قراءة في فضاء استطيقيا الموسيقى التصويرية…بين شوبنهاور و هانسليك (الجزء الثالث)/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
نلتمس لدى شوبنهاور منطلقات لإجابتنا عن هذا التساؤل، لقد أكد شوبنهاور بقوة على أن موسيقى الآلات قادرة على التعبير عن الشعور وفقا لغاياتها الجمالية الخاصة دون حاجة الى الاستعانة بأي وسائط أخرى، وهو من هذه الناحية كان أكثر فهما لقدرة التعبير الموسيقي من كانت وهيجل اللذان رأيا أن الموسيقى تعبر عن الشعور ولكن بطريقة غامضة، ولذلك فإنها تحتاج الى كلمات لكي يصبح التعبير أكثر وضوحا وتعينا ومعقولية، وهو موقف قد أملاه الاتجاه العقلاني في مذهبيهما الذي أراد فهم الفن أو لفة الشعور بلغة العقل، حتى إن هيجل قد اعتبر تألق الفكرة أو التمثل الواضح للفكرة المتعقلة معيارا أسمى للفن. شوبنهاور إذن كان أكثر وعيا بطبيعة الموسيقى كلغة للشعور يمكن أن تعبر بطريقة أكثر وضوحا ومباشرة وصدقا من الكلمات. فالموسيقي لها المكانة السامية فوق الشعر وغيره من الفنون، ومن ثم لا ينبغي للموسيقار أن يحاكي الكلمات، وانما يجوز أن يستخدمها فقط كمادة لاستثارة خياله، ولا ينبغي أن تكتب الموسيقى لأجل الكلمات، وانما العكس هو الصحيح، فالكلمات والنص الأوبرالي هما ما ينبغي أن يكتب لأجل الموسيقى، فالكلمات والنص الأوبرالي هي وسائط دخيلة على الموسيقى، وحتى الموسيقى الأوبرالية الجيدة يمكن أن تفهم بوضوح وتحدث أثرها الكامل بمنأى عن النص الأوبرالي نفسه، والحقيقة أن هانسليك نفسه قد تأثر بآراء شوبنهاور هنا. فقد اعتبر موسيقى الآلات هي الموسيقى الخالصة التي تحدد لنا طبيعة وخصائص الموسيقى في عمومها، وأن تحدد الموضوع الذي نجده في حالة الموسيقى الغنائية أو الاوبرالية لا يرجع الى طبيعة الموسيقى ذاتها وانما الى الكلمات. ومن ثم يرى هانسليك أن الكلمات يمكن أن تتبدل على نفس اللحن الواحد، بدليل “وجود حالات كثيرة يتم فيها استخدام نص جديد تماما لنفس العمل الموسيقي” ([1])، وهذا يعني أن هانسليك يوافق شوبنهاور على تبعية النص أو الكلمات للموسيقى.
ومع ذلك، فإن هذا لا يبرر لنا ما ذهب اليه شوبنهاور من القول بأن الكلمات هي دائما إضافة دخيلة على الموسيقى ليس لها سوى قيمة ثانوية، وأنها إذا اندمجت مع الموسيقى “يجب أن تتخذ مكانة ثانوية وتتكيف تبعا لها” ([2])، ولا يبرر قوله بأن فن الأوبرا يعد دخيلا على الموسيقى بحيث يمكن تعريفه بدقة بأنه اختراع لا موسيقي، لمصلحة عقول لا موسيقية لا يمكن أن تفهم الموسيقى إلا إذا تسربت اليها أولا من خلال وسيط دخيل عليها، حقا إن موسيقى الآلات هي الفن الخالص على الأصالة التي تنكشف فيها طبيعة الموسيقى في التعبير بطريقة عامة مجردة وهو ما أصبح يشكل نموذجا تحاول الفنون الأخرى الاقتداء به، ولكن اندماج الموسيقى مع وسائط فنية أخرى لا ينتقص شيئا من طبيعة التعبير الموسيقي ولا ينبغي أن يحملنا على التقليل من قيمة هذه الوسائط الأخرى في نفس الوقت. ذلك لأن الاندماج بين الموسيقى والوسائط الفنية الأخرى يخلق أشكالا فنية مركبة لها جمالياتها التعبيرية الخاصة كالأغنية والأوبرا والفيلم.. الخ. والموسيقى التي تدخل في بنية هذه الأشكال الفنية المركبة يتم تأليفها بوحي من النص الشعري أو الاوبرالى أو الصورة السينمائية، وقد لاحظ شوبنهاور نفسه كما أسلفنا أنه يجوز