ثريا المسرح المغربي .. و موسم الهجرة إلى الغياب ../ بقلم:كريم الفحل الشرقاوي .
رغم أن الساحة الفنية تبدو بوجهها الكوروني المكدود غير قادرة على تلقي جرعات أخرى من الانكسارات .. فقد جاء موسم النعي هذا لينكأ هذا الجرح .. جرح التيه .. وجرح الغياب المتسلسل لرواد كبار ما انفكوا يتساقطون الواحد تلو الآخر … إنه موسم الهجرة إلى الغياب .. غياب رواد و مفكرين و مبدعين كبار نحتوا أسماءهم في ذاكرتنا و وجداننا و في مقدمتهم سيدة المسرح المغربي التي طالما أثثت متخيلنا المسرحي بأعمال متوهجة تمتح من قضايانا و شظايانا و خلايانا .. و تنهل من تشققات و تصدعات الذاكرة المشروخة .. لتتحول بذلك إلى رمز للصرخة الصادحة بهمومنا المشتركة .. و أيقونة الكلمة الصادقة التي تحفر عميقا في جدارياتنا المحلية و القومية و الإنسانية من خلال فرجات مسرحية وشمت ذاكرة المسرح المغربي و العربي كمسرحية ” أربع ساعات في شاتيلا ” لجان جنيه .. التي اعتبرت شهادة حية و لطمة في وجه العالم و التاريخ و مرافعة بليغة أمام ما تبقى من الضمير العربي عن مجزرة صبرا و شاتيلا .. حيث قدمت فنانتنا الراحلة بأدائها العبقري وروحها المتوهجة و جسدها المنتفض شهادتها الممشهدة التي صنفت ضمن أهم الأعمال المسرحية التي تناولت الجرح الفلسطيني الغائر الذي لم يندمل بعد . و بنفس الروح المتوثبة ستتسلطن ثريا المسرح المغربي في مسرحية ” امرأة غاضبة ” التي تحولت خلالها الراحلة إلى قصيدة ثائرة و نافورة متفجرة و ضمير متوثب و صرخة مدوية ضد طاحونة الحروب و غربان الدمار و أجراس الخراب .. سلاحها الوحيد جسدها الضامر النحيل وروحها الكريستالية الشفافة التي ما فتئت تعزف سمفونية الإدانة للأفول المدوي لإنسانية الإنسان .
في سنة 1952 وفي قلب المدينة العتيقة بمدينة الدار البيضاء أطلقت ” السعدية اقريطيف ” صرختها الأولى قبل ان تستعير فيما بعد إسم ” جبران ” من زوج شقيقتها محمد جبران الذي كان له الفضل في رعايتها و رعاية موهبتها المسرحية . و بعد تمرسها و سطوع موهبتها على خشبات مسرح الهواة و تتويجها بجائزة أحسن ممثلة في الإقصائيات الإقليمية لمسرح الهواة بالدار البيضاء سيتم انتقاؤها في سنة 1968 للإستفادة من التداريب المسرحية التي كانت تنظمها آنذاك وزارة الشبيبة و الرياضة بالمعمورة تحت إشراف كبار المسرحيين المغاربة و الأجانب الأمر الذي أهلها لولوج معهد المسرح الوطني التابع لوزارة الشؤون الثقافية بالرباط .
