إنهم يبيعون الحمير .. شوف الشاري مين…سعيد حجاج والكتابة من المنطقة المغايرة/ د.محمود سعيد
يرسم سعيد حجاج لنفسه إطاراً شديد البساطة والتعقيد في آن واحد، بمعنى أنه ليست هناك قاعدة معينة في التأليف ولا مبدأ مستقر لما ينبغي أن تكون عليه الشخصية الدرامية، فلا قواعد ولا مبادئ يمكن أن تحول بين الكاتب المسرحي وبين النقل الأمين للتدفق النفسي ومفاجآته وحتى للتناقضات الكامنة فيه.
وهكذا يصبح الإنسان في جوهره نوعاً من “الآلية” النفسية التي لاتتبع في عملها تطوراً منطقياً، ومن الممكن وصفه بمصطلحات التقسيم النفسي التقليدية، إنه مصنوع من التناقضات وهو يفاجئ الآخرين كما يفاجئ نفسه، والهدف الذي يرمي المسرح إلى تحقيقه هو استخراج تلك العوامل التي تحرك الإنسان وتتحكم فيه بمساعدة حكايات مشابهة لما يقع في الحياة، وهذه النزعة النفسية والأمانة في تصوير الحياة من أهم أسرار صنعة سعيد حجاج، وكأن لسان حاله يقول “كل شيء قد سبق قوله من قبل”، فالإنسان من وجهة نظره هو الأهم هو القدر الأعظم، و “العودة إلى الإنسان” التي يمثلها ويحمل لواءها ككاتب كون لنفسه خطاً وإطاراً عبر أكثر من ثلاث عقود من الكتابة المسرحية.
نلاحظ أن الشخصيات تتحدث – أحاديث متقنة وبكميات غزيرة – أكثر مما تصنع الفعل المسرحي، إن شخصياته تقف في مواجهة بعضها البعض، وينقضي الوقت في وصفها وتحليلها لنفسها أو في وصفها وتحليلها لبعضها البعض، وأحياناً نرى فيها حديثاً وصفياً، لكنه تحليل لحالة شعورية من التردد وعدم الاستقرار على شيء، إنها تحليل لحالة الرفض في مسرحية يبيعون الحمير.
ورغم كل ذلك فإن المسرحية لاتخلو من الحركة أو الحدث؛ إنها في الأساس صورة لروح الإنسان، إلا إنها صورة تتعلق بأزمة ما، أو باختيار ينبغي البت فيه، فمعالجة موقف سكوني راكد في ظاهره هي سمة شائعة ونجدها بكثرة في مسرحه.
فالأبطال مسوقون إلى امتحان ضمائرهم الخاصة بسبب سوء سلوك الآخرين أو فشلهم، ونحن لانرى حلولاً لأي شيء في المسرحية، ولكن هناك نتيجة أساسية يتوصل إليها الكاتب وهي أنه يحتفظ لعمله بحالة من التوتر الدائم، وتلك هي ميزته الكبيرة التي ينفرد بها، فهو دائماًمايكون في مواجهة الآخرين، حتى تتكشف الشخصيات كلها في النهاية فهو يحدث تأثيراً كمياً أو نوعاً من الضغط الكمي يجعل القرار النهائي أو الحدث الأخير يبدو كما لو كان انفجاراً محتوماً وضرورياً لتوتر دائم النمو.
الحمورية فلسفة
يبدو أن فعل التحول والتبدل قد سيطر على المسرحية منذ البداية، إذ يعرض المؤلف لشخصيات تتحول مواقفها مقابل سطوة المال، في شكل كوميدي ساخر، حيث ارتبطت الكوميديا منذ القدم بالمجتمع ومشكلاتة، ورأي النقاد أن وظيفتها هي تنبيه المجتمع والبشر إلى عيوبهم وأخطائهم من خلال النقد اللاذع، الذي يهدف إلى التوعية والإصلاح ويحقق ذلك من خلال إثارة الضحك على هذه العيوب والأخطاءوفي الدراما الحديثة، انهارت الفواصل الصارمة بين التراجيديا والكوميديا، كما يشرح” ج. لستاين” في كتابة الهام “الكوميديا الداكنة “شاعت روح السخرية حتى في أكثر المسرحيات جدية وقتامة، كما اكتسبت المسرحيات الكوميدية ظلالا قاتمة جعل البعض يصفونها بأنها”كوميديا سوداء “، أي لا تبعث على البهجة والتفاؤل رغم كمية الضحك الهائلة التي تفجرها، وهذه المسرحية تنتمي إلى هذا النوع من والكوميديا، الذي يتخذ من القضايا الجادة موضوعاً ويصوغها في شكل فني،يمزج المأساوي بالملهاوي.
