نص مسرحي "قامـــة" / تأليف: عبد الكريم العامري
مونودراما
“إن كنتم ترونني قصيرة قامة، أراكم أنا قصار نظر!”
الشخصية: شابة قصيرة القامة.
(صندوق كبير وضع في منتصف المكان، الاضاءة تُظهر مقدمة الصندوق الذي تتدلى منه دمية معلقة بخيوط. ثمة دمى معلقة في أمكنة متعددة بأوضاع وأحجام مختلفة، الشابة داخل الصندوق دون أن يظهر منها شيئا، فقط ايديها التي تحرك الدمية).
الشابة: (وهي تحرّك الدمية من خلال الخيوط) مرحباً.. هل تروني جيداً؟ ها.. انظروا الى الصندوق. هذه أنا. رأيتموني؟ حسناً. أنا واحدة منكم. مثلكم، لديّ يدان، وأنف، وفم، ولديّ شعر أيضاً. هل ترون شعري كم هو طويل. أحب شعري الطويل. أنا لا اختلف عنكم. ربما ترون الخيوط التي تحرّكني. انتم لديكم مثلها أيضاً. نعم، لديكم خيوط تحرككم مثلما تحرّكني خيوطي. كل منا لديه خيوط تحرّكه لكن الفرق ما بيني وبينكم، أن خيوطي مرئية، بينما خيوطكم غير مرئية. لا ترى بالعين المجردة. (تضحك) أرأيتم؟ لا فرق بيننا كما أظن. كلنا دمى لا حول لنا ولا قوّة. هناك يد تحرّكنا. تأخذنا حيثما تريد. لا أحد يستطيع أن يوقفها، أو أن يتمرّد عليها. من أنت حتى تتمرّد على اليد التي تحرّكك؟ يا لكم من مساكين! تلك حقيقة قد تعرفونها لكنكم تغضّون الطرف عنها. القويّ فيكم، ان كان فيكم أحدٌ قويّاً، ان يعترف بهذه الحقيقة. لا سلطة لكم عليكم. أنها الخيوط. رغم ضعفها تتحكم فيكم. يمينا وشمالا. طولاً وعرضاً.. (تضحك) يا لكم من مساكين! ستنزعجون مني. أكيد أنكم الآن منزعجين. لكنها مثلما قلت لكم هي الحقيقة التي لا مهرب منها. انظروا الى ما في داخلكم من عيوب جيداً قبلما تنظرون الى ما ترونه أنتم عيوباً عند الآخرين. أرأيتم، أنا أريد أن أضعكم أمام أنفسكم، ولا أريد أن أحرجكم بهذا. (تتقافز الدمية) انظروا إليّ، ألست جميلة؟ بالله عليكم ألست جميلة؟ أنا استطيع أن أقوم بكل ما تقومون به. أستطيع أن أغنّي، وأرقص. (تصمت قليلاً) أه عرفت. تريدونني أن أغنّي. أنا واثقة بأنكم تريدون أن تسمعوا صوتي وأنا أغنّي. أنتم تريدون هذا، وأنا، ومن ضمن حقوقي، من حقّي أن يكون لي القرار. والقرار، سيداتي سادتي، أني أجد ليس من المناسب أن أغنّي الآن. بصراحة، كنت أحلم في أن أكون مغنية، ومغنية مشهورة! هو مجرد حلم، لكني لم أفعل. (متسائلة) لماذا..؟ (ضاحكة) لأني غير مقتنعة بصوتي (تصمت قليلاً) اذا كنت أنا غير مقتنعة بصوتي، فكيف تقتنعون أنتم به؟ (تضحك) هذه طرفة، أليس كذلك؟ اعترف أنها طرفة ساذجة. ايّاكم أن تتصوروا أني ساذجة. الطرفة ساذجة، ولست أنا. أحياناً نقول أشياء غير مقتنعين بها، لكننا نقولها.. (تتساءل) لماذا نقولها؟ (تجيب) لأنها المجاملة! المجاملة التي تجعلنا أن نتفوه بأشياء مثل هذه. (تصمت قليلاً) آه لقد تعبت.. أخبرتكم بكل ما في قلبي. ساعتي البيولوجية تخبرني أن وقت قيلولتي قد حان. عليّ أن أترككم الآن. اطمئنوا لن ننتهي، ولن نترككم وحدكم. صديقتي ستكمل معكم. وداعاً.
