قراءة في فضاء استطيقيا الموسيقى التصويرية…بين شوبنهاور و هانسليك (الجزء الثاني)/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
لقد فهم شوبنهاور – المحب الحقيقي للموسيقى – هذه الحقائق بوضوح وعمق، فإذا كانت الموسيقى تعبر عن الشعور فإن السؤال الملح عن الكيفية التي تعبر بها الموسيقى عن الشعور، هو سؤال يمكن أن نلتمس إجابته الشافية من خلال قراءتنا لشوبنهاور، فالموسيقي – كما بين لنا شوبنهاور – تعبر عن الشعور والعاطفة بطريقة عامة كلية: “فهي لا تعبر عن هذا البهجة الجزئية أو تلك، ولا عن هذا الحزن أو ذاك، ولا عن ذلك الألم أو الخوف أو السرور أو المرح أو طمأنينة النفس، وانما تعبر عن مشاعر البهجة والحزن والخوف أو السرور والمرح وطمأنينة النفس ذاتها، أي تعبر عنها بطريقة مجردة الى حد ما، فهي تعبر عن الماهية الباطنية لهذه المشاعر دون أية إضافات ثانوية، ولذلك فهي تعبر عن هذه المشاعر بدون دوافعها”([1])، ولذلك فإن المشاعر التي تثيرها فينا الموسيقى لا تشبه تلك المشاعر التي نمر بها في حياتنا اليومية، وفي ذلك يقول شوبنهاور: “إن من يسلم نفسه للأثر الذي تحدثه فيه سيمفونية ما، يبدو أنه يرى كل المشاهد الممكنة للحياة والعالم تحدث في نفسه، ومع ذلك فإنه إذا تأمل الأمر فلن يجد أي تشابه بين الموسيقى والأشياء التي مرت أمام عقله” ([2])
وبالتالي فان كل هذا يجعلنا نعيد النظر في تصور الموسيقى باعتبارها فنا لا تمثيليا، فالواقع أن تصنيف الفنون الى فنون تمثيلية تتمثل موضوعا مستمدا من الحياة أو العالم كالتصوير والنحت والأدب، وفنونا لا تمثيلية لا تتمثل موضوعا معينا يقبع خارج إطار العمل كالمعمار والموسيقى الخالصة، هو تصنيف يصبح موضع شك، بل يبدو تعسفيا، والحقيقة أننا نوافق تماما على وصف الموسيقى المطلقة أو موسيقى الآلات بأنها فن خالص ولكل منها مفاهيم وحدود جمالية وفكرية، ولكننا لا نرى ترادفا بين مفهوم الموسيقى كفن خالص والموسيقي كفن لا تمثيلي. فالفن الخالص يعني ذلك النمط من الفن الذي يكون قادرا على التعبير بوسائطه الخاصة دون حاجة للاستعانة بوسائط مادية من الفنون الأخرى، ودون حاجة لتمثل موضوع محدد أو معين في الواقع الخارجي، ولكن هذا لا يعني أن الفن الخالص يصبح لا تمثيليا، فالتمثيل في الفن قد يكون لأفكار ومشاعر وليس فقط لموضوع معين، والفن الخالص عندما يتمثل فكرة أو شعورا ما – والموسيقى هنا تمدنا بأفضل مثال – فإنه يتمثل صورة هذه الفكرة أو الشعور دون إشارة أو محاكاة لموضوع ما، أي يتمثلها بوسائطه التعبيرية الخالصة.
والحقيقة أن الافتقار الى التمييز الدقيق بين هذين المفهومين هو السبب الرئيسي في سوء فهم الشكلانيين من أمثال هانسليك لقضية التعبير الجمالي في الموسيقى، وهو أيضا السبب في قصور النزعة الشكلانية في مجال نظرية النقد في الفنون الأخرى، التي أرادت أن تحذو حذو الموسيقى المطلقة أو الخالصة في طرائقها التعبيرية، فمالوا الى القول بأن الجميل في الفن هو صورة خالصة معبرة لا تحتاج عند تأملها أن نستحضر معنا شيئا من الحياة ومن ثم، فقد خلطوا أيضا بين مفهوم التصوير الخالص والتمثيل الفني.
إن الموسيقى الخالصة هي نوع من التعبير الجمال التجريدي، ولكن شريطة أن نعي أن التجريد في الموسيقى لا يعني التجرد من الدلالة بالنسبة للواقع والحياة الإنسانية وانما يعني التعبير عن هذه الدلالة بطريقة مجردة أي دون تمثل لموضوع محدد أو لظاهرة جزئية في الواقع الخارجي، وهذا هو ما يسمى “بالحياد الاستطيقي”([3]) كشكل من أشكال التعبير عن الجميل في الفن، فكما أن المشاعر الواقعية التي نصادفها في حياتنا اليومية تكون محايدة من الناحية الاستطيقية، أي ليست لها علاقة بالاستطيقي أو بالجميل في الفن، كذلك فإن المشاعر (الاستطيقية) التي تنبثق من العمل الموسيقي نفسه تكون بدورها محايدة من جهة الواقع، مادامت لا تعبر عن شعور محدد يماثل المشاعر الجزئية الواقعية، وانما تعبر تجريديا عن صورة هذا الشعور، فمفهومنا عن “الحياد الاستطيقي” أو حياد الموضوع الجمالي من جهة الواقع، لا ينبغي إذن أن يختلط بذلك المفهوم الشائع عن تجريد الفن من البعد الإنساني.
يصبح فيه الفن مقطوع الصلة بالواقع والحياة الإنسانية لأن التجريد في مفهومنا لا يعني عزل الفن عن الواقع الإنساني، وإنما يعني صياغة هذا الواقع على نحو تجريدي، كما لو كنا نقدم مماثلا له بلغة الفن دون أن نستعير أو نحاكي شيئا منه، فالفن هنا يمكن أن يعبر عن كل شيء وأي شيء دون أن يشير الى أي شيء أي دون أن يشير الى شيء بعينه، والموسيقى المطلقة أو الخالصة – أعني موسيقى الآلات – هي الفن الذي يمدنا بأفضل نموذج على هذا الشكل من أشكال التعبير الفني، وذلك حينما تعبر عن صورة الشعور دون موضوعه، أي عن صورته المجردة بلغة شوبنهاور فيها وسائط التعبير الموسيقي مع وسائط من الفنون الأخرى: كالشعر (كما في الأغنية)، والنص الأوبرالي (كما في العرض المسرحي الأوبرالي) والصورة السينمائية (كما في الفيلم)؟ وبتساؤل أخر: هل هناك تغير يطرأ على طبيعة التعبير الجمالي الموسيقي عندما تصبح الموسيقى مندمجة في هذه الأشكال الفنية ؟
الإجـــالات
[1])) – Arthur Schopenhauer. The World as will and Idea, Trans, R. B. Haldanand J. Kemp, 3 vols. (London: Kegan paul, 1983), vol. 1., p338
[2])) المصدر السابق نفسه،ص340
[3])) سعيد توفيق، مداخل الى موضوع علم الجمال: بحث عن معنى الاستطيقي (القاهرة: دار النصر للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية سنة 1997) ص 104-108.