"الميناء" للفلسطيني فراس أبو صباح: مسرح الشارع ومسرحته! / تحسين يقين
لعبة مسرحية جميلة مشوقة حيوية مغامرة!
هو بحث عن دور للفن والفنانين والشباب.. ومعاناتهم، بل ومعاناة البشر المنتظرين الفرج في بلاد الله.
وهو عمق التعبير الدرامي، الذي ما زال الأكثر تأثيرا في حياتنا.
الجميل والنبيل في “الميناء” انها رغم احتجاجيتها، الا انها تدفعنا نحو البحث عن حلول بديلة بعيدا عن التصادم بدون جدوى؛ فما فائدة التصادم، إن التغيير ممكنا بوسائل تصالحية؟
لذلك، فإن هذا العمل الفني الذي يسعى فعلا لاستعادة الجمهور العام للفن وليس فقط الشباب، يعيد الأمور لنصابها، حيث دوما هناك دور ومجال لنا وللشباب، وليس التطرف او الجنوح الا تجليات سلبية لا فائدة منها لأحد.
في لحظة ما شعرنا أن إطلاق الممثلين صرخة التوجع “أي”، وترديد المشاهدين معهم، بمثابة دعوة للاحتجاج، سيخرج الكل على إثرها إلى الشارع، كتظاهرة ثقافية لإعادة الاعتبار لدور الفنون والآداب، وبالطبع ربما ليس هناك ضرورة للخروج، لأن العرض هو عرض مسرح الشارع.
انسجم الشكل بالمضمون هنا، بل لعل اللعبة المسرحية الجذابة ارتقت بالمضمون الإنساني النقدي للذات والمجتمع معا؛ فقد شدتنا المسرحية من بدء العرض حتى نهايته، بل لعلنا حملنا معا المسرحية في أذهاننا، لا لنفكر بالحال فقط، بل بتأمل عميق له باتجاه التغيير.
لقد كان لحيوية الأداء التمثيلي لكل من مريم الباشا ومنذر بنورة وإحسان سعادة، دور في إيصال المعنى النبيل، وكان للكوميديا والغناء دورهما في الجذب الإضافي.
كنا أمام أداء تمثيلي رشيق جدا، اعتمد تعددية مستويات الوقوف، على الأرض والمنضدات، بحيث يصير الوقوف عليها كمن يعلو منبرا، للخطاب من ناحية، أو المواجهة أو حتى البوح.
فنانون، مواطنون ربما، ينتظرون سفينة تمضي بهم للخلاص، بعيدا عن ركود “سوق الفن”، حيث يطيل هؤلاء وآخرون (ونحن أيضا) الانتظار، من أجل الصعود اليها والإبحار بها وعلى متنها يحملون ونحمل الأمل.
بدأت المسرحية بوقوف ثلاثتهم على المنضدات في وضع ثابت، المرتفعة عن الأرض، حيث بدأ المزاد، وفي كل مرة، تتحدث السيدة عنهم، يتحرك الفنان/ة منسجما مع ما تصوره من مواهب.
استطاعت المسرحية، خلال الانتظار وتمضية وقت المنتظرين، تصوير حالنا، بصدمنا، عبر مشهد المزاد العلني على الفنانين، الذي بدا كوميديا سوداء، حيث تسوق السيدة كل فنان بما يملك من صفات وقدرات تمثيلية، لتمارس الصدمة حين تضع “المغنية” فوق “البيعة”، تشجيعا للمقتنين، كأنهم أشياء وممتلكات لا بشر؛ كأننا إزاء إيحاء نقدي مبطن وظاهر معا تجاه المؤسسات والمجتمع ونظم الحكم.
وهنا، خلال هذه المواجهة مع الذات، في هذا المزاد، تظهر معاناتهم، وما يبحثون عنه من خلاص خارج بلادهم، ركوبا للسفينة المنتظرة.
بل لعلنا، نجد اللعبة المسرحية، تتداخل مع شخصية كورديليا في “الملك لير”، حيث حين يتحدث أحد الفنانين عن قصة، نجده يأخذها لمدى واسع، بحيث يتقمص شخصية أخرى، يبوح بها، بل يظهر انفعاله وغضبه، لتعيده السيدة الى الواقع. وهكذا يتبادلون القصص، التي تم توظيفها لحال الانتظار، كما تناوبوا من قبل دور المسوّق في المزاد.