لدرجة أن تمنى زهران أن يعامله الخواجة مثل الحمار، ويأخذه معه للخارج، إلا أن العمدة يفك اللغز في جملة سريعة قائلاً:
العمدة : اضرب بقى كام حمار في كام يورو
فاطمة : دي ها تطلع فلوس ياما (المسرحية ص 34)
وبتلك الطريقة استطاع العمدة أن يجعل كل ما في البلد من أرض ومنازل وأولاد وأشخاص يتحولوا إلى مقابل لثمن الحمار، بل في نهاية المسرحية يتحول صوت الفلاحين لنهيق عالي مثل صوت الحمار كدلالة على أن الحمورية صارت مبدأ ونظام وأسلوب حياة، بل هي فلسفة وشفرة لتزييف هوية المواطن الريفي تحت خط الفقر والحاجة والطمع في مستقبل أفضل، حتى لو كانت الوسيلة الاعتماد على وهم ونفي صفة الإنسانية عنهم، في تعميق لوضع مأسوي قاسِ.
يبدو أن سياسة المسرح أو مسرح السياسة لاتنحصر في نطاق الانعكاسات السياسية غير المباشرة، وإنما يذهب إلى القول باختصاص السياسية بوجود حتمي ضمن بنية المسرح على اعتبار أن كل دراما “هي حدث سياسي لاتخلو من تحريض، أو تشريح لسلوك، أو فكرة ما، وكل أنماط السلوك بحسب مارتن أسلن فيها مضامين اجتماعية، وبالتالي سياسية مما يعني أن كل مسرحية تحمل بعداً سياسياً بالضرورة”([1]).
خاصة أن وظيفة المسرح “لاتكمن فقط في التعبير عن الثورة المكبوتة، وعن الرغبة في التعبير … وإنما هناك وظيفة فنية إلى أبعد الحدود .. ومضمون كبير، وفن مسرحي يلاءم ضخامة هذا المضمون وخطورته، ولقد تبلورت حقيقة هامة وهي أن المضمون الجيد لايمكن أن ينفصل في المسرح السياسي ولا عن الفن الجيد”([2])، وإنما في إجابته على الأسئلة التي يسألها المجتمع في لحظات القهر … ولاينتظر منه أن يجيب عن هذه الأسئلة، وإنما عليه فقط أن يسألها حتى تتخذ شكلاً ما، وهذا الشكل ماهو إلا الرؤية العميقة الواضحة التي تصاحب ميلاد أي فجر جديد، وخاصة إن كان فجر يسعى إلى “تنظيم وتوضيح العواطف الثائرة، وهي من أخطر وظائف الفن، ويبرز دوره من خلال تجسيد يلجأ فيه إلى الرمز أحياناً، والتصريح أحياناً أخرى، كما لعب سعيد حجاج بوعي وعمق واضح مما يؤكد أن المسرح وسلة للتنفس عن الكبت أولاً وقبل كل شيء”([3]).
الجمل الحوارية:
وفيها يحيل الكاتب، المتلقي، إلى المرجع الذي تشير إليه الجملة الحوارية، فهي وظيفة تستخدم معطيات الواقع الحقيقي، كي تقدمها للمتفرج، وقد اشتملت على رؤية وفكرة الكاتب.
وفكرة المرجع “لتشير إلى العالم الواقعي الذي يعيش فيه المتفرج ذلك العالم الذي يمثل مرجعية اجتماعية”([4])، خاصة أن سعيد حجاج بذكاء يستخدم جمل وتعبيرات شديدة الغوص في عمق الريف المصري.
