أثر مسرح المقهورين على منتج العرض وجمهوره/ عمار نعمه جابر
( تجربة جماعة الناصرية للتمثيل أنموذجا )
إن الوعي الفني الذي يحرك تجربة فرقة مسرحية عريقة، مثل جماعة الناصرية للتمثيل، هو الذي قادها للتحرك باتجاه تبني تجربة مسرحية عالمية حديثة، مثل تجربة مسرح المقهورين. فالتوقيت الذي تم اختياره لتبني مثل هكذا شكل مسرحي، والظروف التي يتحرك فيها المجتمع العراقي، هما قاعدتان اساسيتان في اختيار مسرح يتقاطع مع المسرح الآخر بمميزات وآليات، كان رأي جماعة الناصرية أنها ادوات وآليات تشارك في بناء حالة من الأثر والتأثير، يتعامل معها بشكل متبادل كل من منتج العرض، من مخرج وممثلين. وجمهور العرض، والذي يكون عادة مستهلكا في العرض الآخر، لكنه في مثل هكذا عرض مسرحي تفاعلي، يكون جزء فاعل ومؤثر في مجريات ونتائج، وحتى افكار ومقررات العرض .
إن المسرح التفاعلي كما نفهمه هو ذلك المسرح الذي يمنح جمهوره السلطة الكافية للتدخل في حركة بناء أحداث وأفكار ونتائج العرض، من خلال المشاركة الفاعلة والمتفاعلة مع العرض، ليتحول من كيان مستهلك للعرض المسرحي، الى كيان فاعل في انتاج وتحريك وتغيير جسد العرض، والذي يفترض به ( اي العرض التفاعلي ) أن يكون غير مكتمل، أو مكتمل وقابل للتشكل بصور متعددة .
من هنا نفهم أننا أمام مسرح مختلف، وغير مطابق للمسرح المعروف لدينا، فالمسرح المعروف لدينا يمنح كامل السلطات لمنتجي العرض للتحكم بكل أفكار ومعطيات العرض المسرحي، سالبا من المتلقي كل إمكانية له في التدخل المباشر أو غير المباشر في العرض. فالمتلقي يرضخ كليا لما يجري على الخشبة، من أحداث ووقائع وأفكار ونتائج، يكتفي بردود فعل صامتة وداخلية محاصرة تماما، لا يمنح فيها أية فرصة للتعبير عما يجول في خاطره، ولا حتى معرفة ما نتج داخل المتلقي، من قرارات تجاه ما شاهد وما سمع مما جرى على الخشبة .
مسرح المقهورين، مسرح يمنح الجمهور جزء من سلطة التحكم في العرض، فهو مشارك فاعل في كل مجريات العرض المسرحي، مع منتج العرض الاول، ففي مسرح المقهورين هناك منتجان للعرض، المنتج الاول والذي اختار الموضوعة التي يجب ان تطرح في العرض، واختار مكان العرض، هو من يوجه الدعوة للمنتج الثاني. والمنتج الثاني فيمثله عدد غير محدد من الجمهور ، والذي يكون عادة، متنوع في المستويات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، يتعرف في البدء على نوع الموضوع الذي طرحه منتج العرض الاول، ليكون بعدها مباشرة منتجا ثانيا لهذا العرض. وهو المنتج المتأثر والمؤثر، والمنتج الاكثر قدرة على بناء هذا النوع من المسرح .
إن الجمهور في مسرح المقهورين يمثل حلقة انتاج حقيقية، وغير وهمية، كونه يعيد انتاج العرض وفق رؤاه الخاصة، وموقفه تجاه ما يجري على الخشبة. فهو (اي الجمهور ) يعيد كتابة أحداث النص، في بناء جديد يختلف عن بناء نص المؤلف، ثم بعد ذلك، يقوم بالتدخل في بناء المشهد المسرحي، كمخرج آخر للعرض، ولا يكتفي بذلك، بل يصعد على خشبة المسرح، ليقوم بتجسيد ادوار شخصيات مسرحية يقترحها، او يغير فيها، ليكون مؤدي جديد ومقترح يضاف للعرض الجديد، ليصل به الى صورة العرض الذي يتخيلها هذا المنتج الثاني .
إذن ، نحن هنا قبالة عرض مسرحي، يشكل قائماه الاساسيان، كل من ، كادر العرض ، وجمهور العرض ، حيث يعملان معا من أجل تحويل العرض المسرحي الى مطارحات متناوبة ، الغرض منها النقاش والحديث ، وبصوت عال لما يجول في رأسيهما ، حول الموضوع الذي تم اختياره ، وبالتالي يدفعان نفسيهما للتعامل مع مختلف المشاكل التي تواجههما ، بالبحث والتحليل والاستنتاج ، وبطرق مختلفة للوصول الى الحلول المناسبة . وأيضا كسر حالة الجمود النفسي في قبول الرأي الآخر ، أو القبول والتعامل مع الحلول الأخرى . ومن المنافع الحقيقية في هكذا نشاط مسرحي هو إمكانية فتح أفاق الخيال ، وتنشيط المخيلة لتعددية الحلول المقترحة ، والتي قد تواجه كادر العرض أو جمهور العرض .