للموسيقار أن يستخدم الكلمات كمادة لاستثارة خياله. ولكن هذا القول لا يتفق مع ما ذهب اليه شوبنهاور من القول بأن الكلمات هي التي ينبغي أن تكون تابعة للموسيقى وتؤلف من أجلها, فمثل هذا القول يبدو لامعقولا، وهذه اللامعقولية ستبدو أكثر وضوحا في حالة الفيلم التي لم يشهدها شوبنهاور أو معاصروه، فمن غير المعقول أن يذهب أحد في يومنا هذا الى القول بأن المشهد السينمائي ينبغي أن يؤلف لأجل الموسيقى أو يكون تابعا لها، ومن المهم أن نلاحظ أن الموسيقى الوصفية أو الموسيقى ذات البرنامج او الموسيقى المرافقة للأعمال الدرامية وحتى الموسيقى التعبيرية التي ترافق الرقص الدرامي او الرقص التوقعي او الرقص الطقسي(كالزار والمناقب النبوية والتهاليل وغيرها) التي تستخدم في مثل هذه الأشكال الفنية المركبة لا تعني تحول التعبير الجمالي الموسيقي من المستوى التعبيري العام المجرد الى مستوى المحاكاة لحالة جزئية خاصة مجسدة عيانيا، وانما تعني أن المؤلف الموسيقي يستلهم روح هذه الحالة الجزئية وطابعها الشعوري لأجل التعبير عنها بلغة الموسيقى أي بلغته العامة المجردة، مستوحيا موسيقاه من العنصر الذي لأجله رافقته الموسيقى لان هذا العنصرــــ الذي ترافقه الموسيقى ــــ لولا حاجته للموسيقى لما ترك لها مجال في كيانه، لذا فإن المؤلف الموسيقي يستلهم الدلالات والايحاءات الكلية في الحدث الجزئي، لأنه لا يوجد أي عمل فني يخلو من هذه الدلالات الكلية، ولكن في حين أن الفنون جميعا توحي بالكلي في الجزئي ومن خلاله، فإن التعبير الموسيقي يظل بطبيعته كليا عاما مجردا، لأن الوسيط المادي الموسيقي يتأبى بطبيعته على التعين والتحدد، ومن ثم فإن تحذيرات وتحفظات شوبنهاور المشددة هنا لا مبرر لها، فالموسيقى لا ينبغي أن تحاكي الكلمات، لا لأنها يمكن أن تقع في هذا المحظور عندما تؤلف لأجل النص، وانما لأنها بطبيعتها لا يمكن أن تقع في هذا المحظور عندما تؤلف لأجل النص أو تصف أحداثا، إلا إذا جاءت الموسيقى مجردة من طبيعتها وقيمتها الجمالية. الموسيقى الوصفية إذن لا تنتقص شيئا من جمال التعبير الموسيقي ولا من عموميته وطابعه التجريدي. وليس أدل على ذلك من أننا نرى كثيرا من الأعمال الموسيقية التي تؤلف لأغان أو لأفلام سينمائية – وخاصة تلك الأعمال الموسيقية التي تكون رفيعة من حيث القيمة الفنية والجمالية – يعاد إنتاجها من خلال الآلات الموسيقية وحدها بشكل مستقل عن الكلمات والأحداث والمشاهد التي من أجلها أبدعت هذه الأعمال الموسيقية من منا لا يتذكر( موسيقى المال والبنون او موسيقى رأفت الهجان او موسيقى فلم تيتانيك او موسيقى البرامج الإذاعية مثل برنامج عدسة الفن او برنامج الرياضة في أسبوع رغم ان الموسيقى فيه هي بالأصل لـ(روسيني) أوبرا حلاق اشبيلية او موسيقى فلم آخر رجال الموهيكانز … وغيرها ) من الأعمال فقد بقيت ذاكرتها الفنية والجمالية في ذاكرة المجتمع كموسيقى بعيدا عن مصاحبتها الدرامية وهذا ما يدل على قيمة الموسيقى التعبيرية او التصويرية ومدى جمالها، ومع ذلك تظل محتفظة بمتعتها بالنسبة لنا. فالموسيقي التي تدخل في بناء الأشكال الفنية الموهبة لها إذن طرائقها التعبيرية الخاصة بها والتي تسهم في نفس الوقت الى جماليات الوسائط الفنية الأخرى عندما تتآزر معها. ولولا هذا التداخل والتآزر بين الفنون لما كانت هناك فنون مركبة.