والكاتب يستطيع من خلال هذه الوظيفة إيهام المتفرج أو القارئ، بأنه في عالم حقيقي، يستطيع أن يرجع إليه ويقيس عليه أفكاره، فالمرجع هو الذي يقوم عليه التفاعل بين المتفرج والعالم الدرامي، وإن لم يجد المتلقي مرجعاً يستند عليه، ويفسر له الأفكار، بما يتناسب مع واقعه المعاش، ليشعر بالتباعد عن النص المسرحي وعدم التواصل معه، لذلك اقترب الكاتب كثيراً من لغة أهل الريف بشكل مذهل، وكأن المؤلف يكتب وهو جالس وسط الريف المصري.
وفي داخل الحوار تتناثر العبارات، التي تجعل المتلقي يقف أمامها، ليعود بذهنه إلى المجتمع، للبحث عن مرجع لها، والكاتب غالباً ما يربط بين العمل المسرحي والواقع المعاش، للتعبير عن قضايا الأمة ومعاناتها.
وهو يقوم بتعريف الشخصيات، يضع أمامنا عبارة، تجعلنا نعود سريعاً إلى المجتمع، لنكشف ما فيه من ظلم ونفاق.
فالنص يحيل المتلقي – قارئاً أو مشاهداً – إلى المرجع الذي يعيشون فيه، ليربط بين النص المسرحي والمتلقي، الذي يعيش مثل هذه المعاناة، والذي يشعر بأن الكاتب يتحدث عنه، وعن غيره ممن يعانون في هذا المجتمع.
الردح وقود الكوميديا الشعبية
في المسرح يجب اختيار موضوعات جديدة، وعرض علاقات جديدة في شكل درامي ومسرحي جديد، خاصة أن “كوارث اليوم لاتعرض لنا بصورة مستقيمة ومباشرة؛ وإنما هي تنمو من خلال أزمات دائرية، فالأبطال يتغيرون مع كل مرحلة، فهم قابلون للتبادل، وخط الفعل الدرامي يتعقد بأفعال محبطة أو مجهضة، والقدر لم يعد قوة أحادية، بل نحن نلاحظ ساحات قوة تخترقها تيارات متعارضة، بل أكثر من ذلك، فإن مجموعات القوى لاتعمل وحسب في تحركات تتعارض فيما بينها، وإنما هي تخضع لتناقضات داخلية”([5]).
وقد لعب سعيد حجاج في هذه المسرحية على لعبة التقابل اللفظي الحاد الذي يصل لدرجة الردح وكأنه يضفي على مسرحيته نوعاً من المسرحانية الخاصة به، وأن البحث عن البنى المعبرة عن هذه المسرحانية هو ما يشكل المسرحية، إذ أنه لايكفي في المسرح أن نقول أشياء جديدة، وإنما ينبغي أيضاً أن نقولها بطريقة مختلفة، حتى لو استخدم المؤلف الردح كلغة وأسلوب إلا أنه جاء في مكانه المناسب.
فقد استخدم المبدع لعبة الردح أو حتى السب والقذف في المسرحية بشكل واضح، إلا أنه ردح من نوع خاص، فهو ليس سباب من أجل السباب فقط، بل هو غوص في تجربة الفلاح المصري حيث استخدامه لمفردات هي في الواقع سب وقذف، إلا أنها قد تشير إلى دلالات أخرى مغايرة، هي كلمات ليست كالكلمات هي نبض الريف في جدهوهزله، مأساته وملهاته والتي تبدأ من حتى (الاسم ذاته) فكثيراً ما نجد الاسم يوضع في إطار ضاحك وساخر، أو حتى اللقب ذاته أكثر سخرياً.
لذلك يستخدم المؤلف بشكل مميز الأسماء والمواقف، والجمل حيث تتكرر كثيراً جمل (عبيط – الواد – زي الحيطة –هازعطه بره – العامة والدهاء – النخبة – يخرب بيت أبوه – فال شؤم – العجل بيتكلم صح – كلنا آذان صاغية – يفك زنقة أوروبا – شهامة ولا حمورية – حمارة لا مؤاخذة شمال – حتى إشعار آخر – عندنا أجدع حمير – يعمل زي الناس – ابقى اركبيني أنا ودلدلي رجليكي – أنت زي قلتك – اللي يفرط في حمارته بكرة يفرط في مرته – الحمار مسمار الدار – ربنا يوعدنا بحما يوصلنا لبر الأمان – وغير ذلك – …….)
