افاق وتنبؤات (ما وراء الرؤية) "ظل وطن اخر"للدكتور دلشاد مصطفى/ دراسة نقدية للدكتورة منتهى طارق المهناوي
لا أجد غرابةً في أن يستدعي الكاتب المستقبل بين طيات أوراقه نبوءات تكاد تصل الحقيقة، إن قراءة المستقبل واستنطاقه ليس بالشيء الهين فهو يتطلب قدرة تخيلية غير طبيعية تكاد تكون أشبه بالنبوءة، وهذا يمكن أن يكون فقط عند الكاتب الملهم العارف المستنطق لخياله وأبعاده الزمنية المستقبلية. هذا ما قرأته في نص مسرحية “ظل وطن اخر” للكاتب الدكتور (دلشاد مصطفى) والتي كتبها ربيع عام 2010 وكأنه يستدرج المستقبل بنبوءة لما يحدث الآن، فقد استنطق الكاتب الزمن المستقبلي بشريط سينمائي عالي الجودة لما سيحدث عام 2019 في ضمن رؤية سردية درامية فلسفية رائية للأحداث والصرعات والأزمات بحزمة ضوء كاشفة لما سيحدث مستقبلا، فلو نظرنا للنص وقرأناه قراءةً أنطولوجية لعبرنا زمنا ليس بالهين يحمل تأويلات ودلالات وعلامات وقعت الآن وهنا بزمن تباعدي رؤيوي مستقبلي وبتخيل واع عميق، وفي نظرة متفحصة عارفة لكتابة ألاحداث المسرحية في زمن مغاير عن زمن الكتابة زمن التحولات ولانقلاباتالسياسية والاقتصادية والأيديولوجية والاجتماعية،منح الكاتب النص رؤية مستقبلية مغايرة كان من المستحيل في زمن كتابتها الركون إليها والى مسلمتها والقناعة بإحداثها.
أنطوى النص على عنوان ممهّد لجسد النص يكشف لنا عن مقاربة تأويلية بين دالتين واقعيتين بتشظي دلالي استعاري قريب لسطح المعنى في ضمن تصويرية مجلجلة داخل السياق الذي سيرد في جسد النص، باستعارة تتمثل بظل آخر لوطن آخر،فيها صرخة اجتماعية لإدانة عالم يضم وطن بأكمله بكل معالمه، فرض الكاتب بخط سير نصه بنية دلالية فلسفية من خلال مشهدية افتتاحية، تحمل دلالة جمالية منفردة بصوت أنين وحزمة ضوء وجسد امرأة، هذا المثلث الجمالي مكتمل الأطراف بعلاقة اسنادية انزياحية تفتح آفاقا ولادة حياة جديدة على وفق التوضيح الآتي:
حزمة ضوء جسد امرأة أنين
ولادة
لنتأمل هذه السردية الافتتاحية التي قصدها الكاتب بوصفها مفتاحا لجسد نصه، تحمل صرخة مدوية إذ يخرج شاب حاملا قطعة قماش بيضاء من بين ساقي المرأة، ولادة يرافقها الموت. تضاد دلالي يحيل إلى بنية النص بمصطرع داخلي نكشف من خلاله الخطوط الأولى لمرتسم النص في ضمن مشهدية تصويرية رمزية،خالقة لشعرية درامية.
توضح هذا من قراءتنا للحوار الأول الذي جاء على لسان الابن:
الابن: هذه ليست أرض الحياة..ألم اقل لك، دعينيأرى النورفي زاوية أخرى من هذا العالم الصاخب؟ لن اغفر لك ابدا.
(تخرج عدة رؤوس من فتحات محفورة على الخشب وتهتف بحوارات مختلفة)
رأس 1: لماذا یا امي لماذا؟ کان من المفروض ان أری الدنيا لأول مرة علیشاطیءالبحر وبین أمواجه الصغيرة.
رأس ٢: من قال لك أني أحب الحياة؟ لماذا فعلت ذلك بي؟
رأس ٣: یالیت ساعة ولادتي وموتي کانت واحدة.
رأس ٤: یا لها من مصیبة! اي شيء يربطني بهذه الخرابة.
رأس ٥: لولاك ماكنت لا أحبذ ان اشرب نخب هذە المحنة.
رأس ٦: کنت في سبات لذيذ، أيقظني شؤم آلام هذا المكان.
(مع کل حوار تصرخ الأم صرخة ألم وتختفي الرؤوس مع نهاية حواراتها)
جاء الحوار رافضا للواقع الذي تمثل بقول: (دعيني أرى النور في زاوية أخرى من هذا العالم الصاخب..) الابن هنا هو رمز لشباب مماثلين له في ضمن دائرة المجتمع والذي سلّط فيه الكاتب الضوء على الحدث بدخول لافت للنظر في سياق البناء الدرامي بتكرار سردي لشخصية الابن من خلال تكرار الحوار بأشكال متعددة ومختلفة في سياقها اللغوي في حين تتفقفي سياقها الدلالي لرؤوس شخصيات تخرج من قطعة خشب التي انزاحت تأويليا لدلالة (التابوت) الذي يضمّ جسد الابن بتعددية الرؤوس وصرخة الولادة التي تطلقها الأم مع كل حوار في هيمنة سياقية لحياة اجتماعية لاسيّما لما يعيشه الشاب من خلال منظور تعددي لمرحلة زمنية تدور فيها الأحداث.
