مسرحية ( zone) لافتاتُ بوحٍ وتفاعلٍ حي/ بقلم: جبّار ونّاس

تبدو رسالةُ الفن ومنه ( المسرح) مائزةً حين تأخذُ لها من مفاعيل الضوء وهي تنضحُ بما لديها من روافد الأثر الناصع في أوساط المجتمع والحياة بإطارها الأعم والأشمل، فهي رسالةٌ تتاصلُ بأثرها عندما يحصلُ ما يقابلها من فهم وإختيار وإيمانٍ عميقٍ بأُطرِها النافعة من قبل المجتمع الذي ترسو بين أوساطه حدودُ تلك الرسالةِ وأهدافها الخاصة والعامة ويحصلُ لها تبنٍ وتلاقحٌ وفهمٌ يأخذُ له من مديات الإيمان الراسخ بجدوى تلك الرسالة ومحددات الفعل الذي ستؤولُ إليه مخرجاتُ ما تهدف إليه رسالةُ الفن، وهنا يتحققُ لنا ما نسميه ب ( الأثر الإيجابي) وبذا تبدو تلك الشروطُ الواجبُ توفرُها ناصعةً هي الأخرى حين يُصارُ إلى إختزالِ متبنياتِ ( الأثر الإيجابي) على أرض الواقع حين تُراهنُ على التداخلِ الفاعل مع أحداثٍ ومتغيراتٍ لها من حرارةِ الفعل ولهبِ النار الحارقةِ إذا ما قيستْ وفق ما يحدثُ في الشارعِ داخل العراق وبالذات في الوسط والجنوب منه، وهنا لنا أنْ نعودَ إلى سؤال الأثر والكيفية التي ستجعلُ من الفن مساهماً ومسلطاً بأوراقِ أضوائه على تلك المتغيرات اللاهبةِ والمقلقةِ حين يُنظَرُ إلى ماتركته وماتزالُ تتركه على جسدِ الإنسانِ داخل العراق؟
فهذا الجسدُ بدأ مضرجاً مدمىً بالهم والخذلان والتخلف الماحق والتأخير المرعب والإبتعادِ المخيف عن قيم الحضارة والتقدم في مضمار بناء الإنسان من حيث الوجود الآدمي والإنساني والتمتع بقيم التعايش الحر وفق متطلبات حقوق الإنسان ليكون ذلك الجسدُ ناصعاً هو الآخر حين يتباهى بروح إنسانه الذي يحتضنه في مجتمعٍ يطمحُ لأنْ ينالَ حقَه الشرعي والإنساني كما يحصلُ مع شعوب المعمورةِ الأخرى التي تحصنتْ بقيم العلمِ والحضارةِ وإحترامِ حقوق الإنسان فسارتْ تتقدمُ بإتجاه المستقبل المُشرقِ بعيداً عن مآلاتِ القهر الديني والمذهبي والعشائري والقبلي وإبعاد الآخر وتغليف معطيات الحياة بخرافات الماضي المقيت وإدعاء إمتلاك ناصية الحقيقة وإختزالها وفق حججٍ وبراهين تكادُ تتبددُ أمام ما يعيشه الإنسان في راهن لحظات ما وصلت إليه الحضارةُ الإنسانيةُ من العلم والتقدم..
وضمن هذا التوصيف يمكن أنْ نتداخلَ مع تفاصيل عرض مسرحية (zone) من تإليف وإخراج الفنان عمار سيف ومن إنتاج وتقديم إتحاد الأُدباء والكتاب في محافظة ذي قار والعرض قُدِمَ في مدينة الناصرية مركز المحافظة جنوب العراق بتاريخ 6/5/202‪1 وبالقرب من ساحة الحبوبي تلك الساحة التي كانت وما تزالُ قطبَ الرحى في إنتفاضة تشرين العراق201‪9
و(zone) تعني المنطقة الخطرة التي أراد منها المخرج عمار سيف أن تكون ساخنةً حين أصبحت محطةَ بوحٍ كبير ضمن عنوان مسرح الشارع ومن مقومات هذا المسرح أنَّه يعتمدُ الدخولَ في اللحظات الساخنة والأماكن التي تشهدُ أحداثاً َمتغيرات مؤثرةً وأيضا يعتمدُ على خطابٍ مباشرٍ موجهٍ ذي رسالةٍ هادفةٍ وكذلك يعتمدُ على إستمالة الوعي والعواطف الآنية التي ستحصلُ أثناء مجريات التواصل الحي مع العرض المسرحي المقدم فضلا عن إستمالة ممكنات المكان والزمان من أجل الوصول بفحوى الرسالة التي يروم العرض المسرحي طرحها.