إذ انتشر مثل تلك الكلمات والجمل التي تحمل طابع السخرية والردح أحياناً، بل تصل لدرجة السب والقذف، إلا أن المؤلف كان أكثر عمقاً من المعنى المباشر لهذه الكلمات والجمل، إذ هو يستنطق ما في الريف من وجع ومر وكأن لسان حاله يقول (شر البلية ما يضحك).
بشكل جعل من المسرحية مباراة في الردح بين كل الشخوص لدرجة أنه لم يبدي لنا أي بطل على الاطلاق، بل كان البطل هو الموضوع، القضية وطريقة عرضها بشكل عميق.
فهي كتابة مشروطة بالتركيز على الفعل الدرامي وعلى تقنين الأفكار والمشاعر والمواقف والأدوار، مع إيجاد الكلام بين المتحاورين مع الربط بالجمهور المثقف والمتعلم وحتى الأمي دون وصاية ودون إلقاء دروس تعليمية في الأخلاق والدين والسياسة والأيديولوجية، ودون غمز ولا همز ولا لمز، حتى الردح ذاته تحول إلى وقود لتعميق المواقف، ليتحول الفعل الدرامي لديه كالتجربة الإنسانية التي يراها المتلقي بالعين المجردة، ويحياها بالفكر والإحساس ويسهم فيها بالقبول والرفض، كأن المؤلف يستكشف عوالم مجهولة حتى لو استخدم مفردات معلومة للقاصي والداني، وهو يستنطق المجهول من المعلوم، يتحرك النص لغوياً لديه مخاطباً جمهوره بلغة مطواعة مشكلة حسب ذائقة الشارع ومكتسباته ولهجاته حتى وتحريفاته.
ولغة الشخصيات عربية صافية من الغريب والمهجور. أسبابها ملتصقة بلغة المجتمع، “مفهومة في مستواها الأول ولكنها ذات مستويات متعددة من المعنى والإشارة والتصريح والرمز والعلامة، إذ الكلمة المسرحية والجملة المسرحية والتعابير المسرحية إجمالاً إنما لاتستهلك مستوياتها المتعددة والحافة والمتنقلة من حقل دلالي إلى آخر والمشتبكة استهلاكاً كلياً واحداً، بل يبقى منها من الدلالات ما هو جدير بالتفكير والشرح والتأويل والنقاش”([6]). وكلما أعاد المتلقي قراءة المسرحية فطن إلى دلالات وعلامات جديدة.
ففن المسرح لايحتمل اللغو، ولا المزايدات الشعاراتية! لغته الإيجاز، والجملة المسرحية هي لبنة مادية لأنها ليست إيقاعاً فقط ولا دلالة ولا علامة فحسب، بلهيشيء مادي تقوم به المسرحية ذاتها.
حيث يحاول تفسير كيف نبني تلك الحقيقة ودرجة الاتساق والثقة التي نمنحها لكل مستوى من الحقيقة المبنية”، كما يقول في المسرحية:
أبو الليف: ده خايف عليك أبوك العمدة بيزعل منك
خير: العمدة يبقى ابوك أنت .. وبعدين هو له عندي حاجة أبيع ولا ما بعشي.(المسرحية ص56)
يبدون أن هناك فرق بين الأدب الساخر كمفهوم شامل سواء على مستوى الشكل أو المضمون وبين عنصر السخرية الذى يمكن أن يوظفه الأديب فى عمل من أعماله بالإضافة إلى عناصر أخرى. لكن عندما تصبح السخرية هى العنصر الأساسي فى المضمون والعمود الفقرى للأحداث والمواقف، فإن العمل ينضوى تحت بند الأدب الساخر. وعلى الرغم من الفروق النوعية بين السخرية كعنصر وبين العناصر الأخرى من تهكم، وفكاهة، ولماحية، ونقد، وهجاء، وتلميح، ودعابة، فإن السخرية إذا سيطرت وسادت على كل عناصر العمل الأدبي سواء أكان قصيدة أو مسرحية أو رواية أو حتى مقالة، فإنها توظف عناصر التهكم والفكاهة واللماحية والكوميديا فى تعميق توجهاتها الفكرية والاجتماعي والفنية([7])، وذلك من خلال توليفة درامية تهدف إلى التعريض بشخص ما أو مبدأ أو فكرة أو أى شيء، وتعريته بإلقاء الأضواء على الثغرات والسلبيات وأوجه القصور والضعف فيه.