لايكاد يقتصر التنبؤ المستقبلي على الكاتب فقط بل نجده يتعدى إلى وبقصدية لها ثقلها في تصويرية ملفتة ماينتظره الابن من أحداث على هذه الأرض حين نرد هذه الظاهرة التنبؤية إلى واقعها المعاش نجدها مبررة بما تمتلكه من تشبيه في ضمن آفاق درامية رسمت بمهارة تعددية لذوات ظل الشخصيات المرادفة لشخصية الابن، من خلال مناورة حوارية سردية لزوايا الحدث الدرامي الموجه إلى (انا) النصوبؤرته الدلالية، الذي رصدنا منه التشكيل الحواري في البنية المشهدية:
الام: اسكك..اسكت.. لا تتكلم( تنزل من الأعلى وتبحث في زوايا المكان، والرؤوس الموجودة في الحفرات تخرج متتالية لتقول .. اسكت.. اسكت).
الابن: لماذا تريدين اسكاتي ألم تكفوا من قصصكم المرة والغير مجدية. انا الان لا اهاب خرافاتكم القديمة وحكاياتكم المذلة انا أكبر من ان احاصر بالوهم، دعيني امشي فوق جسد هذا المساء المشؤوم.
الام: أخاف ان
الابن: ماذا.. من ماذا تخافين؟ هل تجدين ماكانا له. انظري أي دم حسود يقطر من جسمي الا تري كل هذه الجروح والخدوش.. انظري كم من أعضاء جسدي الذابل تنهمر من وجهي.
الام: قلبي لايتحمل كل هذا الألم.. ان لم تكف سوف انشق الى نصفين.
الابن: ماذا لدينا حتى نخسره. خرابة بيت قديم؟ نفايات بيوت الأكابر. أجساد عفنة ترميها طاحونة هذه المدينة الميتة. دعيني اتسلق هذه الجدران المهمشة واصرخ بأعلى حتى أوقض الناس من نوم الغفلة هذه.
في هذا الحوار نلاحظ آثار العبث القائم على تعالق وجداني للهم والفقر والجوع، ضربة إنسانية اقتصادية سياسية اثارها الكاتب بعمق المجتمع تحققت حين وصفها على لسان الابن بمفارقة صنع منها يقظة تثير وجداننا ببدائل عبثية مثلا حين يوضح الكاتب:
( تسمع صوت سيارة جمع النفايات تزمر وضوء مصابيحها يضيء المكان كأنها واقفة في الأعلى وترمي النفايات على خشبة المسرح. تأتي مجموعة شخصيات الى الخشبة تبحث في النفايات وتنصب مائدة طعام من المخلفات الموجودة في النفايات وتصنع من بقايا البلاستك والزجاج اطباق واقداح وتبحث داخل الاكياس عن بقايا المأكولات. تبدأ المجموعة بالعمل سريعا، بحيث تجد بقايا خبز، طماطم وعفنة، نصف خيارة وتضعها على المائدة. الابن يقف على رأس الطاولة. أحد الأشخاص يصنع لنفسه طاقية الطباخ من قطعة قماش يجدها في النفايات ويأتي بقدر قديم مكسور اليد وملعقة خشبية نصف مكسورة. يبدأ بالضرب على القدر حتى يعلن وقت الطعام. تتجمع الشخصيات حول المائدة وتنتظر مجيء الام التي تمشي بغنج، وعندما تصل الى راس الطاولة تشير بيدها إلى الجميع بالجلوس. تجلس الشخصيات والطباخ يوزع عليهم الأكل الوهمي).
هذه صورة تراشق للذات بمأساة ساخرة حكاها الكاتب بصورة رمزية لعبت دورالمفارقة الطبقية في رصد حالة إنسانية بخطاب واقعي مشهدي اختزل الألم والإهانة والفقر كشفبها عن مجتمع مسحوق يعاني من وضع متهرئ بعيد عن الحياة الكريمة اختزال مشهدي للأسى:
الطباخ: حساء السعادة.
الام: لذيذ.
الشخص2: سلة من خضروات الفرح.
الام: نافعة.
الشخص3: رزمة من خبز الامل.
الام: مليئة بالطاقة.
الشخص4: طبق من حلويات الغد.
الام: طيبة.
الشخص5: وهذه حفنة من كرزات السلام.
الأم: ضرورية.
لهذه الصورة حنكة درامية رمزية، حاكها الكاتب بشكل لعبة حوارية بصنعة دلالية كاشفة عن ضالات مفقودة بمحاكاة وهمية للوصول إلى الحلم الضائع عبر مائدة طعام وهمية بفعل الأسى الحاضر بين ثنايا المجتمع والذات مفارقة حوارية لحق من حقوق الانسان في العيش الكريم جاءت الصورة هنا مبررة للحلم والأسى الذي مازال قائما.
(…، ینزل الابن من المائدة وبأخذ سلة قديمة ممزقة فيها بقايا خبز ویذهب إلی مقدمة المسرح ویریە للمشاهدين)
الابن: هذا هو خبز الأمل المليء بالطاقة (یضعیدە في جیبەویخرج بقايا كرزات مأكولة)انظروا إلی كرزات السلام .. تناولوه بالهناء في خرابة عیشکم (حیاتکم).
صورة الخلاص نلاحظها هنا بملحمية بدت واضحة على لسان الابن وهو يستفز المتلقي باقتراح الموت أو الحياة، فسخرية الذات من الذات طرحه بديلا من خلال صورة موازية لكراهية العيش الذليل بمواجهة مباشرة من دون قيود.
الابن: حتی أذكر العالم أين کنا وماذا أصبحنا،کیف ذهب هباء کل ما عانینە من الاذی والمحن، وأينأدی بنا صبرنا لیروا ما فائدة نضالنا الدؤوب کل تلكالسنين من أجل نسخة مزيفة من الحرية.
الأم: ضحی والدک بنفسە من أجل ذلک.
