مسرحية ( فلك اسود)…والاحتفاء بالملفوظ النصي/ د. يوسف رشيد
تتمركز ثيمة الشرف في متعاليات نص (علي عبدالنبي الزيدي) الموسوم “فلك اسود” كخصيصة سيميائية دالة بمرجعيتها الثقافية والجمعيه لتبدو أكبر من مدلولها الايقوني بجندريته ومقومات جنوسته التي لا تقل شأنا عن ان يأخذ فعل (الاغتصاب) فيها بعدا تأويليا اخر هو استباحة بيت برمته واجتياح لوطن نامت عيون حراسه، لتغفوا في سبات ونوم عميق.
من مشهد استهلالي ضاج بالصراخ والذعر الذي ظهرت فيه (بتول) واصوات الرصاص القادم قريبا من بيتها وهي تحاول ايقاظ زوجها الغارق في نومه تحسبا من أن يدخل إليها الغزاة ويغتصبونها، يتناهى الى الفهم استدعاءا قصديا لحضور ( الدواعش) ليعمق واحدة من اشتغالات (المابين) في ثنائيات الوجود والعدم والذكورة والانوثة والكينونه والمسخ والأرضي والكوني التي يشتغل عليها الزيدي. ليضعنا أمام حبكة دائرية تنتمي الى فانتازيا تعرية الواقع في إطار اللامعقول، موجها ارسالاته صوب تناقضات الواقع وقسوته المظلمه، في لبوسات كوميدية سوداء احيانا، ومأساوية حالكة حد البكاء من شحة الامل و خيبة الرجاء احيانا اخر، ومن قلق الحياة ولا معقولية انساقها تساوقا مع ما عبر عنه (اسلن)ب ؛ قلق الشعور الميتافيزيقي في مواجهة لامعقولية الشرط الانساني؛الذي ابدع الزيدي في تجسيده والتصدي له في مجمل اعماله التي تشكل حضورها الشعري والفلسفي في حاضنة التلقي وذاكرة النسق الدرامي، محتفية؛ بالمفارقة والتعددية والتورية الساخره وازدواج الشفره بالغموض والالتباس احيانا ؛ وبالتصريح الذي تؤججه جوانية الوجع الذي صار ينتمي الينا بكل الوانه، المحتلة لكل تفاصيل ايامنا، فتجده في هذا النص محولا فردانية ازمة (بتول) الى محنة وعمومية (مصائبية) هي ما اسماه ب( فلك اسود) ليعمق البعد المصائبي،حيث اجتياح الوطن الذي مهد لدخول قوى الظلام الدواعش التي استباحت كل المحضورات والمقدسات ،لتصبح سردية استباحة النساء واحدة من السرديات الكبرى انسانيافي هذا العصر.
ففي فرضية العرض تستشعر ( بتول) ما يهدد أمنها الانساني والقادم لانتهاك قداسة شرفها وهي لا تملك الا ان تدعو الى الرب لينقذها، بأن حولها الى رجل لتحمي نفسها من هذا الدنس القادم ،فيستفيق زوجها من غفوته ليجد ان زوجته قد تحولت الى رجل بلحية وشارب، فبهذا اللجة من المتغير الغرائبي ولامنطقية الاستبدال الكروتسكي، يتنامى فعل التناقض ، ليبلغ اشده بامرأة متحولة ترفض أن تعود لوضعها الجنساني خوفا من الاغتصاب، ورجل يصر على دعوتها ان تعود لوضعها ، ليعودا ذكرا وانثى، فبعد محاولات وجدل تقترح عليه أن تبقى هي الرجل وتطلب إليه أن يتحول هو امرأه فيرفض وتثور ثائرته .