فالفكاهة الراقية تنهض على أحكام لها من الجد والخطورة ما يجعل أية مسرحية كوميدية تهمة ثابتة أو تعرية صارخة لموقف أو اتجاه أو رأى معين. فالكفاهة لا تعنى بأية حال من الأحوال التسلية والتهريج الذى يصل إلى حد التفاهة. كذلك فإن الضحك ظاهرة اجتماعية وسلاح موجه ضد كل من يحاول الانحراف بقيم المجتمع ومثله، لأنه كلما زاد عدد النظارة فى المسرح، زادت بالتالي ضحكاتهم واشتد هتافهم وتصفيقهم. ويرى برجسون أن الضحك ليس سوى استجابة لبعض مطالب حياة الجماعة، بمعنى أنه لابد من أن تكون للضحك دلالته الاجتماعية([8])، وقد لعب المؤلف على الإيجاز إذ أن الإيجاز البليغ من أهم وأخطر أسلحة الفكاهة التى تخفى وراءها نقداً لاذعاً لفكر أو سلوك معين. ولذلك قال شكسبير إن الإيجاز هو روح الدعابة أو الفكاهة. وكثير من الكلمات اللاذعة أو القفشات البارعة لا تعدو هذا النوع من الفكاهة. وليست التوريات اللفظية واللعب على الألفاظ سوى حيل لغوية تعتمد أساساً على ملية الإيجاز أو التكثيف، لأن اللفظ فى هذه الحالة يحمل معنيين، فينتقل الذهن فى لحظة واحدة من معنى لأخر، وبذلك يستجيب للمفارقة بالضحك.
وهكذا نجد أنفسنا تجاه حقيقة، قد لا نكون أوليناها ما تستحق من اهتمام قبلاً “فالإنسان الضاحك، أو الذى يصنع الضحك، هو إنسان رقيق المشاعر، مرهف الحس، فليس الإضحاك بالأمر الهين، بل الهين هو بعث البكاء واستحداث الأسى. من أجل ذلك كان كتاب الكوميديا قلة إذا قيسوا بكتاب التراجيديات، منذ المسرح الإغريقي حتى زماننا هذا”([9]).
لا يمكن لأي مجتمع إنساني صحي أن يتصور نفسه فى غنى عن مرآة الكوميديا الصادقة الناضجة التى تكشف عيوبه وتعرى سلبياته وتبرز ثغراته. فالكوميديا تملك القدرة على النقد البناء بل والإصلاح والتغيير، لأنها بنظرتها الثاقبة الموضوعية وأضوائها الكاشفة الساطعة تستطيع تعرية الانتهازيين والوصوليين والمتسلقين والمداهنين والزئبقيين، وبالتالي فهى تحجمهم وتحاصرهم بهدف القضاء على مناوراتهم وألاعيبهم. وبذلك تعمل على توفير مناخ صحى يستطيع أن يتنفس فيه المجتمع هواء نقياً([10])، وهذا ما سعى إليه المؤلف.
وبرغم أن وظيفة الكوميديا تتمثل فى تعرية القبح الاجتماعي والمثالب البشرية ونقاط الضعف وأوجه القصور المختلفة، فأنها لا يمكن أن تتخلى عن أساليبها الراقية وقيمها الجمالية الخاصة بها، لأن المادة الاجتماعية القبيحة عندما تنصهر فى بوتقة الكوميديا فإنها تتشكل طبقاً لمقاييس الجمال والاتزان والتناسق، خاصة وأنه يتحتم على الكوميديا أن تتدخل لتعيد للمجتمع توازنه وتناسقه المفقودين.
مراوغة الأنا والذات:
الكتابة المسرحية زمن جمالي في زمن الإبداع الساحر، هو حفر ذكى بالشعور واللاشعور في حياتنا الظاهر والخفي في حياة الأمم والشعوب، وإظهار ما أختبأ وأستتر في خبايا الحياة، وفي قلق الإنسان في الوجود وفي التاريخ والمعيش. بالكتابة وبالاختلاف تتحدد الحياة خاصة أنه عبر “الشعور الفردي لا ينطوي على أي انفصال مطلق عن عالم الغير فليس ثمة ذات بدون الغير”([11]).