الابن:أبي؟ أین هو؟
الام: لقد أصبح الوطن والدکم.
الابن: الوطن والدنا؟ أين هو؟ لقد أصبحنا انا واخوتي بائعي کل شيء، من الكتبالی حمالات الصدر، من الأحذية إلی الطواقي والکوفیات،من الاقداح إلی الشرف، کل شيء، کنّا نبیع الناس الاحلام الوردية الموجودة بالكتب. یوم نقرأ الحظ لطيور السنونو المتجمدة من البرد القارس في أنفاق الاسواق المظلمة. ویوم آخر کنا نبحث عن خارطة كنوز البلاد المخفیة، كم كنا ضالین بائعي کل شيء.
يقدّم الكاتب هنا مفارقة تكثيفية دلالية ساردا بها بطريقة كنائية لفعل العتب على الوطن الذي سلب منهم كل شيء وأهمها الطفولة بأنه أصبح بائعا لكل شيء، مستطردا بسردية منولوجية بالبوح عن الألم الداخلي، عن الأسى الممنوح من ذاك المحب (الوطن) برمزية البيع. العتبة التي شكّل بها الكاتب شكل بيع الوطن من خلال ضمير المتكلم. تشبيه لاعتصار الروح عن ما ذهب ولايمكن أن يصلح.
الابن: ماذا اهاب یا امي؟ ابصق علی ذلک المصير الجبان، الموت أشرف. کفاک لوعة بذلک الماضي الخداع، حتی لا یکونمصيرککوالدنا الساذج.
الام:انەکان باسلا لکن هذا الوطن لم یسع لأحلامه.
يقدم النص هنا فعل التمسك بالوطن ليقابله الاخر بالعتب،وتساؤلاتماذا وماذا فعل الوطن بفعل الحب له.
الابن: ام! وماذا فعلوا من أجلە؟ تمثال من الطين. لا تزعلي ان قلت انهم کانوایعتبرونە مجنونا، من الممكنان أمسى جمجمتهالمليئة بالشوق تحت صخرة وسط الجبال ولا احدیبالي. (الابنيذهبإلی الوراء) رجل حالم اتریدینهم ان یسمونەأعظم من ذلک ؟، لا اظن يا اماه،(یضحک) ها ها ..لم یصنعوالەحتی تمثالا من الطین… ها ها.
إن فعل الأسى والعتب والبوح فعل الألم والاستغاثة التي هي نجدة للروح المكسورة داخل وطن مكسور لاتدركه الاستغاثة أو حتى الاستذكار، كقوله (وماذا بعد، ماذا فعلوا، ومن أجل من ضحى بنفسه للوطن)، هذا الشي المقدس غاية في الألم، فعل الموت بفعل اللامبالاة سخرية القدر التي جعلت منه يضحك بهستيريا مميتة، يسخر من أنه منسي في وطن نسى أبطاله.
(یأتی احد الابناء جريحا ملابسه ملطخة بالدماء، تظهر سکینة كبيرة مغروسة علی صدره، یجتمع الکل ويتبعونه بلهفة دون ان یعملوا شيئا، یرکض الجريح من زاوية إلی أخری، یتبعە الاخرون رکضا، و فيکل وقفة یشکلون کتلة تعبيرية تدل تارة علی الخوف وعلی الحزن تارة اخری. الی ان یاتي الابن ویاخذە الی زاوية في مقدمة المسرح ویتحدث الیە.)
الابن: ضربوك، غرسوا سکینا صدئا في صدرك؟ قل لي لماذا؟ هل اعترف علیک النسيم؟ او نطق الشجر بالحقيقة الدامغة؟ قل لي من فعل بک ذلک؟ اي طير أخبرهم عنک؟ لماذا فعلوا بک هذا؟ قل، تکلم! هل قصصت حکایات ملونة للعمیان؟ ام علمت البکم موسيقى النشوة؟ ماذا جنیت؟ ما هو ذنبکحتییفعلوابک هذا؟!.
عتبة نصية أخرى ليختزل بها النص الأسىمن خلال التلاعب بالانتقالة البنيوية للنص على وفق صورة أخرى للوطن وعلاقات إسنادية للشخصية بتشكيل متنوع للتعابير الدالة بين الخوف والحزن وغيرها من الدوال المشكلة من الاخرون، انزياح آخر للموت داخل الوطن، عتاب مقنع للوصول إلى الخلاص من الواقع المرير من أجل استئناف حياة أخرى برؤيا بديلة للسوداوية والموت معادل موضوعي من أن يكون الهروب محتوم بفعل الحدث البنائي للنص بطرح بدائل وحلول بإزاحة الكراهية من الذات بصورة موازية لما يحدث من الاخر بوطن مسكون بالموت والرعب.
الابن: هاتي برماد أحدی الحروب وضعیە علی جرح ابنک. لا تقفي مكتوفة الیدین. لا تهدري السنوات العجاف و الصبر و التضحية والعیش في خرابة . ابنک کان في الميدان مع المعتصمين ینادي للحریة واضعا صورة والدە الشهيد علی صدرە فخورا، وکان کلە امل بانة سوف یکون محمیا، لأنه ابن البطل الحالم، مزقوا صدرە مع الصورة. ألم تلاحظي بقايا الصورة الممزقة في يدە، لم یبق شيئا مما تحسبینە مقدسا، لقد دنسوا کل شيء، أصدقاء الشهيد البطل، لم يبق لهم سوی ان يطمعوا فيك، وان لم یفعلوا هذا الی الان اه یا اماه! لو کان بیدي.لکنت ترکت کل هذا وذهبت. ماذا تنتظرين؟ لم یترکوا لک شيئا یستحق أدني تضحية، اذهبي وابدئي الحیاة في خرابة مدينة اخری بلد اخر واعثري علی بعضا من السكون لک ولأبنائك.