ففي خضم هذا الخطاب الضاج بالملفوظ النصي وانثيالات السرد، راحت معالجة المخرج والممثل الاكاديمي (رياض شهيد) تبحث عن اغوائاتها الاخراجيه، لتتناغم مع ثراء هذا النص بالافعال الحركية ورسم الخارطة الجماليه لافعال النص المتحركة في استمراريتها الدورانية التي تفرض على الإخراج الاشتغال كثيرا في دائرة المبتكر التشكيلي تفاديا للملل الذي لا مناص منأن يحدث غالبا في هكذا معالجات، فرغم أن الإخراج أراد أن يبوئر السعة المكانيه في بؤرة الرمز الأساس (السرير) الذي كان عنصرا رئيسا لتأثيث فكرة العرض و المكان في أن معا، الا ان الفراغ البصري الفضفاض ظل يشكل فضاءا سلبيا حول الفعل، لهذا لم نجد مبررا ملحا لتقديمه وغيره من هكذا عروض، في فضاء كبير مثل المسرح الوطني، مما أفقد التلقي بعضا من الحميمية ،فضلا عن انه انعكس بشحة في جماليات بعض الافعال الحركيه، و التكرار في بعض الأفعال، التي افتقدت احيانا وليس غالبا الىال دوافع الباعثه على الحركه، فشابها خوف من ترهل المنظومة الايقاعيه للحركه احيانا اخرى، لتبدو وكأنها منحوتة قصديا، سواء من الممثل الذي يستحضر من خزينه الحركي الكامن في آليات أداءه ،أو من ملاحظات الإخراج والتصميم القصدي للميزانسين في انتاج صورة تتكافئو شعرية الملفوظ ، فجاءت مفردة الستارة ( التول المظلل) في مقدمة المسرح والاشتغال عليها مسوغا لخدمة فكرة ( المابين) استخداما مهما لتعزيز هذه الفكره، فضلا عن انها كان ممكن ان تتيح للإخراج فرصة سانحة في اللعب اكثر على كثافة العلامة في المفرده البصريه وتنوع إمكاناتها، بإعادة إنتاجها جماليا وفلسفيا كمفردة تشكيليه زاخرة بالتنوع فيما لو اتجه العرض الى استنفار كوامن طاقتها التعبيرية في التشكيل البصري، يضاف إلى ما حققته من بعد سينوغرافي بليغ.
المخرج رياض شهيد لم يخفي احتفاءه بالملفوظ النصي ولعل ما يمكن أن يحسب للإخراج بوصفه خطوة جريئه، هوالمحاولة..أيما كان تاثيرها وما تتركه من انطباع، فإنها فعل نبيل باتجاه تفعيل ممكنات الخطاب، إزاء ما اتسم به الملفوظ النصي من اعلاء لسلطة الادب وهيمنة شعرية النص، التي كان على الاخراج التحرر اكثر من سطوتها الادبيه، مع المحافظة على شعريتها، والابقاء على النص بوصفه الارضيه فكرية، والجنوح اكثر صوب جماليات متعالية بوصف ان العرض سارد جمالي حسي بصري يسعى الى الارتقاء فوق مستويات السرد الجمالي الكامن في الملفوظ، أو أنه يجاورها على التوازي، وقد يكون هنا مكمن التحدي الذي عمد إليه المخرج والممثل الأكاديمي (رياض شهيد) في مقترحة الإخراجي حينما تعمد فرضية اختزال متخيل (القارئ الضمني) وعمل على تقويضه، بوسائله التي كان ابرزها تأثيثه للفضاء المكاني بمفردة قابله للحركة والتشكل(السرير) التي أنتجت بصورة انفراجها دالة (ايروسية) فاعله تأويليا، وفي اسهامأت حركيه اخرى، لتقويض تراتبية الصوره المرئيه، فكان هذا ادعى لاستحضار بعضا من سمات (مابعدالحداثه) ومخالطة المعالجه بسمات تحقيق الشموليه في التركيب وتجريدات السينوغرافيا لتسهم في اشاعة بعض من الطابع التشذري الذي بدى محدودا في اجتياح اللاتسلسل الهرمي لهيمنة الملفوظ وانثيالاته الشعريه في بناء (الحاله) التي يتمركز فيها الزمن ويتموضع.