إن ذلك يجعلنا على يقين من أننا إذ نبحث عن “أنا” في العمل المسرحي إنما نبحث عن أنا بأقنعة مختلفة يلعب فيها الآخر دوراً لا يقل أهمية عن دور الذات.
وفي المسرحية تتجلى أنا في هذه الآلية وقد تماهت مع المخاطب الآخر تتجسد فيه فتصبح بديلاً عنه بل إنها في أكثر الحالات لاتكاد تعطي للآخر مساحة للصوت أو الحركة، كما قام العمدة بهذه اللعبة المراوغة أحياناً، حتى لو كان من الآخر صامتاً، إذ لا ينبغي أن نعتقد أن صمت الآخر يعد عاملاً سالباً في الخطاب المسرحي، حيث فجر الآخر بصمته الذات المتكلمة، فكانت هذه الاليات التعبيرية التي جعلت من أنا المبدع واحدة من مفاتيح عوالم الإبداع، وبشكل كوميدي ساخر يتحول الأنا إلى الذات، ويبدو الآخر في الأفق المغاير.
هذا الآخر. هو نقيضي، وشرط وجودي أو العكس… وهذا الآخر في حالتنا قد يكون شريكاً أو غريباً.. وقد يكون صديقاً وقد يكون عدواً… وهذه الثنائية قد تخفت حدتها أو تزداد، وقد تبدو ظاهرة واضحة للعيان أو تكمن فتبدو خافية غير مرئية أو محسوسة، تبعاً لعوامل كثيرة داخلية وخارجية، وتبعاً لشروط اجتماعية وتاريخية متعددة، إلا أن سعيد حجاج عبر مكر مستحب كشف عنها إلى حد الشعرية، وفي ذات الوقت هي ضمنية إلى حد الغموض في لعب درامي مراوغ.
“على أية حال، إنها ثنائية موجودة تحتاج إلى تأمل وتدبر، ذلك أن فهم الآخر يستلزم توفر رؤية عقلانية عميقة عن الذات أولاً. وهذه الرؤية العقلانية المتعمقة، هي في جوهرها، رؤية نقدية بالضرورة، للتاريخ ماضياً وحاضراً، ومستقبلاً.. هي رؤية تعتمد نظرة واقعية، لا تفرط في تمجيد الذات أو التحقير من شأنها، ولا تبالغ في الإعلاء، من شأن الآخر، أو التهوين من أمره، كما حذر الشيخ (خير) كثيراً في النص إلى أن مات وهو يحذر وينادي.
من هذه العقود التي وقع في فخها أهل القرية في بساطة وسذاجة هي عقود لمسح الهوية ومسخها، خاصة أن العقد المبرم بين الحاكم والمحكومين لا يعنى أن الحاكم لكونه أصبح حاكماً ينبغي أن تعتبره الجماعة آخر بالنسبة لها وإنها ثمة معيار آخر يتحكم في نظرة الجماعة الشعبية للآخر السلطوي، ويتمثل هذا المعيار في نهج الحاكم فإذا كان ذا مشروعية ويعمل نهجاً يهدف لصالح الجماعة الشعبية ويتلمس الجميع آثاره فإنما يؤهله ذلك كله لأن يكون سلطاناً يلتف الجميع حوله لصفاته الشخصية العقلية والروحية إذ تعتبره الجماعة الشعبية “أباً روحياً” أو بطلاً مخلصاً، كما توهم أهل القرية في العمدة.
رجل الدين الوسيط المزيف
أن هناك من يقوم بدور الوسيط بين الحاكم والجماعة وهم، الفقهاء لا يمكن تعميم الحكم عليهم بالانصهار في السلطة إذ منهم من ابتعد عن السلطة وتحاشاها، “لكن ما نعتقده أيضاً أن هؤلاء الوسطاء سواء كانوا منصهرين في السلطة أو مبتعدين عنها اشتركوا في صنع كبرى إشكاليات الثقافة العربية وهي الحفاظ على الثقافة السياسية السلبية. فطاعة أولى الأمر واجبة حفاظاً على وحدة الكلمة والابتعاد عن الفتن، ومن هنا يتم الخلط المتعمد بين الأمة والسلطة السياسية”([12])، كما لعب الشيخ عوكل على هذه الفرضية في المسرحية.