أراد الكاتب هنا أن يفصح عن صورة الدمار والخراب الذي حل بالذات الإنسانية برثاء وإشارات رمزية واضحة، موجهة للمتاجرين بالأرواح والقيم والإنسانية، وهذه كلها دلائل تشير إلى الظلم والقهر ووهم الحياة بوطن فقد وطنيته، وجه آخر للأسى الذي تفشى بوطن ضاع به من هو مناضل ومخلص واخر مندس يريد ضياع كل شيء جميل في وطن ضاعت فيه حتى الذكريات.
الأم:(تبدأ الکلام بهدوء) أشش..اسكت.. أشش.
هنا (الأم،المرأة،الأرض) كلها دلالات رمز لها الكاتب بالوطن التي هي بمنزلة الحب والحنان تحتضن أولادها وتخاف عليهم هي بمنزلة المقدس هي التعويذة وأكسير الحياة.
الأم:اسسسس.. اسكت، لا توفض المواجع والجروح النائمة في احشائي.
علامة أخرى للانكسار والأسى حين تلملم الام اوجاعها رافضة تداعيات ذاكرتها وإيقاظ ماسكن النفس ونام. الغاية من هذا هو إضفاء أبعادا أخرى منها الخوف من القادم وما ينتظر ابنها من الآخرين فإن ماحل بزوجها وابنها يدعها ترفض الاستذكار بقوة خوفا من الموت، وهذه لعبة محنكة أراد بها النص يتلاعب بنا بين محورين وقطبين مهمين، قطب يراهن على الحياة بمكان آخر هو الابن، وقطب يراهن على الحياة لما تبقى من ذكريات يعيش عليها وهي الأم معادلتين سنمضي معهما لأخر النص لنعرف يقينا سر اللعبة.
الابن: اسمعي هذە تفاصيل اخطائنا ورأينا النتيجة والعقوبة (يشير الی الزاوية التي يرقد فيها اخاه الجريح) اسمعي الی تلك التنهدات:
يحملنا النص هنا الى ثنايا ملموسة أحداثها بين يدينا نحسها نعيشها نترقبها نتألمها نحزن ونبكي منها وإليها:
الشخص1 (من الزاوية): ذات ليلة أتی شبح من بین ملایین من الاصوات المضجرة من اقليم النار، وذهب الی سفح الجبل وبکی امام فصل عودة المطر..تصوري.. بکی.
الشخص 2 (فتاة): عندما قررت العشيرة هدر دمي احتسوا نخب الفرح علی جبين موجة مجنونة بللتهم من حسرتها.
الشخص 3: اشتکیت.. انا الذي اشتکی امام وقار وردة بيضاء. اشتکیت ذالک الأنين الذي یطرد النوم من اجفاني ساعة السحر. انا من اشتکی وقلت هناک شجرة انتحرت حرقا ولم تسمح لدموع تلک الغيمة اخماد نارها.
بوحٌأدركه النص بواقعية دقيقة وحرفية اجتماعية استلهابعناية لتصبح حالات إسنادية يرتكز عليها النص شاهداومنصفا، يحوم لإظهار الدلالة النصية بتحول بنائي من حركة ذكية تلاعب بها الكاتب ليحيلنا إلى وقائع ادانة اجتماعية صغيرة من جهة ولكنها كبيرة في بناءهاالدرامي التحولي للنص.بعرضهحوارات على لسان الشخصيات وهي تدين مجتمع وطن بأكمله بشفرات تكاد تكون مختلفة على لسان الشخصيات تحمل ثيمة دلالية كبرى اضفى عليها ثراءً باختزالية مقنعة، محمولة بهم الذات للذات الاخر وباختراق الفكر والادراك لواقع معاش وملموس.
الابن: عشقتك حزينا.. لا يزال هناک طبع اصابعك علی جرح في قلبي (يترك تلك البقعة ويذهب الیاخریویتحدث) واخبرا بشفاه متشققة وقفت امامها وهمست: قبلیني، وقفت وراء جدار کل الحراس الحقراء وهمست لها: قبلیني، احضنیني بقوة، لا يبدو اننا سنری بعضنا مرة اخری، یبدواانە اللقاء الأخير ویجب ان نترک بعضنا. (یذهبالی بقعة اخری) همست قبلني، صرخت قبليني، قالت احضني، وصرخت احضنيني بقوة، همست وصرخت بهدوء.. وبقوة، صرخت انا، وهمست هی، صرخت، وهمست انا، ناديت وهمست، انا صرخت، وهمست هي.. صرخت وهمست، انها همست وانا اصرخ (یستمر علی هذا الی ان یسقط باكيا).
خلق النص موجة ايقاعية جديدة وهو يميز بمستوى صوتي يطغى عليه الانخفاض والعلو على وفق بنية تكرارية بتركيبة اطراديه (همست وصرخت)، (صرخت وهمست) توازي تصاعدي على وفق بنية نسقية تكرارية لضمير غائب (هي)؟ الأرض الوطن الحبيبة الأم مقاصد وضعها الكاتب ببنية حسية على وفق وصف فضائي لجو المسرح انتقالي بين بقعة وأخرى، يحيلنا بدوره إلى أزمنة وأماكن متعددة ظلت في ذاكرتنا، استنهاضا للوجدان الداخلي حتى يصل ذروة السقوط، والخروج من هذا الفضاء ثم يحيلنا إلى حوارآخر على وفق نسقية مختلفة تماما في نسق اسنادي يشير ثميبرر له الكاتب بما أشار إليه انفا.