(الشابة تسحب الدمية الى داخل الصندوق- الاضاءة تخفت بشكل كبير)
الشابة: (تخرج من الصندوق) أعيدوا الضوء. أنا جئت، وقد حان دوري. لماذا أطفأتم الضوء؟ أعيدوه.
(بقعة الضوء تظهر الشابة)
الشابة: (الى مهندس الاضاءة) هذا أفضل. ايّاك أن تظلّمها ثانية. لا أعرف لماذا ترغبون في أن تضعوني دائماً في العتمة. لست خفّاشاً لأعيش في العتمة. يكفيني عتمة نفوس بعضكم (تصمت قليلاً) قلت بعضكم ولا أعني كلكم. من أعنيه هو ذاك الذي يتصوّرني دمية. مثل تلك الدمى. أو يراني سلعة مثل كل السلع الموجودة في السوق أو في منزله. أنا لا هذه ولا تلك. أنا، وأكررها للمرة الألف، أو المليون، أنا انسان. قد تستغربون، وتتساءلون، كيف لانسان أن يكون بهذا الحجم؟ أعني الطول.لا أريد أن أشرح لكم، لكني مضطرة أن أبوح بما في صدري. (تجلس على الصندوق) حين يذهب أحدكم الى أيّ متجرٍ لشراء بنطلون، أو كنزة، أو أي ملبس، يسأله البائع: ما هو قياسك؟ نعم، يقولها بليونة هكذا: ما هو قياسك؟ وما عليه الا أن يذكر رقماً. عادة يكون بالسينتيمتر. والقياس يا سادتي يا كرام هو ما يحدد ملائمة الثوب على جسدك. وهذا أيضا، أعني المقياس، ينطبق على البشر، فالبشر مقاسات. خلقوا هكذا بمقاسات مختلفة. القصير والمتوسط والطويل. ليس من المعقول أن يكون مقاسات البشر متساوياً. لا بد من اختلاف، وهذا ما يميّزنا. أنت طويل جداً، تستطيع أن تضع المصباح في أعلى الحائط. وأنا قصيرة لا استطيع أن أجلب لي ماعوناً وضعته أمي في أعلى رف في المطبخ. هذا ما يميّزنا عن بعض. الطويل لا يستطيع ان يلتقط شيئاً من الأرض بسهولة، بينما القصير يستطيع فعل ذلك بسهولة. ها. هل اقتنعتم أن المقاسات ما كانت باختيارنا. وهي من صنع الخالق وليس من صنع أحد. واذا كانت كذلك فلماذا تتساءلون؟ لماذا تفترسونني بنظراتكم كأني قد خرجت توّاً من القمقم. ألم تروا كائناً من قبل مثلي؟ اطمئنوا، لست من سكان المريخ (تضحك) ولست من سكان أورانوس، أو زحل. (ضاحكة) أترون؟ أنا أضحك مثلكم. أضحك من أجل إسعاد نفسي ولا أضحك على الآخرين. لا أحد أفضل من أحد. كلنا أبناء آدم وحواء. (تنظر يمينا وشمالاً) ما زلتم مندهشين. كيف لشابة مثلي، وبهذا الطول، أن تخاطبكم هكذا. اصبروا قليلاً وستعرفون كل شيء. (تصمت قليلاً.. تنظر الى جهة ما) ها.. ماذا قلت. لم أسمعك. أرفع من صوتك فأذني ليستا بحجم لسانك (تضحك) ها.. كرر ما قلته قبل قليل رجاء. ها… تريد أن تعرف اسمي أولاً؟ (مترددة) لماذا تريد أن تعرف اسمي؟ وما يهمك الاسم أساساً؟ (بغضب مصطنع) عيب يا ولد! أسماء البنات لا تُذكر في قارعة الطريق، أو في المسرح، وحتى في فيسبوك! (تضحك) حسناً، حسناً.. أنت زعلت؟ لا أظنك زعلت. قل لي أولاً ما اسم أمك؟ ها.. سكت! قل لي ما اسم أمك؟ اذكر اسمها أمام الملأ. (تصمت قليلاً) عيب ها.. صحيح عيب! من جانبك اسم أمك عيب، ومن جانبي أمر طبيعي (بغنج) وتعارف! يا لغباء هذا المجتمع الذي يخجل من ذكر اسم الأم. تلك التي حملتك وهناً على وهن، وربتك، وأرضعتك، وسهرت الليالي من أجلك، ألا تستحق أن تذكر، أم تبقى نكرة مثل كل النكرات. يا لغباء هذا المجتمع الذي لا يقدّر تعب تلك السنوات. أما كان أن يفتخر المرء بامه ويقول أمي فلانة دون أن يشعر بخجل؟ أنا لست مضطرة للإساءة لأحدٍ، ولكن ما أراه من أفعال وتصرفات تجبرني على أن أقول هذا. ليست من عادتي أن أسيء، لكني أتعرض للإساءة كل يوم بكلمة، او نظرة، أو ايماءة. تلك هي النظرات على من هنّ على شاكلتي. ما الذي تريدونني أن أفعل؟ أكان عليّ أن أعلّقَ جسدي بعمودٍ لأحظى بسنتيمتر زائد يضاف الى قامتي كي أبدو مثلكم؟ كيف يمكنني أن أجعل قامتي طويلة لتكفّوا عن نظراتكم القاتلة لي؟ يا سادتي (باستهزاء) وسيداتي طبعا، أنا هكذا ولدت. بقامة تليق بي. (تدور حول نفسها) لا ينقصني شيء. قالت أمي: أن النسوة في الحي كنّ يتوقعن أن لعنة قد أصابتها يوم ولدتني. تجمعن في الدار، ورحن يقلبنني غير مصدقات بأن ما انجبته هي أنتِ. ضحكن كثيراً. هذا ما قالته أمي (تكمل) وتعوذن من الشيطان الرجيم، وقرأن المعوذات، وسبّحن باسم الرب خشية أن يصيبهن ما أصاب أمي. من يومها، تقول أمي، أن هذا الكائن الصغير الذي انجبته سيكون نذير شؤم للعائلة. أمي التي لم تلد غيري تعبت كثيرا ليس في رعايتي انما من كلام الناس.
هذه تنظر لي بدهشة: يااه، كأنها دمية!
وتلك ترفع يديها للسماء قائلة: الحمد لله والشكر على كل حال.
ما هذا؟ تحمدين وتشكرين على ماذا؟ على خيباتك. تحمدين ربك وتشكرينه لأنه خلقني بهذه الصورة؟ حريّ بي أن أشكر أنا ربّي وأحمده، لأنه لم يجعل لي لساناً يستهزئ بأحدٍ. أنا لم أقل لاحداهن أنك مثل مِعزاة، ولم أقل لتك كأنك برميل. لم أقل ذلك لأحد، ولا أسمح لنفسي أن أقلل من قيمة أحد. لا أريد أن أزكّي نفسي، فأنتم تعرفون جيداً من يزكّي الأنفس. هذا هو الفرق بيني وبين من أعنيه. أنا ان مشيت في شارع أرى كل العيون تبحلق بي وتنهشني. وكذا الحال في الأسواق، وفي كل مكان. والانكى من ذلك أنهم يستبعدونني عن العمل. لا عمل لي في مجتمع يقسّم الأفراد بحسب مقاساتهم، وأحجامهم! (تتنهد وبعد صمت) قبل شهر تقريباً، قرأت اعلاناً في جريدة يوميّة، يريد صاحب الاعلان موظفة تعمل بدوام جزئي، قلت لأجرّب وأذهب الى الشركة. يوم قابلني المسؤول شاهدت ابتسامة غريبة ملأت وجهه، وهو يرمقني بنظرة استغراب. قال لي: هل أنت متأكدة من تقديمك لهذه الوظيفة. قلت له بكل ثقة: نعم يا استاذ، أنا عندي شهادة بكالوريوس ادارة. لم يقل شيئاً. وراح يقلّب أوراقي التي أمامه ثم بعد لحظة قال: اتركي رقم هاتفك وسنتصل بك أن جرى اختيارك للوظيفة. طردني بطريقة دبلوماسية. لم أترك رقم هاتفي لأني أعرف أن الوظيفة بعيدة كل البعد عني خاصة وهناك آنسات أطول مني بذراع او اثنتين. تلك واحدة من القصص الكثيرة التي احتفظ بها. أنها تؤلم خاصة اذا كنت تشعر أن الآخر لا يعاملك كانسان! قد يقول قائل منكم أنني أبالغ، أو أخترع قصصاً من نسج خيالي. حسناً، أنا معكم. لأنها قصص غريبة ما لم تقعوا في نفس المطبات التي وقعت فيها. (تنهض من مكانها) لا أريد أن اعكّر مزاجكم، ومزاجي أيضاً. دعوني أخبركم عن أمور ربما تجدونها غير ذات أهمية. انما لها فعل خناجر الظهر عليّ وعلى من هنّ مثلي، قصيرات القامة. هل سمعتم بمفردة قزم؟ أو قزمة للمؤنث طبعاً. تلك مفردة تقال بشكل دائم، وهي بسيطة جداً وسهلة على اللسان لكنها تقتل! نعم تقتل. مثل هذا التنمر صادفني كثيراً. يقولونها، واسمعهم، لكنهم لن يتجرؤوا أن يلفظوها أمامي. أليس هذا تنمراً؟ لا أقول الا، لا عتب على الغباء! لا تغرنّكم ما يلبسون، وما يملكون، أو يأكلون، فالنتيجة واحدة. هم متنمرون (مؤكدة) أغبياء متنمرون!..تصوّروا، في المدرسة، عندما كنت طالبة، كنت أسمعها من معلمتي وبشكل صريح. تقولها ضاحكة أمام الطالبات: أين واجبك البيتي يا قزمة؟ هه! ما الذي أجيب؟ ساعتها كنت أفكّر بالقزمة ونسيت أن أريها واجبي البيتي. ضربة موجعة لا أعرف كيف تحملتها خاصة وأن زميلاتي الطالبات ضحكن كثيراً دون أن تؤنبهنّ المعلمة. ضحكاتهن ونظرة المعلمة نزلت على رأسي كالحجر. أتعلمون ما الذي يفعله الحجر بالرأس؟ (تتأوّه) لا احتاج لشفقة أحد. لا تشفقوا عليّ، اشفقوا على أنفسكم تلك التي لم ترَ الا ما يناسبها. بعد كل الذي حصل لم يبقَ لي الا هذه (تشير الى احدى الدمى المعلّقة، تقترب منها وتحملها بيدها) هذه صديقتي. طيّوبة، ومحبوبة. ألعب معها، واتحدث معها. لم تُسمعني الا ما يسر، ولم أسمعها الا القول الطيب الذي يجعلها سعيدة. السعادة تحتاج الى روح مرحة. ايجابية وسمحة. تشع في المكان وتجعله مضيئاً مليئاً بالفرح. صديقتي هذه (تشير الى الدمية) لها هذه الروح. تمعّنوا في وجهها. انه يشبه وجهي. نحن متشابهتان. متشابهتان تماماً. بالمرح، والطول أيضاً. هي أقصر مني قليلاً لكني لا انعتها بالقزمة. أنا لا احب الدمى الطويلة. أحبها هكذا. مثلي بالضبط. البارحة قالت لي، أقصد صديقتي، قالت:
–لماذا تضعينني دائما في الصندوق، أريد أن أخرج الى الشارع.
– الشارع لا يناسبك حبيبتي.
– كل الناس يمشون في الشارع.
– لا أريد أن يراك الناس.
– أنا أحب الناس.
– وما أدراك أنهم يحبونك؟
صديقتي التي لم تعرف الحزن، حزنت. تصوروا، كنت سبباً في حزنها. هي لا تعرف أن عيون الشارع لئيمة. ماكرة. مرة سألتني، وهي كثيرة السؤال:
ـ لماذا نقف دائماً في الشرفات العالية؟ ألا يجدر بنا أن نجلس في الحوش.؟
ـ الشرفات العالية تجعلنا نرى الناس بأحجامهم، أو أقل من ذلك.
ضحكت. وعرفت صديقتي سر ضحكاتي. هذه التي ترونها ذكية جداً. تعرف كل ما يجول بخاطري. تقرأني جيداً مثلما أقرأها. عاشت معي، وكبرت معي، قد تتساءلون: هل الدمى تكبر؟ (بثقة) نعم، تكبر. مثلنا، وتشيخ أيضاً. أنتم ترونها قطعة قماش حشر بداخلها قطن. وأنا عكسكم تماماً. لا أراها الا كائناً جميلاً. هي نسخة مني. أنا هي، وهي أنا. كلانا نعيش، ونمرح.. (بحزن) وربما نموت معاً.
(تحتضن الدمية، وتدخل معها الى داخل الصندوق)
هل تروني جيداً؟ أنا واحدة منكم. مثلكم. تحسسوا أجسادكم ستروني فيكم.لي مثلكم من أحاسيس. أحلم مثلكم. آكل مثلكم. أعيش مثلكم. لا تطردوا الرأفة من قلوبكم، وحين تنظرون الي تذكّروا اني انسان.
اظـــــــلام- ستــــــــــــار
** عبد الكريم العامري (البصرة المظلومة) / 31 كانون الأول 2020