتقاد البعض من المخرجين والممثلين ومنظمي المهرجانات الذين يرون في المونودراما نوعا مسرحيا سهل الكتابة، قليل التكلفة وسهل التنفيذ لأنه يقوم على تقنية الممثل الواحد ويمكن المشاركة به في المهرجانات لأنها لا تشكل أيّ عبء على المنظمين، ولعلّ هذا ما جعل الجمهور يعزف عنها لأنها لاتحقق له ما يصبو إليه.
2) تنمية زيادة التركيز عند المتلقي.
بعد مرور فترة من التمارين وبعد نضوج العملين، وبعدَ أنْ خصّصتُ فوبوس لمسرحية (فلا أنا بلقيس ولا فيكم نبي) وديموس لمسرحية (عواقب)، طلبتُ أنْ يحضرَ بعض الأصدقاء لمشاهدة التمارين، وبعد إكمالها سألت المشاهدين عمّا إذا كانوا قد أدركوا معنى المسرحيتين وما فيهما من أحداث، فكان الجواب شافيا، عندها فقط شعرتُ بالارتياح لوصول الأفكار للمتفرجين، وهذا يعني أنّ الخطوة الأولى قد تحققت، خاصة وأنّ الحضور أثناء العرض كان يقدّر بخمسمائة متفرج، ولو كان الجمهور مستاءً لما بقي ساعة كاملة يتابع ما لا يحب، وفي ختام العرض صعد الجمهور إلى خشبة المسرح وردد: (عاش العراق، عاشت الجزائر). نعم، لقد نجحت التجربة، وأهدافها المذكورة أعلاه .
3) تحفيز الذهن على سرعة تحليل الأحداث.
بعد نهاية العرض المسرحي شاهدتُ ردود فعل الجمهور الذي كان أغلبه من المختصين، حيث صرّحت الأستاذة حميدة آيت الحاج أنها كانت تتمنى لو أن العرض دام لساعة ونصف، لأنها كانت مستمتعة بتنوع الأحداث النّابع من كوني استعنت ببعض أفكار التكعيبيين القائمة على تفتيت الحدث ثم تجميعه بشكل جديد. وإضافة إلى الصحفيين والنقاد، كان ضمن الحضور أيضا خلال المؤتمر الدكتورة قنّة التي شخصت بعض الأمور وناقشت معي بعض الأفكار، وقد كنت سعيدا بطروحاتها لأنها طيلة العرض كانت متفاعلة مع العرض إلى حدّ البكاء. إلا أن هذا لم يمنع من ظهور بعض الجوانب السلبية، منها مقاربة بعض النقاد للتجربة بشكل سطحي وساذج، فهم لم ينتبهوا في (عواقب) على سبيل المثال لا الحصر إلى رمزية الرذم البطيء والضوء المعتم، والتي تعبر عن مدى عمق الظلم والظلام والمعاناة التي يكابدها العراقيون في بلدي بكل ما تحمل الكلمة من معنى. كان النقد مع الأسف خاليا من كل موضوعية وعلمية، في الوقت الذي أدرك فيه المشاهد البسيط حجم الألم منذ اللحظات الأولى لعرض (فلا أنا بلقيس ولا فيكم نبي) ، حيث الضوء الأزرق الذي يظهر من نافذة البيضة أو السجن، يرمز إلى الولادة الظلماء والبطيئة، وإلى الحياة الرتيبة التي يتخللها القتل والظلم والجور: هذا ماقاله مجموعة من المشاهدين!
4) سرعة الاستنتاج.