( بعد وهلة من التألم يبدا الاخوة و الاخوات بالهمس هذا ما يجعل الابن یتحرک مع کل همسة و يحاول النهوض)
الشخص 1(يهمس): تعال انظر الی لعب الطفولة.
الشخص 2(يهمس): انظر كيف جعل الثلج ملامحي بيضاء
الشخص ٣(يهمس): حشود في الطريق. تأتي وتبيد كل شيء.
الشخص ٤(يهمس): قم لا تجلس وسط الطريق كأنك تستجدي الشفقة.
الشخص 5(يهمس): لا تقف هكذا.. اذهب سوف لا تنتظرك الحیاة أكثر من ذلک.
هنا استرجاع لعالم الواقع المرير على وفق مقتطفات حياتية على لسان الشخصيات اقتطفها الكاتب كي يرجع بنا بشريط ذكريات، مثل شريط سينمائي اختار لقطاته المختلفة من زوايا الحياة المختلفة كي يضع بنا الرحال لواقع النص الان وهنا.
الابن: هات یدک.. اتركي تلک الحسرات والشجن، کفاک ولعا بالبكاء لنذهب معا.. اترکي اشتياق الطرقات والدرابین والبيوت والمداخل القديمة، دوسي علی صدر دفاتر ذكريات الطفولة وهات يدك لنذهب. ماذا نترک انا وانت، عنوان رجل مات غريبا وحفنة من لآلئ الذکریات، لقد فقد الاثنان معانيهما.. هات یدک لنذهب، لا وجود للغد هنا.
نشعر هنا بالهدوء والاستقرار وثبات بالموقف ومضي بطريق آخر يعدو بهما إلى الضفة الأخرى مخلفا تضاد كونيا بما سيكون (ماذا نترك انا وانت عنوان رجل مات غريبا وحفنة من لالئ الذكريات) مرثية بإيقاع وأسلوب درامي بقدرية الحياة، فيها نظرة تجلي عميقة للفقد وهو يكشفها بوصفها بقايا ذكريات خلفها الوطنبعيدا عن الانسان، طرق موحش عارية من الحب والانتماء في مشهد انقلابي عبر به النص عن حال وطن يعيش فيه محبين عاشقين له وطن يبيع أبنائه تصويرية مؤلمة بأسى للروح والنفس.
الام : في بیتي الموحش لم اکنافکر بالغد ابدا ، کنت امد یدي لقاموس الخیال و استجدي شيئا من الفرح .مزیج من احلام الصبا و افکار العمر . عندما یقترب المرء من الموت یداهمە احساس العجز .
خلق للتضاد هنا بحوار حسي شعري هي مفارقة أخرى تجمع الطرفين بين الانتماء والا انتماء مجانسة بين جيلين أحدهم عاش الذكريات وجيل آخر يبني ذكرياته معادلة نبض للواقع، بمواقف مغايرة صاغها المؤلف بتصادمية حميمية لحب وطن واحد.
الابن: لنرحل لا شيء یبعث الحياة بقدر الخيال.یحرک فيي احساس الحیویة. حینها ابني لنفسي عالما مليئا بالمحبة والعشق وهكذا أصبح ملكا لا يضاهيني احدا.
فضاء اخر لأحلاملا تنتهي وهي تتوغل لتبني آفاق الذات المحتشدة بالهم والتضارب ببناء حياة أخرى بمقاييس وابعاد مختلفة على ما هو عليه واقع الشخصية فهي تصنع لنفسها برجا عاجيا على وفق أحلام تدور وتحوم بخيال محتدم بالطموح لحياة أخرى.
الام: ليس بعد.. لا یمکن ان نترك جزءا منا هنا. أتعرف ان الذين يصبحون اصدقاء موت مبهم يبقون احياء. ظل ارواحهم يجوب غرف وباحة ومخازن البيوت. يبدو لك هذا كبداية حكاية قديمة ولكنه بمثابة سكوني.
يبدو الحوار هنا عبارة عن لملمة بقايا الذكريات المتشظية بفعل القدر المحتوم على جملة أرواح أعطت وضحت من أجل إيمانها بقضية وطن هي أن الام مازالت تلاحق صور ذكريات تمسكت بها وعاشت مع أرواح تراها بمخيلتها التي لا تموت تحوم بأماكن زوايا الوطن التي تعبر عنها بانها لا تستهويأحد حتى ولدها فقط هي من تراها تتجدد امامها. وبعد حوار متقطع في بناء سردي درامي بين الأم والابن يحدث تحول بمفارقة النص بتوليفة حوارية بين الام والابن تكرار قصدي وبتوليفة صورية استرجاعية.
(يسمع صوت سيارة النفايات تأتي وترمي أشياء اخری علی الخشبة الام والابن يبحثان بین الاشیاء ويتحدثان تأتي المجموعة لتبحث أيضا).
نسق فكري من تشبيه واستعارة للسلطة عليا وهي تتنفذ بمقدرات الوطن وابنائه، جاءت الصورة ضاجه بالرمزية الايحائية لاستخلاص ما يريد أن يقوله الكاتب بحركة مهارية قذف بها النص مرة أخرى.
الام: سنتجمد في البرد نموت.
الابن: وهنا سوف نجن من القهر.
الام: ستخنقنا الجدران العالية.
الابن: أفضل من هذا البلد الذي لیسلە اسوار.
الام: تعودت عيناي علی أشجار هذا البلد.
الابن: تعرفينهم من بعد، سترین أجمل منها هناک.