غير أن بعضا من المحاولات الخجولة التي كانت بحاجه الى إثراء وتعميق، او أن البعض كان لا ضرورة له على الاطلاق، فإذا كانت الغاية التعبيريه للتواصل بتوظيف الاجناس الجماليه مع العرض هي تحقيق ذلك التنامي في وحدة الموضوع وليس غير ذلك، فإن توظيف مشهد ال(كيروكراف) يبدو فائضا ان لم يكن مقحما، فالكيروكراف، على حد قول ( هانس ليمان) هو ( الكتابة بالفضاء والزمن والجسد لا بالنص)،اذن هو ليس استكمالا لتعبيرية الكلمه في النص، حتى إذا كانت سيمياء التواصل التي تتمحور في شقين ، أحدهما لساني قصدي انطوت عليه ثنايا النص، والآخر غير لساني يكمن في الإشارات والملصقات، فإن عرض (االسلايدات )باستخدام (الداتاشو) والإشارة إلى انتفاضة تشرين قبل المشهد الاستهلالي، هي الآخرى بدت مقحمه، وكذلك الحال في الإشارة إلى جائحة كورونا ومحاولة سميأت دالة (التعفير) التي خرجت من بين (فنيات الايقنه) لتدعو الى التطهر من زمن لم تنتهي اثاره حتى اليوم اذ مازالت قوى الظلام (تعشعش) باوكارها وحواضنها بحيث لم يبدو هذا الاستخدام الا محض فرضية متفائلة.
التمثيل في المعالجة الإخراجية:
أن دورانية الفعل في بناء هكذا نص،تفرض اسلوبا ادائيا ينتظر ان يتساوق وطبيعة تلك البنيه، اذا ما استحال ابتكار أسلوب مغاير بطريقة قصدية، يمكن أن يقترحها المعادل الاخراجي، فهي تفرض إيقاعية دائرية من شأنها في اغلب الاحيان من تثير بعضا من الملل في التلقي، ما لم تعالج باستدعاء الممثل لآليات أدائه وشحنها بطاقة خلاقة يتحقق من خلالها اقصى درجات التنوع في التكرار الزماني ومتغيرات البناء، ولعل المخرج الممثل (رياض شهيد (كان هو الاقرب ادراكا لمعطيات وكوامن (معرفيه الجسد) لممثليه الذين لم تكن تنقصهم الخبره لا الدربة الادائيه خصوصا (حسن هادي وضياء الدين سامي ) العارفين، إذ ان هذه المعرفه بالجسد، قد ساهمت قدر الامكان برفد الكثير من المعالجات الحركيه تشكيليا، لتفادي اي ملل يمكن ان يرشح من سريان التكرارات ،وهذا لا ينفي فاعلية ملاحظتنا السالفه في ما يخص بناء الدوافع ومرجعيات الحركه بين الإخراج والتمثيل في عرض الافعال، وضعين بالاعتبار أن الحبكة الادائيه في هكذا عروض ينبغي أن تكون حافلة بالتنوع ، والتغاير المستمر في مستويات الانفعال الذي لم يكونا قد وفقا اليه لولا استثمار ما توافرا عليه من إيقاع حركي للجسد المعمد بحضورهما المعول على تأسيس خبروي سابق، والذي وفرته ملائمة الشخصيه للممثل، وهذه أيضا يمكن أن تحسب للمخرج انه كسب جولة أخرى هي اختيار الممثلين الاثنين، في ما لم توفق الممثله (صفا نجم) في إثبات حضورها بشكل يمكن أن يعلق في الذاكره لمحدودية قدرتها على التأثير وضيق مساحتها الادائيه التي كان ينتظر أن تكون انشطارية،تشاركية، في الشخصيه مع ( حسن هادي) وموازيه تكنيكيا في البناء الفني.
فبرغم أن العرض برمته، وبرغم ما يثيره من ملاحظات وهذا متأت من اهميته، فانه، عرض اقل ما يمكن أن يقال عنه انه عرض مسرحي جيد وبجهد يستحق التقدير لما اتسم به من سمات أكاديمية تحاول الانفلات تجريبيا من قيود التقليدية ، وفي تقديرنا أن الكثير من عروضنا اليوم كما في هذا العرض تحتاج الى المراقبه النقدية الجماليه (الدراماتورجيه) التي تكون عينا حيادية مجاورة يمكن وتثري العمليه الإبداعية و التمرين المسرحي ولا تاكل من جرف الإخراج كما يتوقع البعض،جزافا، وإنما تساهم في إضاءة أو تفعيل بعض اللحظات التي يمكن أن تجنب العرض الكثير من الاسئله
أخيرا أن “فلك اسود” مسرحية كانت لها المساهمة في لم الشمل المسرحي الذي باعدته هذه الجائحه البغيضة، واكيد ستكون حافزا لانجازات ابداعية اخرى لتؤكد ان الحياة والجمال صنوان في مسرحنا العراقي