ومع ما أفصح عنه متنُ العرض فإننا لانكاد نجدُ ما يجانبُ ما ورد أعلاه من توصيفات فمتن العرض عمل على تجديد أو تفعيل الذاكرة الجمعية حين ركز على أهم وأخطر مرحلة مرَّ ويمر بها ( العراق) فهذه المدينة ( الناصرية) وهي مدينةٌ منكوبةٌ بحاضرها فضلا عن غياب ملامح مستقبلها بعد أنْ عاشت الخذلان والحرمان والحيف السياسي والإجتماعي والإقتصادي وهي منكوبةٌ بتعريف سياسي وتشريع صادر من قبل السلطة التي تحكم وهي أيضا تلبس ثوب النكبة والحزن الذي يحزُ من القلب الإنساني الكثير وما تزال هذه المدينةُ تعملُ وتحمل شرارةَ الرفض لكل مقومات الطغيان والإستهتار بقيم الإنسان في هذا الوطن من قبل سلطة مارقة عملت بكل الوسائل القبيحة وكل ممكنات التنكيل والقتل العمد الذي شهدته ساحات التظاهر السلمي في مختلف مدن الوسط والجنوب منذ إندلاع إنتفاضة تشرين الأول 201‪9 ومايزال الجسدُ في العراق ينزف دماً وقد مرّ هذا النزفُ بمراحل متعددة وكلُّ مرحلة ستكون أشدَّ مرارةً من السابقة في الأثر والخسارة الفادحة في الأرواح.
ولعلَّ مدينةَ الناصرية تكادُ تتصدرُ المدن الأخرى بمقدار هذه الخسارات وما مجزرةُ جسر الزيتون التي حصلت في هذه المدينة بتاريخ 28/ 11/  إلا واحدةٌ من المشاهد المروعة التي إكلت 2019 من أجساد الشباب المنتفضين والذين سألت دماؤهم في الشوارع لا لشيء إلا لأنَّهم خرجوا ضد إبتلاع الوطن وإحتلاله من قبل سلطة وأحزاب عاثت فساداً و دماراً وخراباً في حاضر ومستقبل هذا البلد. وتبدو هذه المعطياتُ سانحةً لدى القاصي والداني ولكل مراقب لمسار ما حدث ويحدث من المتغيرات وما عمله الفنان عمار سيف أنَّه إستطاع أن يلم بهذه الأحداث والمتغيرات ويجعلها مادةً مقروءةً ومجسدةً على أرض الواقع فنياً بعد أن أعاد لها الإعتبار ويجعلها تدخلُ في التدوين الفني والجمالي فقد إستطاع أن يختزلَ من هذه الوقائع نصاً إعتمد في بنائه على إسلوب الطرح المباشر الذي يقترب من الخطاب الآني عبر ملفوظات حوارية نُفِذَتْ كمنلوجات إنفرادية لتشكل بمجملها اربعَ لافتات نطقت بها أفواه الممثلين الأربعة في ساحة العرض التي إختارها المخرج.
وقد إعتمد الأداء التمثيلي على طريقة التناوب والتعاقب فكل ممثل بدأ واضحاً يحملُ لافتةَ ما يريد ويبوح به من خلال جسده وصوته وتلك من المقومات الأساسية لمسرح الشارع فمنهم من بدا خريجاً يبحثُ عن فرصة عمل والثاني صار يبث بمشاعره الأصيلة إتجاه أمه التي تركها بعد أن إخترقت جسده رصاصات القناصة فوقع صريعا شهيدا والثالث يعملُ معالجا ومسعفا طبيا لم يَسْلَمْ من رصاصات الغدر والرابع يشكل خاتم الأدوار إذ هو يبوح بفائض الحب والمشاعر الصادقة نحو حبيبته في واحد من المشاهد التي تمخض بها متن العرض حين إنفرد الممثل ( محمد خريش) ليفصح عن اداءٍ مؤثر وحين راح يعبر بصوته في أداء كلمات أغنية عاطفية لها رسوخ في أذهان ومشاعر من حضر من الجمهور.