نجد النص هنا يقرا مقاييس الحب والاحساس بالانتماء بإيقاع منضبط يقارن به بمرآة معكوسة لملامح الأماكن والانتماء من خلال شبكة من الأفعال الحسية الاستطرادية،وباستهلال حياه اخرى بديلة التي تتنصل منها الام بسؤال الابنوجوابها على وفق بناء مكتمل تبعا لنسقية الحوار وما جاء.
الام: یا بني اكثرنا صاعدين قطار الموت نحو محطات القبور وان بعضا منا ینزل منە قبل ان یصل ویمکث لوهلة في مفترق الحياة والموت. ما أخافه إن في تلك الجنة في منفانا الاختياري يصبح الموت حلما صعب المنال .
الابن : ماذا يوجد هنا؟ كل يوم اريد ان اعود الی الاماكن التي خبئت فيها ذكريات ايام مضت. ورود، عطور، ودفاتر الصبا، قطع من نجوم کلمات العشق. ولکن هذە الخرابة تظللني، نسيت معظم خرائط الاماكن، رباه الی این اخطو خطوتي؟! لقد علقت فی وسط لايملك غیر الظلال حتی یهبني ایاه.
يعتمد النص هنا على كسر النمطية الامتدادية من خلال الاسترجاعات التي تصيب الذهان ليقدم لنا مفارقة عبثية مفقودة عن ذات الشخصية بالبحث عن خرائط الاماكن التي فقدت.. وقد عرض الكاتب هنا مجازا سرديا حاضنا للرؤى فاقدا للاستقرار النفسي والروحي والحسي على وفق تصاعدية بنائية للحكي والبوح الذي ينم عن مرونة الزمان والمكان، وهي تلتبس بمعاني الحياه في ظل سطوة اليأس والخذلان، فضاء سرديا ادخلنا به النص ليلوح لنا بدلالات غادرت مألوفيتهالينشيء بدلها تكوين فضاء للاسى والالم واللاجدوى المتغلغلة بالاعماق.
الام : ولکن ماذا عن هذا الوطن ؟
الابن :اي وطن ؟ كفاك سذاجة.. لقد هتكوا عرض الشوارع، اغرقوا المدينة بالدم اثر صرختان. هتكوا شرف الحریة ولازالوا یتحدثون باسمها، انها ازمة وطن يا امي.. ما نعيشها الان ليست الا ازمة وطن.
لعل الواقعية التي يزخر بها النص لوطن ضائع فاقد للامان لايحتضن أبناءه إدانة للمتسلطين عليه أصحاب القرار في ظل الانتهاك والسلب،وللانسانية وللمجهول الذي ينتظر أبناء الوطن، للخضوع والخنوع الذي لف إرادة الشخصية العراقية؛ لتصبح سلبية متخاذلة فاقدة للقرار بتلاعيب الواقع الذي فرّ بنا بعيدا كي ندرك الذات وهو يخاطب الانا (مانعيشه الان ازمة وطن) والعجز عنإيجاد حلول ومواجهة الطغاة كان لابدّ من الهروب ليتخطى الخوف والانهيار وانتشال ماتبقى، فيكون معادلا موضوعيا لما هو مبثوث في جسد النص من منظور بعيد عن المستقبل والرهان عليه.
الام: انهم بهذا یحمون حلم جیل .
بدت الصورة مختلفة على لسان الام لما يجري من أحداث المظاهرات وهي تتوسل ابنها بعجز لمواجهة قناعة امتدت وتسربت داخل النفس تتخطى برؤيتها لعراق اخر أكثر شفافية متأملة القادم لجيل كاسرا للخوف مواجها للظلم بصناعة تأملية وبمحاكاة ملتحمة بالواقع.
الابن: اي جیل؟! الذین ردوا علی هتافاتهم واحجارهم بالرصاص. اماه.. لقد ملیء تاریخ هؤلاء بالغدر والطغيان. لیسوا کما کانوا من قبل..لا تعيشي کزوجک الحالم..اترکیهم..
بدأ الابن يضع كشافاته الواضحة في الإرادة للرحيل والتذكير بما جرى قبل هذا التاريخ من خلال تحولات ادراكية لحوارات تبدو كاشفة لسياق الفضاء الواقعي للأحداث، تشظي للروح الوطنية، ما استلزم وضع قرارات مصيرية يتحصن بها بدلائل واقعية (الذين ردوا على هتافاتهم واحجارهم بالرصاص) مواجهة بثها النص ليجعل منها معادلا موضوعيا ودلاليا للتعبير عن ماحل بالزوج.
الام: الحیاة هكذا..لا یبقی كل شيء کما کان. من المحتمل أن الظروف تتطلب هذا..لا يمكن ان يتركوا الوطن بيد مجموعة من الأطفال.
ولعل مبتغى الام للملمة روح الابن المتشظية بصيغة (مجموعة من الأطفال) يفضي الى منح الطمأنينة والمبالغة بالوصف في إعادة تمزيق أشلاء الوطن تبدو هذه المشابهة تفوق ما يفكر به الابن وتصديقه لما يحدث في صناعة تغيير لوطن حل به الدمار والإرهاب والقتل.
الابن :ولکنهیترکبید قاتلي الأطفال .
يبدو التمرد في صناعة الإقناع يصعب على الأم وهي أمام حقيقة تلاحقهم تفوق الواقع،والوطن بيد قاتلي الأطفال وحشية بمنظور اخر وهو يرى الوطن امامه يتمزق تحت طائلة أصحاب القرار بحقيقة ما يجري علامة تجعل المعادل الموضوعي للواقع والحلم للخروج والافلات من ماهو واقع بزمن المتخيل المنفلت للابن.
الام: لدینا أعداء کثر؛ لذا يجب ان نبقى قلب واحد وید واحدة.