تجلّت سرعة الاستنتاج في الكيفية التي تفاعل بها الجمهور حين كان يحلل ويفكر ويبدي ردود أفعاله عند أداء الشخصيات، وقد عملت في أحد المشاهد إلى أن تقوم الممثلة بحكاية ما حدث لوالدتها دون أن تؤدي أحداث الحكاية، وحتى الممثلين عاشوا لحظات الاستنتاج أثناء التمارين، وكانت المهمة صعبة جدا فالعرض المسرحي كان خلاصة تمارين لم تدم سوى لعشرين يوم فقط، ولم يكن بوسعي التراجع لقصر المدة المتاحة. وقد تحقق نجاح ثنائية العرض المونودرامي المزدوج بنسبة 90%، إلا أن نجاح الإخراج كان بنسبة أقل، نظرا لقصر الفترة التدريبية، ويبقى الأهم هو نجاح فوبوس وديموس .
5) تحفيز الذاكرة الانفعالية عند الجمهور.
من خلال أكثر من مشهد في مسرحية (فلا أنا بلقيس ولا فيكم نبي) كان أداء الممثلة وفق ما تدربنا عليه، وهو تحفيز الذاكرة الانفعالية عند الجمهور من خلال مشاهد قصيرة جدا تجعل المتلقي يعبر عن أسفه لما يحصل في هذا العالم من خطر يهدد الإنسانية كلها.
6) اختزال الوقت.
لقد تم تحقيق هذا الهدف أيضا، فلو كنا نودُّ عرض كل مسرحية على مسرح مستقل لاحتجنا إلى ساعات طويلة لنصب الديكور وتهيئة الإضاءة والمستلزمات كلها. لا أعني هنا الوقت بمفهومه العامّي، ولكن الوقت الذي تعيشه الشخصيات لطرح مأساة وطن استفحل فيه اللصوص والقتلة وتشردت فيه ملايين الناس، فكان الرمز متداخلا لمصائب حدثت ولم تزل تحدث لليوم في وطني وفي أوطان أخرى. لقد عاش الجمهور متفاعلا حتى نهاية العرض فكان يوما سعيدا لجميع فريق العمل، ممثلين وفنيين، ومن كثرة المهنئين، وأغلبهم لا أعرفهم، نسيتُ حتى من هنئني ممن أعرفهم، لقد اختزلنا الوقت حتى في التهنئة المشتركة، وكان أغلب الجمهور قادما من مدن تبعدُ عن ولاية بجاية بأكثر من 20 ساعة: (تمنراست والأغواط والعاصمة ومدن أخرى) .
7) منح مهندسي الإضاءة والمصممين لها والسنوغراف وباقي الفنيين الأفق الواسع للإبداع والحرية الكاملة للمُمثلين.
حينما التقيتُ بالفنيين والتقنيين للتباحث بخصوص سينوغرافيا فوبوس وديموس، قال لي آنذاك منفذ الديكور إنه سيختار الإسفنج كخامة لتنفيذ الديكور، لمْ أبْدِ أيّ اعتراض منّي ولكنّي اقترحتُ عليه أنه ربما سيكون الديكور أفضل إذا تمّ تنفيذه بمادة الجنفاص (الخيش) في الجزء الخاص بديكور ديموس، أيْ بمسرحية (عواقب). ولأنني أحببت أن أعاين عن كثب النتائج الخاصة بهذا البنذ، فقد حصل أن كان تنفيذ الديكور رائعا، لكن خامة العمل كانت خاطئة 100%، وهذا يدخل في إطار العبر والدروس التي أفدتُ منها وفريق العمل أثناء التطبيق الفعلي لثنائية العرض المونودرامي المزدوج، وقد أشرتُ إليها في المؤتمر الصحفي دون أن أغفل الحديث عن أخطائي أيضا، وبجرأة عالية. أمّا عن موضوع المؤثرات الصوتية والضوئية فقد كان رائعا بغض النظر عن آراء بعض المختصين الذين لم يدركوا الرمزية التي كنت أرمي إليها من خلال الضوء المعتم في ديموس مسرحية (عواقب)، والفوضى في فوبوس مسرحية (فلا أنا بلقيس ولا فيكم نبي). ومن هذا المنبر أقول إنه حينما تمنحُ الحرية للفنان الممثل والتقني في كل شيء، على المخرج الذي هو مرآة الممثل والعين الثاقبة للعمل أن يمارس سلطته التصحيحية للعمل .