كذلك كان لاستخدام حركة الظهر للظهر، للممثلين، وهم كأنهم يتضامنون معا يلوذان بأنفسهما، أو كأنها يحميان كليهما، من خطر ما. هنا ثمة هدف للأسلوب التمثيلي، في إيصال المضمون، بشكل حيوي جاذب حركيا، يصير للحوار هنا معنى التجلي الإنساني الشعوري والواعي.
وكان لصوت الفنانة إحسان سعادة (الشجيّ والشجن) دور في خلق جماليات صوتية من ناحية، ودور في خلق معادل نفسي مقابل الألم، في ظل كلمات الشعراء التي أصلا تحاكي الحال وتقاربه.
وتظل اللعبة، والانشغال والاقتتال، لتتكرر صدمتهم برحيل السفينة وهم ليسوا على متنها.
أمران مهمان، وهما رسالتان في رسالة واحدة: تضييع الوقت ونشدانا للخلاص خارج المكان، وأظنهما مرتبطان معا بشكل عضوي وموضوعي.
وهنا، فإننا نجد أن لهذه المسرحية دورا ليس فقط في الحديث عن معاناة الفنانين فقط بل عن معاناة البشر، باتجاهات البحث عن حلول، لخلق تصالحية لا تصادمية.
هنا مجال أيضا لاستعادة جمهور الشباب للفن من ناحية، وللإيجابية، بأن يكون لهم دور، بعيدا عن التطرف بنوعيه، الخلقي والسياسي.
لم تكن المسرحية لا تفريغا لطاقات فقط، بل ارتقت إنسانيا ووطنيا بما استلزمت من نقد حاد؛ لكن ليس جارحا، ولا يائسا، بل متعلق بالإرادة والأمل.
إنه رقي في الكتابة والأداء والإخراج معا، حتى أن وجود الممثلين على المنضدات، بل ووضعها بعضها فوق بعض واعتلائها، يعني الارتقاء الى الأعلى.
لقد أدهشنا طاقم المسرحية، الذين قدموا العرض في ساحة خارجية وليس في المسرح، من خلال رشاقة الأداء، وجمال الصوت والعزف الموسيقي المصاحب، في الوقت الذي أسرنا جمال الصوت ومعنى الشعر الذي أضفى معنى رمزيا وواقعيا على حال منتظري السفينة ونحن أيضا.
كما كان للملابس الموحية دور بصري، في ملاءمة حاله كفنانين في المزاد، وكذلك ما مثلوا من قصص.
عرض جميل من أوله إلى آخره، بل ويظل معنى كبشر نطمح الى الخلاص الجمعي والفردي، في ظل تسليع مفردات الحياة بل والفن والثقافة والجمال.
وهو عرض ينتمي لمسرح الشارع، ولكنه أيضا عرض مسرحي متكامل، يمكن أن يقدم على الخشبة، بما يملك من عناصر الفرجة، أخرجه الشاب الواعد فعلا المخرج الموهوب على طريق احتراف سريع فراس أبو صباح، الذي يبنى على ما تم إنجازه، ليضيف له روحه الشابة فنيا شكلا ونقديا مضمونا.
أنه نص الفنانة الشابة مريم الباشا، ومن تمثيلها أيضا، ومن تمثيل منذر بنورة، وتمثيل وغناء إحسان سعادة. أما الموسيقى المصاحبة، فكان الإيقاع للفنان حسين ابو الرب، والعود للفنان محمد كحلة، من فرقة جوى. وكانت كلمات الأغاني للشاعرين الجميلين ليث برغوثي وطارق عسراوي.
جميل أن تحتضن وزارة الثقافة هذا العرض الذي يدل على عمق الرؤية حول استعادة جمهور الشباب والمجتمع، وجميل أن نشهد هذا التعاون مع شبكة الفنون الادائية بدعم من القنصلية السويدية، وبالشراكة مع مسرح وسينماتك القصبة وحاضنة فلسطين الثقافية.