تجسد هنا حوار الحكمةبإعطاء صورة أخرى للتي رسمت بمخيال الابن استطرادا للذات وهي تبدو راويّة عارفة في أصول الحكي توثق وتدين ذلك الانشقاق والتمزق الذي لحق بالوطن.
الابن: لقد ولی زمن تلک الأناشيد یا امي. من یفکر بذلك لعل في اغنية غريبة او في مأتم يأتي احد او التفاتة.
لو اتجهنا بتجاه نفسي لوجدنا حجم الأسى الذي يعتصر الروح بما حلّ بوصف مرير لأنموذج تحترق فيه الذات وتلتهب للواقع المرير، وواقع نفسي محطم في ضمن سياق بنائي استرجاعي لذاكرة الوطن.
الأم: أنا سأبقیهنا.. وأنت اذهب وابحث عن عشقك الذي خسرته.
(یذهب الابن حزینا، الام تبحث بین الاشیاء وتغني بهدوء، یذهب الابن الی المرتفع في
عمق المسرح ویقف في بقعة ضوء ویتحدث مع الصورة التي معه).
الابن: اعرف فصولا من الحب البكاء فيها لا يكون سوی فرحا.. أضيئ نافذتك والبسي قلادة
العاشقة الجريئة وتعالي لنرحل معا.
تضعنا تركيبة الذات بين دلالتي الوجود والعدم فاختيار البقاءهنا، يمنحنا بعدا تداوليابوصفه مهيمنا حسيا يطغى على علاقة الأم بابنها بتشكيل بنائي ثّر،إن انسلاخ الروح من إطارها الأمومي إلى فضاء انساني اكبر واشمل وابعد غورا هو حب الأرض الوطن التي تربت بها وليبحث هو عن ظالتهوعشقه المفقود،كلها مثيرات خالقةلدلالات كبيرة تبتعد عن دوالها بمسافات وصورة بلاغية صيغت بسياق وصناعة حرفية، مرارة الفقد التي عاشها الابن طويلا (أضيئ نافذتك والبسي قلادة العاشقة الجريئة وتعالي لنرحل معا).دبيب الفقد والحرمان زمان قاسي، وحطام نفس وبوح ودعوة للهروب والرحيل صوت متوسلا بمغادرة الخراب بلحظة توقف للزمن ليعيد حساباته برحلة جديدة يصنعها بعيدا بصوت خطابه الى الام في الرحيل. يقتطعه مشهد الفتاه وهي تنزل من نافذة الامل التي نسجها هو بخياله المعهود وهي حاملة قطعة القماش نفسها التي بدأ بها الكاتب الولادة في بداية نصه متحولا بذلك لاستعارة ورمزية أخرى تأخذ دورها في اثناء الحدث. الترقب بنزول أمله المعهود نبض خافق الحبيبة تقترب من تحقيق الحلم الضائع من خلال ضوء لايت يكشف به الابن الحقيقة المظلمة وسط ظلام الخشبة كما وصفها الكاتب.
الابن : لا لست حبيبتي. لا.
الفتاة : عن من تبحث؟ انا هنا !
الابن : ولكنك لست حبيبتي .. انا ابحث عن فتاة ليست انت .
الفتاة : بل انا ام ، انك تريد ان تتركني و تهرب.
الابن : ا تريدين خداعي ؟!لما لا ! انه زمن عجیب ،یغیرون ملامح حبيباتنا أيضا وما علینا الا السكوت .و ان حاولت ان تعاند سوف يختاروا لک من تحب و یجب ان ترضی .
الفتاة : هل هي اجمل مني ؟
الابن : لیست العلة كما تقولين .انا اعشق نوعا اخر من الجمال و لست انت کذلک .
الفتاة : انا هنا لسبب اخر ( تقوم و تبتعد)
الابن: ماذا تریدین ؟
الفتاة : جائعة.
الابن : ( یضحک بصوت عال . یقف و یبدا الضحك من جدید . تنظر اليه الفتاة مستغربة و غاضبة. بعد وهلة يتوقف
الابن من الضحك) لا تستغربي! ا ماتقولينه قديم جدا.
الفتاة : هل تقصد بان الجوع قديم ام ماذا ؟
إن صراع الابن مع الامل المتمثل بحبيبته المرتقبة بجدلية حوارية تنقلنا لعالم مشوه مليءبالخداع، بقي على أمله وهو يترقب.يضعنا الكاتب امام انزياحية دلالية بتلميع وكشف ما كان مغبرا من حقائق راهنة تحدث معنا كل يوم،بصورة بلاغية مترفة بالسرد الحكائي الوصفي لحالنا المتعبة المرهقة، بهستيريا الضحك، وهو يواجه حقيقة وبشاعة الواقع المرير بحبيبته المزيفة، دلالات عميقة تقترب جدا من واقعيتها المعاشة في زمن مزيف متعدد الألوان والاشكال بطلب الحق وشحذ رمق الحياه من الآخرين بأدنى وارذل الطرق كي نعيش، يوضح الكاتب هنا مدى سخفورذالة الاخر وهو يسيطر على خبزة الحياة رمق الحياة وهو يعتصر طهارة الذات بكل مسمياتها واشكالها ليبين خسة وذل العيش بزمن الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي وحتى الديني…والجوع مفردة لها ابعادها وثقلهافهي من تدفع الانسان نحو شواطئ ارتكاب الخطيئة، واتباع طرق الحرام،كشف الكاتب الغطاء عن الأسباب والدلائل لكل مايحدث للمجتمعات نتيجة ما يرتكبه رؤوس الدولة العليا من دمار وفساد بالوطن؛لذلك ترتفع الدلالة الواقعية إلى أبعاد وجزئيات استعارية من صلب واقعيتها المألوفة لتتجلى بقيادتنا لكشف الحقائق بطعم واقعي مدهش.