8/ إطلاق العنان للجمهور في التركيز والولوج في حيثياث العروض.
لقد كان للجمهور الذي شاهد العرض التطبيقي وجهات نظر غاية في الأهمية، منهم من طلب مني أن أغيّر العنوان لأنه طويل، ومنهم من سألني عن معنى فوبوس وديموس، ومنهم من نعتني بالجنون حينما علم بمسألة عرض مسرحيتين في وقت واحد وما كان عليّ سوى أن أشرح للجميع فكرة فوبوس وديموس كاملة، وعلاقتها بنظرية العبث، إلى أن تبين لي، أنهم فهموا وتتبعوا بشكل جيد أحداث المسرحيتين. ولم أزل أتذكر أيضا فنانا عربيا ذائع الصيت، كان قد قال لي: “يا أستاذ أخشى أن يخرج الجمهور ما إن ينتهي عرض المسرحية الأولى”، قلت له: “لا،لا، اطمئن، سيبقى الجمهور حتى النهاية” وحينما انتهى العرض صرخ على المسرح: “أنت يا عراقي، فنان كبير” إنه الأستاذ الممثل الرائع عبد الباسط، وقد اكتشفت فعلا كيف أن الجمهور الجزائري يتمتع بذائقة فنية رائعة، ولو شعر بالملل لترك العرض وخرج. وقد كنت خائفا حتى النهاية، حيث كنت وراء الكواليس مؤديا دور الصوت مع بطل مسرحية (عواقب) وشعرت عند الختام بذهول كبير، وبكيت من فرط الفرحة!اذ وجدت اغلب الوفود والجمهور قد ارتقى الى خشبة المسرح للتهنئة والاعجاب الكبير بالعرض المسرحي الذي اعتبر ان الجزائر هي الرائد الاول لفوبوس وديموس في العالم.
9) فتح آفاق للحوار والنقاشات الفلسفية الخاصة بالمسرح.
إن الإحباط الذي أصاب العالم بسبب الأحداث التي تجري في وطني وبعض البلدان، جعل الناس يقبلون بالأمر الواقع ويخافون التغيير، فحتى ذاك التغيير الذي حدث في السلطة بالعراق، كان بديله أسوأ مما كان عليه الحال آنفا.
إن أهم أهداف ثنائية العرض المونودرامي المزدوج هو فتح باب النقاش والبحث، وهذا ما حدث بالفعل بعد إعلان وإشهار ثنائية العرض المونودرامي المزدوج. إلا أنه في البداية ومع كامل الأسف تعامل البعض مع هذا الابتكار بتهكم وظهر أكثر من شخص يدعي أنه فكّر بهذا، أوأنه كان في نيته الإعلان عنه قبلي. وبعد التطبيق العملي أثناء المشاركة في مهرجان بجاية الدولي غيّر معظم المعترضين موقفه، ولم أتخذ من جانبي أيّ موقف عدائي منهم، لأني أومن بحرية الرأي والاعتراض أيضا، وفي النهاية تبقى لكل إنسان قناعاته.
10) منح فرص وأفق أوسع لطلبة الدراسات العليا للدرس والبحث في مجالات جديدة وغير تقليدية.
تحقق هذا الهدف بالفعل حيث كتب أكثر من ناقد مسرحي ومختص بالشأن المسرحي مقالات ودراسات عن هذه التجربة في العراق وفي أمريكا والجزائر الحبيبة، ناهيك عن بعض الأصدقاء الذين كتبوا نصوصا مسرحية وفقا لفلسفة وأهداف ثنائية العرض المونودرامي المزدوج. أما الصحف العربية الورقية والإلكترونية منها فقد أجرت معي حوارات مطولة بخصوص التجربة التطبيقية. إضافة إلى هذا، أصبحت تجربة ثنائية العرض المونودرامي المزدوج محط اهتمام العديد من طلبة الدراسات العليا سواء داخل العراق أو خارجه