خلاصة القول أن الثقافة العربية عرفت “آخر سلطوياً”، فهو آخر من حيث استناده على العصبية وهو آخر من حيث استناده للترويج لخصوصية دينية فكان من الطبيعي ان تصل الصورة للجماعة الشعبية، التي عليها واجب الطاعة، ليس بوصفه منتمياً “للنحن” بقدر ما هو سلطوي. وفي نفس الوقت يعمل “الآخر السلطوي” على أن يشكل عبر الوسطاء (الفقهاء/النخبة) أنواعاً أخرى من “الآخر” في ذهن الجماعة الشعبية استناداً لدعامتي حكمه، فدعامة الدين تعنى ضمناً أن ثمة آخر دينياً تتحدد شكل العلاقة به وفقاً لطبيعة علاقته بنظام الحكم القائم أو الدولة من حيث مدى توافق المصالح، أو تعارضها، ثم يأتي دور الوسطاء (النخبة) لتصميم الصورة للجماعة الشعبية، فإذا ما كان التصميم محكماً ومبرراً بوقائع حياتية تلامسها الجماعة الشعبية كان ذلك أدعى لتثبيت صورة هذا الآخر الديني حتى يأتي تصميم جديد بمبررات جديدة ووقائع جديدة تزحزح تدريجياً بقايا التصميمات السابقة، خاصة بعد وقوع الكوارث عبر امتلاء منازل القرية بالحمير وبدء بيع الأرض والبيت والأولاد مقابل المال.
“واستنتاجا لذلك فهناك تلازم بين مفهوم صورة الذات ومفهوم صورة الآخر، فاستخدام أى منهما يستدعى تلقائيا حضور الآخر، ويبدو ان هذا التلازم على مستوى المفاهيم هو تعبير عن طبيعته الآلية التى يتم وفقا لها تشكيل كل منها فصورتنا عن ذاتنا لا تكون بمعزل عن صورة الآخر لدينا، كما أن كل صورة للآخر تعكس – بمعنى ما صورة الذات”([13])، بشكل جعل من العمدة هو الذات وهو الآخر في نفس الوقت في لعبة بيع وشراء الحمير، وماهي إلا لعبة تزييف وسرقة هوية المواطن لصالح الآخر.
الإحـــالات:
(1): مارتن أسلن: تشريح الدراما، مرجع سابق، ص11-12.
(2): سمير سرحان: المسرح المعلصر، مطبوعات الجيل الجديد بالقاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد 19، ص157.
(3): ببراجيه توشار: المسرح وقلق البشرية، منشورات أتحاد الكتاب العرب بدمشق، الطبعة ألأولى، 1987، ص62.
(4) : حازم شحاته: الفعل المسرحي في نصوص ميخائيل رومان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص80.
(5): جان بيير رينجير: قراءة المسرح المعاصر، ترجمة حمادة إبراهيم، إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، القاهرة، 2004، ص77.
(6): مجموعة مؤلفين: من ندوة المسرح العربي بين المسكن والحرك، إصدارات الشارقة الثقافية، الإمارات، 2006، ص19.
(7): نبيل راغب: الأدب الساخر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000، ص9.
(8): نبيل راغب: مرجع سابق، ص62.
(9): رحلة مع الظرفاء – أحمد عبد المجيد – ص9-11 – دار المعارف القاهرية – اقرأ: 1967.
(10): نبيل راغب: أصول الكوميديا الراقية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 1996، ص19.
(11) : زكريا إبراهيم: مشكلة الإنسان، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص160.
(12) : غالي شكري: إشكالية الإطار المرجعي للمثقف والسلطة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1984، ص65.
(13): محمود حسن عبد المجيد: الذات والآخر تجربه الاغتراب فى الروايةالعربيةالمعاصرة,أكاديمية الفنون، المعهد العالى للنقد الفنى، دكتوراه,2014,ص 15.