كتاب الخميس (الحلقة الثانية و العشرون)/ عرض و قراءة: المسرحي كريم الفحل الشرقاوي
اسم الكتاب : “التجريب في المسرح “
الكاتب: للدكتور سعيد الناجي
الناشر: مطبعة دار النشر المغربية الدار البيضاء / الطبعة الأولى 1998
إن فلسفة التجريب تستنزل بالضرورة المغامرة في الإبداع.. و التحرر من الإتباع .. و البينونة في الاختيارات .. و التعددية في الاتجاهات .. و الاختلاف في المعتقدات .. و الحوار بين الأضداد .. و اقتحام دائرة المنسي و الهامشي و المغلق .. و إطلاق سراح الأسئلة المسننة و المستكشفة و المتهتكة .. و استئصال أورام اليقيني و النمطي و المتكلس .. و دك قلاع و أسوار السائد و البائد و المحنط .. و اقتحام أقبية الأعراف التقليدية و السرية و الأبوية .. و تمزيق أحزمة المهجن و المدجن و المغلف .. و استنفار آليات الوعي النقدي و الضدي .. لهذا يظل فعل التجريب سؤالا مسلولا في وجه المسلم به و اللامفكر فيه .. و رؤية كاشفة عن عورات المجهول و المدفون و الملفوف .
التجريب بين المسرح الغربي و العربي :
في كتابه ” التجريب بين المسرح الغربي و المسرح العربي ” يربط الباحث سعيد الناجي انبلاج إرهاصات التجريب في المسرح الغربي أساسا بالطفرات العلمية و التحولات السوسيوثقافية التي كانت تقودها الطبقة البرجوازية في أوروبا منذ منتصف القرن 19 . الأمر الذي ساهم في نمو وعي تاريخي مغاير لدى هذه الطبقة في علاقتها بأشكال و أنماط الإنتاج الثقافي عموما . زكتها حفريات المنهج التجريبي المختبري و ما أحدثه من هزات و ارتجاجات خصوصا بعد تسربه إلى العلوم الإنسانية ما مهد لظهور انعطافات مسرحية متجددة زكتها عدة عوامل :
ـ بروز سلطة المخرج / مؤلف العرض المسرحي و السيد الجديد للمسرح المعاصر .
ـ ظهور السينما أضفى قيما ثقافية وجمالية جديدة . ما دفع بالمسرحيين في الغرب إلى البحث عن خصوصية الفرجة المسرحية .
ـ ثورات السينوغرافيا الحديثة و ما أحدثته من انقلاب جوهري في جماليات تأثيث الفضاء الركحي .
ـ ظهور الإضاءة الكهربائية و ما أحدثته من تأثير عميق غير معالم و أبعاد الفضاء المسرحي .
غير أن الباحث و من خلال مقاربته التحليلية اختار منهجيا مداهمة بوابة التجريب انطلاقا من الفضاء المسرحي كبؤرة لتأجج و اشتعال أطروحات التجريب في المسرح الغربي مؤكدا بأنه يبني تحليله ” لمفهوم التجريب على فرضية مفادها أنه اشتغال على الفضاء المسرحي و تثوير له في أفق خلق علاقة جديدة بين صانع الفرجة المسرحية و الجمهور ” (¹) . من هذا المنطلق يظهر جليا تبني الباحث لنفس تقسيم ” آن أبرسفيلد ” التي اعتبرت أن المسرح يتأرجح بين نمطين متباينين أحدهما مسرح العلبة و الثاني مسرح الشارع . و بالتالي يفصل منهجيا بين التجارب التي سعت إلى تغيير قوانين العلبة الإيطالية من داخلها و التجارب التي حاولت هدم جدران العلبة و اللجوء إلى فضاءات مفتوحة تتغيا التواصل و التلاقي مع المتلقي في مكامن تجمعاته وتجمهراته . حيث حاول أصحاب الاتجاه الأول الاعتماد على بلاغة لغة التفضية و دينامية التشكيل السينوغرافي و جماليات الإضاءة و الاحتفال بطقوسية جسد الممثل وإشراقاته الروحية و التخييلية .. فيما راهن أصحاب الاتجاه الثاني على الإنفلات من سلطة العلبة الإيطالية و هدم أسوارها و جدرانها و سجونها و اقتحام فضاءات مفتوحة كالساحات العمومية و الأسواق و الشوارع و الشواطئ و مواقع الآثار وغيرها .
وعند مقاربته للتجريب و الحداثة اعتبر الباحث أن الطفرات التي حققتها بعض الفرجات المستجدة في القرن الماضي و على رأسها السينما دفع بالتجريبيين في الغرب إلى البحث عن خصوصية الفرجة المسرحية لا في ما يميزها عن الآخر كما هو الشأن بالنسبة للمسرح العربي .. و إنما في ما يميزها عن باقي أنماط الفرجات الأخرى . ليتم بذلك التركيز على الممثل و المتلقي باعتبارهما قطبي أي عملية مسرحية صميمية . فكان الاحتفال بالجسد لدى كروتوفسكي و مسرح القسوة لدى أرطو و و المسرح الأنتروبولوجي لدى باربا و مسرح الموت لدى كانتور … ليبحث بذلك التجريب في المسرح الغربي عن حداثته عبر تنصله من سلطة القواعد الأرسطية و سلطة النص و سلطة الفضاء الواحد و سلطة اللغة الواحدة و سلطة الحقيقة الواحدة … ليصير العرض المسرحي التجريبي ممتلكا لوعي متعدد الرؤى .. متعدد اللغات .. متعدد الفضاءات .. متعدد النصوص … إن المسرح التجريبي باختصار هو الفاتح الأول لشهوة التعدد و الاختلاف في الثقافة الغربية .
وعند تناوله لأسئلة التجريب في المسرح العربي ذهب الباحث إلى أن المسرحيين العرب حاولوا البحث عن خصوصية و هوية المسرح العربي من خلال تجريب تأسيسي يراهن على تأصيل و تجذير الفرجة المسرحية في التربة الثقافية العربية . لينطلق مسرحنا العربي – حسب الباحث – انطلاقة متعثرة بحيث لم يتم البحث عن خصوصية المسرح العربي في ما يميزه كنوع ضمن أشكال و أنماط التداول الثقافي بقدر ما تم البحث فيما يميزه عن المسرح الغربي الذي هو عبارة عن مسارح متعددة الهويات .. متعددة التجارب و المشارب والتيارات و المرجعيات الفلسفية و الإستطيقية .
وهكذا نادت فئة بوجود مسرح عربي قديم .. بينما ذهبت فئة ثانية بأن المسرح العربي الحديث ارتبط وجوده بالمسرح الغربي .. فيما اختارت فئة ثالثة التموقع في المنزلة ما بين المنزلتين متشبثة بوجود أشكال فرجوية عربية ما قبل مسرحية . هذه الآراء المتجاذبة اعتبرها سعيد الناجي دليل على خضوع مسرحنا العربي لإكراهات الوعي الممزق بين الذات و الآخر .. ما أدى إلى ارتهان المسرح العربي بأربع سلط : سلطة المسرح الغربي و سلطة التراث و سلطة الإيديولوجيا وسلطة النص .
هامش :
(1): سعيد الناجي – التجريب بين المسرح الغربي و المسرح العربي – مطبعة دار النشر المغربية الدارالبيضاء – ص 30