الحقيقة أن الاستطرادات والملاحظات النقدية السالفة لا تقلل أو تنتقص من قيمة ملاحظات شوبنهاور وفهما العميق لطبيعة الموسيقى الخالصة وامكاناتها في التعبير عن جوهر الشعور، ولا شك أننا يمكن أن نلاحظ أحيانا تقاربا كبيرا بين بعض من آراء شوبنهاور وآراء هانسليك، فقد اتفق هانسليك مع شوبنهاور على أن موسيقى الآلات أرفع من الموسيقى التي يضفي عليها النص صبغة عقلية تصورية، كذلك كان يردد آراء لشوبنهاور ذهب فيها الى أن الموسيقى لا تستطيع بذاتها أن تمثل أو تعبر عن مشاعر محددة وانتهى مع شوبنهاور إلا أن موسيقى الآلات تسير تبعا لقواعد موسيقية محددة وليست تعبيرا عن مشاعر الموسيقار أو انفعالاته كما تصور الرومانتيكيون، كذلك يمكن القول بأن هانسليك يشارك شوبنهاور في رفض القول بأن الموسيقى تكون محاكاة للنظام الكوني، وفي النظر الى الموسيقى ذات البرنامج باعتبارها شكلا أدنى من الموسيقى الخالصة التي تكون لها حياة خاصة بها وعالم خاص بها ([3]). ومع ذلك، فإنه يظل هناك اختلاف حاسم لا سبيل الى رفعه بين نظريتي شوبنهاور وهانسليك، وهو اختلاف يكمن أساسا في رؤية شربنهاور لقدرة الموسيقى على التعبير عن جوهر أو صورة الشعور، بل والتعبير عن جوهر الحياة الانسانية والوجود بوجه عام على نحو ما سنرى حد قليل، ولهذا نعتقد أن هانسليك قد كتب مؤلفه الشهير وفي ذهنه أن يبين اختلافه وتمايزه عن شوبنهاور، وهذا واضح تماما حينما رفض صراحة القول بأن الموسيقى تعبر عن الشعور بوجه عام، فالموسيقى عنده لا تعبر فحسب عن موضوع الشعور، وإنما لا تعبر أيضا عن الشعور في عموميته على نحو ما رأينا، ولكن هذا هو ما يظهر لنا في نفس الوقت مدى عمق وخصوبة نظرية شوبنهاور التي تقف على الطرف الآخر المقابل لموقف الشكلانيين من أمثال هانسليك،
الإ أن شوبنهاور لم يعن فحسب بالكشف عن الكيفية التي بعبر بها الموسيقي عن الشعور, بل إنه رأى في ذلك الكشف تعبيرا عن جوهر الحياة والوجود التي يتجلى في الإدارة نفسها – إرادة الحياة– باعتبارها سلسلة لا تنتهي من اندفاعات ورغبات وعواطف وانفعالات تسعى باستمرار في صراع أبدي نحو تحقيق الإشباع. كيف نخصص هذه المقولات العامة على لغة الموسيقى.
والنتيجة التي يمكن أن نخلص اليها من مجمل ما تقدم هي أن جماليات الموسيقى لا تكمن فحسب في القيم الفنية التشكيلية لبنائها الصوتي. بل إن قدرا كبيرا من هذه القيم يكمن في دلالاتها التعبيرية التي يكون بناؤها التشكيلي قادرا على إسقاطها،وإلا جاءت الموسيقى أشبه بالصنعة الفنية الخالية من الحياة والروح الإنسانية.
الإحــالات:
[1])) Eduard Hanslick “Music, Representation and Meaning”from the Beautiful Music, in Morris Wetiz, problems in Aesthetics (N. Y.: Macmillan Publishing Co. Inc., 1970), p.513.
[2])) Schopenhauer, parerga and paralipomena trans. E.F. Payne, (Oxford: Clarendon Press, ,1974) vol. 11.p322,
[3])) ينظر: يوليوس بورتنوي، الفيلسوف والموسيقى مصدر سابق، ص 252-253.