الابن :اذن انا وحید سوف ارحل وحیدا نحو تلکاللیالي التي غادرها القمر .. لیالی لا تکتب باي کتاب من کتبالتاریخ..اذهب مثل برکان خافت قدیم..خافت نحو ظلمة ليل لايعرف فيها احدا منّا. هناکساناديکلرسائلالشوق و الموت من اجل بعضنا البعض و دموع الاشتیاقحتی نبحث عنک معا.
(تظهر الشخصيات من جدیدیحملونحقیبة سفر واحدة ، تذهب من ید احدهم الی اخر و یندمجون مع حالة الابن)
الشخص 1 :في ملامح المارة ..
الشخص 2 :في ضفاف الانهار هناك ..
الشخص 3: في المقاهي المضیئة..
الشخص ٤: في كل الاماكن التي لست فيها .
الشخص 5 :يبحث عنك …يبحث عنک …
(یاخذ الابن حقیبة السفر و یذهبالی الام )
إن التكرار لدور المجموعة رفد النص بزخرفة درامية اسنادية تدور في ضمن الفضاء التشخيصي للتجسيد، لتلوح وتعبر عن مدى القهر والاستلاب والاذلال من خلال الحقيبة التي ترتحل بين افراد المجموعة وكأن البلاء متناول من جيل لاخر لامحال.هذه الانفتاحة الدلالية يصنعها الكاتب وبقوة ان ترحل هذه الحقيبة عبر تاريخ ومستقبل آت لبدايات اخرى، صورسردية متزاحمة يضعنا بها الكاتب بتأويلية يصطادها من لب وصميم حياتنا بمهارة وبراعة تصويرية في ضمن نسق سردي درامي متخيل للحدث مرأه مراوغة يضعها ليعكس بها الحقائق في ضمن اسلوبية متفردة تنثر رؤيا متجددة عابرة المستقبل، بتوظيف بلاغي للمفردات منحها من الفيض الدلالي لصورا مرئية تخيلية بصناعة علاماتية تربط بين أجزائها جسور الصورة المتخيلة للمتلقي ومنحها الدرجة العالية من الوضوح في ضمن شريط سينمائي يغلب عليه الضوء الذي يحرك شريط الحياة بكل لقطاته المؤلمة.
الام : تعبت و لااستطيع .
الابن : اماه اعرف ما عانيتي ..لم يبق امامنا الا تلك الهضبة . حاولي ان تجمعي قدرا من النفس لها.. بمجرد عبورنا نحو
ذلک الميناء سترین الجنة بعینیک . اماه غدا عندما اکبر سأجعل من مقاماتك اضرحة لتاتي الناس لزيارتها من کل
ارجاء المعمورة.. تحملي عبءهذا الطريق لم یبقیالکثیر..تحملي اماه و تعالي معنا .
(تتعب الام و تسقط .. تجتمع الشخصيات حولها و يلفونها بالقماش الابيض و يضعون جثتها علی المنصة التي كانت عليها في بداية العرض و یقفون حولها..یبدا المطر بالهطول …)
الابن :في افق بعيد ما بين الارض و السماء يرقص المطر بملابس من الفضة ، رقصا يبعث النشوة في أعماق القلب.. انظري يا اماه.. ما أجمل الحياة ما وراء ضباب الحسرة.. افتحي عينيك وانظري.. انظري يا اماه ….
إن التضاد بين الرحيل والبقاء ثنائية لعبها بذكاء مترف بالتأمل والخيال،الاحساس جذور امتدت بالأرض واقلاعها يعني موتها، هذاالترميز عبر بنائية الإصرار الروحي بين الأم والابن مع ايقاعية الهروب والبقاء تخلق توازيا ياخذنا الى اصرار الابن بالرحيل ( اماه اعرف ما عانيتي) ( ذلك الميناء) ( تحملي عبء هذا الطريق)،وغيره من الاصرار على الرحيل عبر ايقاع زمني سريع في ضمن مشهدية سينمائية تاخذنا من أعلى المسرح وكأنها تتوجه بنا للمجهول ببقعة ضوء مسلطة بمحدودية قصدية في زاوية مهمة لتمهد للقطة الختام في ضمن ثنائية الاصراروالخذلان ، البطء والسرعة، الانكسار الشموخ… هذا كله يضعنا به الكاتب ويجبرنا على ان نكون بالطريق نفسها وكاننا معهم بكل هذه الثنائيات،والبحث عن الخلاص باستبدال وطن اخر بظل آخر يمنحنا فسحة الحياة، وبين دلالة الايقاع والحدث المشترك تحدث المفاجأة، فموت الام الخلاص الوحيد الذي يدلنا ويأخذ بيدنا الى الضفة الأخرى، الظل الذي كنا نسعى اليه مونتاجا سينمائيا بصناعة حرفية للقطة الفضاء الدرامي بين حضور الأمل بكل مباهجه والتطلّع إليه، وموت هذا الامل الظل بموت الام، ولفها بقماش الامل قماش الولادة التي بدأ به الكاتب نصه لينهيه بكفن وهطول مطر لأمل ظل اخر مازلنا نبحث عنه وسنستمر بضوء الأفق الذي كان ختامه ممهورا بضوء الحياة وضوء الوطن الموعود. خاتمة النص بدت مزخرفة بلون الموت وعودة الحياة بالامل،مع مجازات مغرقة بالواقع المريرضمن نهايات علاماتية ترصدت محطات حياة الوطن بإشارةإلى ظل وطن آخر يبعث من جديد.
الدكتورة منتهى طارق المهناوي