شاركت ثريا جبران بعد تخرجها في العديد من الأعمال المسرحية و التلفزية كما ساهمت في تأسيس العديد من الفرق المسرحية المغربية المحترفة كفرقة مسرح الفرجة و فرقة مسرح الشعب وفرقة مسرح 80 و فرقة محمد الخلفي و فرقة المسرحيين المتحدين … غير أن لقاءها مع الرائد الكبير الطيب الصديقي سيلقي بها في معمعان تجربة مسرحية غاية في الخصوبة و الثراء و سيفتح أمامها بوابة التألق و التوهج في مهرجانات عربية و دولية من خلال فرجات مسرحية تراهن على التجريب التأصيلي من داخل موروثنا المغربي و العربي كمسرحية ” سيدي عبد الرحمان المجذوب ” و ” مقامات بديع الزمان الهمذاني ” و ” الإمتاع و المؤانسة ” و” أبوحيان التوحيدي ” و مسرحية ” ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ ” التي ضمت نخبة من ألمع رواد المسرح العربي . القفزة النوعية الثانية التي بصمتها ثريا جبران في ذاكرة المسرح المغربي المعاصر هي تأسيسها سنة 1987 بمعية زوجها المخرج الكبير عبد الواحد عوزري لفرقة ” مسرح اليوم ” التي أثخنت المشهد المسرحي المغربي بأعمال ثرية تمتح من بلاغة و طراوة الفرجة المسرحية الحديثة في اشتباكها مع نصوص شعرية و سردية و درامية تراهن تيماتها على تفجير راهن القضايا الحارقة و الملتهبة و هو ما بصمته المسرحية الأولى للفرقة ” حكايات بلا حدود ” المقتبسة عن نصوص للشاعر و الكاتب السوري محمد الماغوط و التي عاقرت بسخرية لاذعة الأعطاب السياسية المزمنة لعالمنا العربي … ليستمر بعد ذلك مسلسل توهج الثريا في كل أعمالها المسرحية اللاحقة : ” بوغابة 1989″، و” نركبو الهبال 1990″، و” النمرود في هوليود 1991 ″، و” سويرتي مولانا 1992 ″، و” الشمس تحتضر 1993 ″، و” أيام العز 1994 ″، و” اللجنة 1995 ” ، و” امتا نبداو إمتا 1997″ ، و” البتول 1998 ″، و” العيطة عليك 1999 ” ، و” امرأة غاضبة 2000 ″، و” الجنرال 2001 ″، و” أربع ساعات في شاتيلا 2002 ” ، و” ياك غير أنا 2003 “. كل هذه الأعمال المسرحية السابق ذكرها كانت من توقيع شريك حياتها المخرج عبد الواحد عوزري في حين شكل الكاتب المغربي محمد بهجاجي رقما صعبا في مسار فرقة مسرح اليوم .
نبوغ و سطوع ثريا جبران لم يقتصر على خشبة المسرح بل امتد إشعاعها إلى الشاشة الفضية حيث قدمت أدوارا لا تنسى في أفلام مغربية و عربية و دولية . و رغم أن الشاشة الصغيرة كانت عتبتها نحو الشهرة إلا أن المسرح ظل بيتها الأول و محرابها الذي تتبتل بخشبته كقديسة متعبدة . تقول ثريا جبران ” جئت إلى المسرح .. إلى المهنة و المكان الدافئ و الناس الرائعين في سن مبكرة ( عشر سنوات تقريبا ) و بقيت هناك أسمع الأصوات و أتمثل كلام الآخرين .. كما لو كان كلامي .. بل حرصت دائما أن أجعله كلامي لأقوله للآخرين .. كان دوري كممثلة أن أمتص هذا الكلام و أتشربه و أسكنه و يسكنني كي أقوله بصدق .. و أخرجه كالشرار حارا مع أنفاسي وروحي .. مع صوتي و صمتي . لقد منحت العمر للمسرح .. ما قضيته من سنوات على الخشبات و في المسارح المغربية و العربية و الأجنبية أكثر مما قضيته في بيتي و بين أفراد أسرتي الصغيرة . إتخذت المسرح مسكنا و أهل المسرح أهلا .. و تهت طويلا بين النصوص و الشخوص و الأقنعة و الأحلام و الخيال .. و كانت سعادتي في كل عمل جديد . وطبعا كان هناك الكثير من الألم في طريقي ” .
كان من جميل الصدف أن تكون أول جائزة تمنحها ثريا جبران لفنان مسرحي بعد استوزارها من نصيبي .. و بعد أن قدمت لها واجب الشكر مع عبارات التهاني باعتبارها أول فنانة مغربية تتقلد منصب وزارة الثقافة أجابتني بشموخ ” لقد انتصر أبو الفنون لابنته “.
عن: الحياة المسرحية