لقد كان الإعداد لهذه التجربة يتطلب من جماعة الناصرية للتمثيل القيام بخطوات استباقية ، تتمثل بإعداد كوادر تتبنى هكذا نهج مسرحي ، فتم الاتفاق على انجاز ورشة مسرحية ، تفتح فيها الجماعة ابوابها لاستقبال كوادر جديدة تعي دور وماهية هذه التجربة ، وفعلا تحققت ورشة الدكتور ياسر البراك في نهاية شهر آب 2016 ، وحملت عنوان ( تقنيات الممثل في مسرح المقهورين ) حيث عملت على تدريب أكثر من خمسة وعشرين متدربا ، خرجوا في نهاية الورشة بعرض مسرحي ضمن اطروحة مسرح المقهورين وهو مسرحية (ورطة ) وهي عن نص (الفيل ياملك الزمان ) للكاتب السوري سعد الله ونوس واخراج الدكتور ياسر البراك . وبعد العرض قام الشباب المقهورين ومعهم كادر من ممثلي جماعة الناصرية بتقديم عرض ثاني وهو مسرحية (مفتاح الفرج ) تأليف عمار نعمة جابر إخراج ياسر البراك ، في مكان عرض جديد من على كورنيش شاطئ الفرات في الناصرية ، بعد أن جاب كادر العرض شوارع المدينة بمظاهرة صامتة ، في بداية عام 2017 .
في تجربة مسرح المقهورين في جماعة الناصرية للتمثيل ، تحسس منتج العرض الاول ( كادر العرض ) أن مثل هكذا نوع من المسرح سيكون قادرا على فتح خطوط عريضة للتواصل مع الجمهور ، في حركة لإجتذاب الجمهور نحو الانشطة الفنية ، ويدفع بحالة من تذوق مساحات الجمال في الفن ، والعمل على تدريب الجمهور على آليات التفكير ، والبحث ، والتفاعل ، في تلك المواضيع الآنية والحساسة والمهمة ، والتي تحدث في حياة جمهور العرض . كذلك فإن هذا المسرح ( مسرح المقهورين ) سيخلق جيل مسرحي من مخرجين ومؤلفين وممثلين وتقنيين ، يمتلكون أدوات متعددة للتعامل مع الجمهور بشكل مباشر ، من خلال اختيار أماكن العرض في الشوارع والساحات والمقاهي ومواقف السيارت وغيرها . والتعامل مع نصوص مفتوحة النهايات ، تكون عادة مشتركة الحلول والنهايات ، متقبلين لرسوم متعددة لحركة الشخوص والأحداث . وكذلك تطوير آلية الارتجال لدى الممثلين من الكادر ، والممثلين من الجمهور ، حيث يفرض مسرح المقهورين عليهم أن يتمتعوا بموهبة كافية من قدرة الارتجال على خشبة المسرح ، لإقتراح أحداث وحوارات تفيدهم في بناء الشكل المقترح للعرض .
أما الجمهور والذي يمثل منتج العرض الثاني ، فيمكننا أن نلحظ درجة الأثر الذي سيتركه مثل هكذا مسرح ، يملك آليات وأدوات ، تتكأ على مدى تفاعله ، ومدى وعيه ، ومدى جاهزيته ، لغرض الخوض في مثل هكذا تجربة ، تستهدف الوعي فيه ، وتحاول أن تترك أثرها في حياته . نعم ، لقد كانت التجربتان التي قدمتهما جماعة الناصرية للتمثيل تحتاجان الى تكرار هكذا التجارب ، ومواصلة تقديم عروض مسرح المقهورين ، إلا أننا شاهدنا مدى الفهم المتطور عند الجمهور في العرضين ، حيث شارك بمستويات وصلت الى حد الغضب والصراخ في طرح الحلول وتناول المشكلة ، وخصوصا في العرض الثاني ، لمدى حساسية موضوعة التظاهرات ونتائجها في الشارع .
لقد كان الجمهور قادرا على التدخل المباشر في افكار واحداث العرض ، فراح يضيف ويحذف ويؤلف مشاهدا ، تمثل رأيه ومتبنياته الفكرية ، والتي عكست عن درجات الوعي والتفاعل المتفاوته ، ولكنها في النهاية حلقة يستفيد منها كل الجمهور الحاضر ، وقبلهما كادر العرض . لقد كان هناك دور بارز للمرأة في وضع حلول ، واقتراح مشاهد ونهايات في كلا العرضين ، بل لقد كان للطفولة دور في العرض ، وصعدوا الخشبة وتحدثوا بصوت مسموع .
لقد كان كسر طوق التردد والخجل لدى الجمهور ، من قبل جوكر العرضين (الدكتور ياسر البراك ) وضبطه لحركة التفاعل بين الجمهور وكادر العرض ، الاثر الكبير في مشاركة عدد كبير منهم في العرضين ، ارتقت في النهاية في فهم هذه التجربة وآلياتها والغايات المنشودة منها . ليشكل هكذا نوع من المسرح حالة متقدمة في تحريك الساكن في الساحة المسرحية ، والالتفات الى نمط مسرحي ثري بالمعطيات الايجابية لمنتجي العرض ، أسس له البرازيلي أوغستو بوال عام 1971 ، ليمتد لاكثر من سبعين بلدا ، حتما آن للمسرح العراقي أن يلتفت إليه كمسرح له تأثير سحري في الكادر المسرحي قبل الجمهور .
* الناصرية (10/10/2017)
عمار نعمه جابر/ كاتب ومؤلف