وتبدو هذه الطريقة التي إعتمدها المخرج عمار سيف هي السبيل الذي يتلاءم مع مكان العرض وطريقة حضور الجمهور والتفاعل الآني معه فقد جعل من فعل الأداء يدور داخل دائرة وبفعل فني أيضا فمع بداية العرض يدخل حامل الشريط ( أحمد ميثم) ويقوم بتدوير الشريط كحلقة تدور بداخلها أحداث وتفاصيل المشهد المسرحي وقد حظي حامل الشريط بحضور طاغٍ وطيلة مجريات العرض فهو بدورانه وكأننا مع ما سمي أثناء الإنتفاضة بالطرف الثالث والذي حصد أرواح المنتفضين في ساحات التظاهر فهذا الشريط يمثل الخيط الذي ساهم به هذا الطرف وكذلك شاهدنا هذا الشخص أيضا في شخصية ثانية وهي المراقب والشاهد على ما حدث من وقائع مروعة وفي دور ثالث له حين صار الناقل الإعلامي الذي إتضح دوره في نهاية حين حمل كاميرته ليقول للحاضرين والمشاهدين أنني الشاهد وإنني الذاكرة التي تحتفظ بميراث من أصاب ومن ساهم في قتل أبناء تشرين..
ورغم حالة الحزن الماحق التي خيمت على مجريات العرض وعلى من شاهدوا العرض إلا أنَّ روح الفن تبقى لها من اللمعان الأصيل للرد المقابل لحالة الحزن والثبور واليأس الذي تولد بعد مصرع هؤلاء الشباب الأربعة حين بزغت تلك الروح بخروج الطفل ( يوسف رؤوف) وبعد أن طاف ودار حول أجساد الشهداء الأربعة ليقف على مجموعة الخوذ التي شكلت الشاهد والذكرى ليستل من داخل الخوذ علم العراق في خطوة تؤكد على حالة الولادة المستمرة والأمل الذي لاينطفئ رغم حالة الموت المجاني بأرواح الشباب وكأنَّ بالمخرج وألمؤلف ينصتُ ويتواشج مع ما يقوله محمود درويش ( وبي أملٌ يمضي ويذهبُ لكن لن أُوَدِعَه)
نعم وهذه هي رسالة الفن التي تمثلها بعد أنْ أثثَ أمامنا منظومة عرض مسرحي نابض بجسد الممثل وطاقته التعبيرية وكذلك في إستثمار تواجد الجمهور وجعلهم مشاركين في بنية العرض حين راح كل ممثل من هؤلاء الأربعة يتفاعل ويستنطق ويستفهم ويرمي بالسؤال على الحاضرين وكذلك في إستثمار المؤثرات الموسيقية والغنائية من موسيقى عالمية حزينة ومسامع غنائية للفنان الراحل محمد جواد اموري وأيضا في إستثمار المسامع الحربية وصوت البنادق والقناصات وهو تنطلق صوب أجساد المتظاهرين الذين توزعوا منادين بوطن حر معافى سليم وعيش كريم كباقي أبناء البشر في المعمورة..
وبما أن مسرح الشارع وكما نوهنا سلفا فإنَّ رهانه الأول هو الممثل فلقد حظي هذا العرض بطاقة تمثيلية تنوعت في الاداء فهؤلاء الممثلون ( محمد خريش – حيدر عبدالرحيم الطيب – على مجيد – حسين رؤوف – أحمد ميثم – والطفل يوسف رؤوف) إستطاعوا أن يقتربوا من حالة الصدق في الاداء وان ينالوا من تفاعل حر ومباشر مع الجمهور الذي إحتضنهم فكان لهذا العرض أن يتسم بالتواشج الحي عبر المشاركة في المشاعر والذاكرة اليقظة..
ويمكن أن نؤشر للإضافة التي جاءت بها مجريات العرض والتي تمثلت بالأداء المميز للممثل ( حسين رؤوف) والذي قدم لنا حالة من الإنفعال المؤثر يضاف إلى أداء الممثلين الآخرين والذين تعرفنا عليهم في تجارب مسرحية سابقة تميزوا بها..
وتبقى الإشادةُ واجبةً لمن ساهم فاعلا ومكملا لمجريات العرض الأخرى لمنظم المسامع الموسيقية ( مروان كاظم الكعبي) ولمن ساهم في الإدارة المسرحية ( فاضل سيف) ولجهود إتحاد الأدباء والكتاب في محافظة ذي قار وهو يتبنى ويساهم في إنتاج هذه المسرحية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت